صفحة جزء
( وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يمسسك بخير فهو على كل شيء قدير ) أي إن يصبك وينلك بضر ، وحقيقة المس تلاقي جسمين ، ويظهر أن الباء في ( بضر ) ، وفي ( بخير ) للمتعدية ، وإن كان الفعل متعديا ، كأنه قيل : ( وإن يمسسك الله لضر ) ، فقد مسك . والتعدية بالباء في الفعل المتعدي قليلة ، ومنها قوله تعالى : ( ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض ) ، [ ص: 88 ] وقول العرب : صككت أحد الحجرين بالآخر ، والضر بالضم سوء الحال في الجسم وغيره ، وبالفتح ضد النفع ، وفسر السدي الضر هنا ، بالسقم ، والخير بالعافية . وقيل : الضر; الفقر ، والخير الغنى ، والأحسن العموم في الضر من المرض ، والفقر وغير ذلك ، وفي الخير من الغنى والصحة وغير ذلك . وفي حديث ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : " فقد جف القلم بما هو كائن ، فلو أن الخلق كلهم جميعا أرادوا أن يضروك بشيء ، لم يقضه الله لك ، لم يقدروا عليه " . أخرجه الترمذي . والذي يقابل الخير ، هو الشر ، وناب عنه هنا الضر ، وعدل عن الشر; لأن الشر أعم من الضر ، فأتي بلفظ الضر الذي هو أخص ، وبلفظ الخير الذي هو عام ، مقابل لعام تغليبا لجهة الرحمة . قال ابن عطية : ناب الضر هنا مناب الشر ، وإن كان الشر أعم منه ، فقابل الخير ، وهذا من الفصاحة ، عدول عن قانون التكلف والصنعة ، فإن باب التكلف في ترصيع الكلام ، أن يكون الشيء مقترنا بالذي يختص به بنوع من أنواع الاختصاص موافقة أو مضاهاة ، فمن ذلك ( ألا تجوع فيها ولا تعرى وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى ) ، فجاء بالجوع مع العري ، وبابه أن يكون مع الظمأ; ومنه قول امرئ القيس :


كأني لم أركب جوادا للذة ولم أتبطن كاعبا ذات خلخال     ولم أسبأ الزق الروي ولم أقل
لخيلي كري كرة بعد إجفال

انتهى . والجامع في الآية بين الجوع والعري ، هو اشتراكهما في الخلو ، فالجوع خلو الباطن والعري خلو الظاهر ، وبين الظمأ والضحاء اشتراكهما في الاحتراق ، فالظمأ احتراق الباطن ، ألا ترى إلى قولهم برد الماء حرارة جوفي ؟ والضحاء احتراق الظاهر ، والجامع في البيت الأول بين الركوب للذة ، وهي الصيد ، وتبطن الكاعب اشتراكهما في لذة الاستعلاء والاقتناص والقهر ، والظفر بمثل هذا الركوب ، ألا ترى إلى تسميتهم هن المرأة بالركب هو فعل بمعنى مفعول ؟ أي مركوب; قال الراجز :


إن لها لركبا إرزبا     كأنه جبهة ذرى حبا

وفي البيت الثاني بين سبأ الخمر ، والرجوع بعد الهزيمة اشتراكهما في البذل ؟ فشراء الخمر فيه بدل المال والرجوع بعد الانهزام فيه بذل الروح ، وما أحسن تعقل امرئ القيس في بيتيه ، حيث انتقل من الأدنى إلى الأعلى; لأن الظفر بجنس الإنسان أعلى وأشرف من الظفر بغير الجنس ، ألا ترى أن تعلق النفس بالعشق أكثر من تعلقها بالصيد ؟ ولأن بذل الروح أعظم من بذل المال . ومناسبة تقديم مس الضر على مس الخير ، ظاهرة لاتصاله بما قبله ، وهو الترهيب الدال عليه ( قل إني أخاف ) ، وما قبله ، وجاء جواب الأول بالحصر في قوله : ( فلا كاشف له إلا هو ) مبالغة في الاستقلال بكشفه ، وجاء جواب الثاني بقوله : ( فهو على كل شيء قدير ) دلالة على قدرته على كل شيء ، فيندرج فيه المس بخير أو غيره ، ولو قيل : إن الجواب محذوف لدلالة الأول عليه ، لكان وجها حسنا ، وتقديره : فلا موصل له إليك إلا هو ، والأحسن تقديره : ، فلا راد له للتصريح بما يشبهه في قوله ، وإن يردك بخير ، فلا راد لفضله ، ثم أتى بعد بما هو شامل للخير والشر ، وهو قدرته على كل شيء . وفي قوله : ( فلا كاشف له إلا هو ) ، حذف تقديره : ، فلا كاشف له عنك إلا هو .

( وهو القاهر فوق عباده وهو الحكيم الخبير ) . لما ذكر تعالى انفراده بتصرفه بما يريده من ضر وخير ، وقدرته على الأشياء ، ذكر قهره وغلبته ، وأن العالم مقهورون ممنوعون من بلوغ مرادهم ، بل يقسرهم ويجبرهم على ما يريده هو تعالى ، و ( فوق ) حقيقة في المكان ، وأبعد من جعلها هنا زائدة ، وأن التقدير ، وهو القاهر لعباده ، وأبعد من هذا قول من ذهب إلى أنها هنا [ ص: 89 ] حقيقة في المكان ، وأنه تعالى حال في الجهة التي فوق العالم ، إذ يقتضي التجسيم . وأما الجمهور فذكروا أن الفوقية هنا مجاز . فقال بعضهم : هو فوقهم بالإيجاد والإعدام . وقال بعضهم : هو على حذف مضاف معناه فوق قهر عباده بوقوع مراده دون مرادهم . وقال الزمخشري : تصوير للقهر والعلو والغلبة والقدرة ، كقوله : ( وإنا فوقهم قاهرون ) انتهى . والعرب تستعمل ( فوق ) ، إشارة لعلو المنزلة ، وشفوفها على غيره من الرتب ، ومنه قوله : ( يد الله فوق أيديهم ) ، وقوله : ( وفوق كل ذي علم عليم ) وقال النابغة الجعدي :


بلغنا السماء مجدا وجودا وسؤددا     وإنا لنرجو فوق ذلك مظهرا

يريد علو الرتبة والمنزلة . وقال أبو عبد الله الرازي : صفات الكمال محصورة في العلم والقدرة ، فقوله : ( وهو القاهر فوق عباده ) إشارة إلى كمال القدرة ( وهو الحكيم الخبير ) إشارة إلى كمال العلم ، أما كونه قاهرا ، فلأن ما عداه تعالى ممكن الوجود لذاته ، والممكن لذاته لا يترجح وجوده على عدمه ، ولا عدمه على وجوده ، إلا بترجيحه تعالى وإيجاده ، فهو في الحقيقة الذي قهر الممكنات ، تارة في طرق ترجيح الوجود على العدم ، وتارة في طرق ترجيح العدم على الوجود ، ويدخل فيه كل ما ذكره الله تعالى في قوله : ( قل اللهم مالك الملك ) الآية . والحكيم والمحكم أي أفعاله متقنة آمنة من وجوه الخلل والفساد ، لا بمعنى العالم; لأن ( الخبير ) إشارة إلى العلم ، فيلزم التكرار انتهى . وفيه بعض اختصار وتلخيص . وقيل : ( الحكيم ) العالم ، و ( الخبير ) أيضا العالم ، ذكره تأكيدا . و ( فوق ) منصوب على الظرف ، إما معمولا للقاهر; أي المستعلي فوق عباده ، وإما في موضع رفع على أنه خبر ثان لـ ( هو ) ، أخبر عنه بشيئين : أحدهما : أنه القاهر ، الثاني : أنه فوق عباده بالرتبة والمنزلة والشرف ، لا بالجهة ، إذ هو الموجد لهم وللجهة غير المفتقر لشيء من مخلوقاته ، فالفوقية مستعارة للمعنى من فوقية المكان . وحكى المهدوي أنه في موضع نصب على الحال ، كأنه قال : وهو القاهر غالبا فوق عباده ، وقاله أبو البقاء ، وقدره مستعليا أو غالبا ، وأجاز أن يكون فوق عباده في موضع رفع بدلا من القاهر . قال ابن عطية : ما معناه ورود العباد في التفخيم والكرامة والعبيد في التحقير والاستضعاف والذم ، وذكر موارد من ذلك على زعمه ، وقد تقدم له هذا المعنى مبسوطا مطولا ، ورددنا عليه .

التالي السابق


الخدمات العلمية