صفحة جزء
( يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم قالوا لا علم لنا إنك أنت علام [ ص: 48 ] الغيوب ) مناسبة هذه لما قبلها; أنه لما أخبر تعالى بالحكم في شاهدي الوصية ، وأمر بتقوى الله والسمع والطاعة ، ذكر بهذا اليوم المهول المخوف ، وهو يوم القيامة ، فجمع بذلك بين فضيحة الدنيا وعقوبة الآخرة لمن حرف الشهادة ، ولمن لم يتق الله ، ولم يسمع . وذكروا في نصب ( يوم ) وجوها أحدها : أنه منصوب بإضمار اذكروا ، والثاني : بإضمار احذروا ، والثالث : باتقوا ، والرابع : باسمعوا ، قاله الحوفي ، والخامس : بـ ( لا يهدي ) . قال قوم منهم الزمخشري وأبو البقاء ، قالا : لا يهديهم في ذلك اليوم طريق الجنة . قال أبو البقاء : أو لا يهديهم في ذلك اليوم إلى الحجة . والسادس : أجاز الزمخشري أن ينتصب على البدل من المنصوب في قوله ( واتقوا الله ) ، وهو بدل الاشتمال ، كأنه قيل : واتقوا الله يوم جمعه ، وفيه بعد لطول الفصل بالجملتين ، والسابع : أن ينتصب على الظرف ، والعامل فيه مؤخر ، تقديره : ( يوم يجمع الله الرسل ) كان كيت وكيت ، قاله الزمخشري . وقال ابن عطية في وصف الآية وبراعتها : إنما هو أن يكون هذا الكلام مستأنفا ، والعامل اذكروا ، واحذروا ، مما حسن اختصاره لعلم السامع والإشارة بهذا اليوم إلى يوم القيامة . وخص الرسل بالذكر; لأنهم قادة الخلق ، وفي ضمن جمعهم جمع الخلائق ، وهم المكلمون أولا انتهى . والذي نختاره غير ما ذكروا ، وهو أن يكون ( يوم ) معمولا لقوله ( قالوا لا علم لنا ) أي قال الرسل وقت جمعهم ، وقول الله لهم ( ماذا أجبتم ) ، وصار نظير ما قلناه في قوله ( وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل ) ، وسؤاله تعالى إياهم بقوله ماذا ( أجبتم ) سؤال توبيخ لأممهم; لتقوم الحجة عليهم ، ويبتدأ حسابهم ، كما سئلت الموؤدة; توبيخا لوائدها ، وتوقيفا له على سوء فعله ، وانتصاب ماذا أجبتم ، ولو أريد الجواب لقيل : بماذا أجبتم ، قاله الزمخشري ، وقيام ما الاستفهامية مقام المصدر جائز ، وكذلك ماذا إذا جعلتها كلها استفهاما . وأنشدوا على مجيء ما ذكر مصدرا قول الشاعر :


ماذا تعير ابنتي ربع عويلهما لا ترقدان ولا بؤسى لمن رقدا

وقال ابن عطية : معناه ماذا أجابت به الأمم . ولم يجعل ما مصدرا ، بل جعلها كناية عن الجواب ، وهو الشيء المجاب به ، لا للمصدر ، وهو الذي عنى الزمخشري بقوله : ولو أريد الجواب لقيل بماذا أجبتم . وقال الحوفي : ما للاستفهام ، وهو مبتدأ بمعنى الذي خبرها ، وأجبتم صلته ، والتقدير ماذا أجبتم به انتهى . وحذف هذا الضمير المجرور بالحرف ، يضعف ، لو قلت : جاءني الذي مررت ، تريد به كان ضعيفا ، إلا إن اعتقد أنه حذف حرف الجر أولا ، فانتصب الضمير ، ثم حذف منصوبا ، ولا يبعد . وقال أبو البقاء : ( ماذا ) في موضع نصب بأجبتم ، وحرف الجر محذوف; أي بماذا أجبتم ، وما وذا هنا بمنزلة اسم واحد . ويضعف أن يجعل ذا بمعنى الذي هنا; لأنه لا عائد هنا ، وحذف العائد مع حرف الجر ضعيف انتهى . وما ذكره أبو البقاء أضعف; لأنه لا ينقاس حذف حرف الجر ، إنما سمع ذلك في ألفاظ مخصوصة ، ونصوا على أنه لا يجوز زيدا مررت به ، تريد بزيد مررت ، ولا سرت البيت ، تريد إلى البيت ، إلا في ضرورة شعر ، نحو قول الشاعر :


تحن فتبدي ما بها من صبابة     وأخفي الذي لولا الأسى لقضاني

يريد لقضى علي ، فحذف علي ، وعدى الفعل إلى الضمير ، فنصبه ، ونفيهم العلم عنهم بقوله ( لا علم لنا ) . قال ابن عباس : معناه لا علم لنا إلا علما أنت أعلم به منا ، كأن المعنى لا علم لنا يكفي وينتهي إلى الغاية . وقال ابن جريج : معنى ( ماذا أجبتم ) ماذا عملوا بعدكم ، وماذا أحدثوا ، فلذلك قالوا : لا علم لنا ، ويؤيده ( إنك أنت علام الغيوب ) ، إلا أن لفظة ماذا أجبتم تنبو عن أن تشرح بقوله ماذا عملوا . وذكر المفسرون عن الحسن ومجاهد والسدي وسهل التستري ، أقوالا في تفسير قولهم ( لا علم لنا ) لا تناسب الرسل أضربت [ ص: 49 ] عن ذكرها صفحا . وقال الزمخشري : فإن قلت : كيف يقولون لا علم لنا ، وقد علموا ما أجيبوا ، قلت : يعلمون أن الغرض بالسؤال توبيخ أعدائهم ، فيكلون الأمر إلى علمه وإحاطته بما منوا به منهم ، وذلك أعظم على الكفرة ، وأفت في أعضادهم ، وأجلب لحسرتهم وسقوطهم في أيديهم ، إذا اجتمع عليهم توبيخ الله تعالى ، وتشكي أنبيائهم عليهم . ومثاله أن ينكت بعض الخوارج على السلطان خاصة من خواصه نكتة قد عرفها السلطان ، واطلع على كنهها ، وعزم على الانتصار له منه ، فيجمع بينهما ، ويقول له : ما فعل بك هذا الخارجي ، وهو عالم بما فعل به ، يريد توبيخه وتبكيته ، فيقول : أنت أعلم بما فعل بي; تفويضا للأمر إلى علم سلطانه ، واتكالا عليه ، وإظهارا لشكايته ، وتعظيما لما به انتهى . وليست الآية كهذا المثال الذي ذكره; لأن في الآية ( لا علم لنا ) وهذا نفي لسائر أفراد العلم عنهم بالنسبة إلى الإجابة . وفي المثال; أنت أعلم بما فعل بي ، وهذا لا ينفي العلم عنه ، غير أنه أثبت لسلطانه أنه أعلم بالخارجي منه . وقال ابن أبي الفضل في قول الزمخشري : ليس بالقوي; لأن السؤال إنما وقع عن كل الأمة ، وكل الأمة ما كانوا كافرين حتى يريد الرسول توبيخهم . وقيل : معناه علمنا ساقط مع علمك ومغمور به; لأنك علام الغيوب ، ومن علم الخفيات لم تخف عليه الظواهر التي منها إجابة الأمم لرسلهم ، فكأنه لا علم لنا إلا جنب علمك ، حكاه الزمخشري بهذا اللفظ . قال الزجاج : معناه مختصرا . وقال ابن عطية : قول ابن عباس أصوب; لأنه يترجح بالتسليم إلى الله تعالى ، ورد الأمر إليه ، إذ لا يعلمون إلا بما شوفهوا به مدة حياتهم ، وينقصهم ما في قلوب المشافهين من نفاق ، ونحوه ، وما كان بعدهم من أممهم ، والله تعالى يعلم جميع ذلك على التفصيل والكمال ، فرأوا التسليم له ، والخشوع لعلمه المحيط انتهى . وقيل : لا علم لنا بما كان بعدنا ، وإنما الحكم للخاتمة . قال الزمخشري : وكيف يخفى عليهم أمرهم ، وقد رأوهم سود الوجوه زرق العيون موبخين انتهى . وقال ابن أبي الفضل : الأصح ما اختاره ابن عباس ; أي تعلم ما أظهروا ، وما أضمروا ، ونحن ما نعلم إلا ما أظهروا ، فعلمك فيهم أنفذ من علمنا . فبهذا المعنى نفوا العلم عن أنفسهم; لأن علمهم عند الله كلا علم انتهى . فيكون مما نفيت فيه الحقيقة ظاهرا ، والمقصود نفي الكمال ، كأنه قال : لا علم لنا كامل ، تقول : لا رجل في الدار; أي كامل الرجولية في فوته ونفاذه . وقال أبو عبد الله الرازي : ثبت في علم الأصول; أن العلم غير ، والظن غير ، والحاصل عند كل أحد من الغير ، إنما هو الظن لا العلم ، ولذلك قال عليه السلام : " نحن نحكم بالظواهر ، والله متولي السرائر " . وقال عليه السلام : " إنكم تختصمون إلي . . . الحديث " ، والأنبياء قالوا : لا علم لنا البتة بأحوالهم ، إنما الحاصل عندنا من أحوالهم ، هو الظن . والظن كان معتبرا في الدنيا; لأن الأحكام في الدنيا كانت مبنية على الظنون ، أما الآخرة فلا التفات فيها إلى الظن; لأن الأحكام مبنية على حقائق الأشياء ، وبواطن الأمور ، فلهذا السبب قالوا : ( لا علم لنا ) ، ولم يذكروا البتة ما معهم من الظن; لأن الظن لا عبرة به في القيامة انتهى كلامه . وقال ابن عطية : لا علم لنا بسؤالك ، ولا جواب لنا عنه . وقرأ ابن عباس وأبو حيوة ( ماذا أجبتم ) مبنيا للفاعل . وقرأ ( علام ) بالنصب ، وهو على حذف الخبر; لفهم المعنى ، فيتم الكلام بالمقدر في قوله ( إنك أنت ) أي إنك الموصوف بأوصافك المعروفة من العلم وغيره . وقال الزمخشري : ثم نصب ( علام الغيوب ) على الاختصاص ، أو على النداء ، أو صفة لاسم ( إن ) انتهى . وهذا الوجه الأخير ، لا يجوز; لأنهم أجمعوا على أن ضمير المتكلم ، وضمير المخاطب لا يجوز أن يوصف ، وأما ضمير الغائب ففيه خلاف شاذ للكسائي . وقرأ حمزة وأبو بكر ( الغيوب ) ، بكسر الغين ، حيث وقع ، كأن من قال ذلك من العرب ، قد استثقل توالي ضمتين مع الياء ، ففر إلى حركة مغايرة للضمة ، مناسبة لمجاورة [ ص: 50 ] الياء ، وهي للكسرة .

التالي السابق


الخدمات العلمية