صفحة جزء
( ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته إنه لا يفلح الظالمون ) تقدم الكلام على ( ومن أظلم ) . والافتراء الاختلاف ، والمعنى لا أحد أظلم ممن كذب على الله ، أو كذب بآيات الله . قال الزمخشري : جمعوا بين أمرين متناقضين ، فكذبوا على الله بما لا حجة عليه ، وكذبوا بما ثبت بالحجة البينة والبرهان الصحيح ، حيث قالوا : ( لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ) ، وقالوا : والله أمرنا بها ، وقالوا : الملائكة بنات الله ، وهؤلاء شفعاؤنا عند الله ، ونسبوا إليه تحريم السوائب والبحائر ، وكذبوا القرآن والمعجزات ، وسموها سحرا ، ولم يؤمنوا بالرسول - صلى الله عليه وسلم - انتهى . وفيه دسيسة الاعتزال بقوله : حيث قالوا : ( لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ) . وقال ابن عطية : ممن افترى; اختلق ، والمكذب بالآيات مفتري كذب ، ولكنهما من الكفر ، فلذلك نصا مفسرين انتهى . ومعنى ( لا يفلح الظالمون ) لا يظفرون بمطالبهم في الدنيا والآخرة ، بل يبقون في الحرمان والخذلان . ونفى الفلاح عن الظالم ، فدخل فيه الأظلم . والظالم غير الأظلم ، وإذا كان هذا لا يفلح ، فكيف يفلح الأظلم ؟

( ويوم نحشرهم جميعا ثم نقول للذين أشركوا أين شركاؤكم الذين كنتم تزعمون ) . قيل : ( يوم ) معمول لـ ( اذكر ) [ ص: 94 ] محذوفة على أنه مفعول به ، قاله ابن عطية وأبو البقاء . وقيل : المحذوف متأخر تقديره : ( ويوم نحشرهم ) ، كان كيت وكيت ، فترك ليبقى على الإبهام الذي هو أدخل في التخويف ، قاله الزمخشري . وقيل : العامل انظر كيف كذبوا يوم نحشرهم . وقيل : هو مفعول به لمحذوف تقديره : وليحذروا يوم نحشرهم . وقيل : هو معطوف على ظرف محذوف ، والعامل فيه العامل في ذلك الظرف ، والتقدير أنه لا يفلح الظالمون اليوم في الدنيا ، ويوم نحشرهم ، قاله الطبري . وقرأ الجمهور ( نحشرهم ثم نقول ) بالنون فيهما . وقرأ حميد ويعقوب فيهما بالياء . وقرأ أبو هريرة ( نحشرهم ) ، بكسر الشين . والظاهر أن الضمير في ( نحشرهم ) عائد على الذين افتروا على الله الكذب ، أو كذبوا بآياته . وجاء ( ثم نقول للذين أشركوا ) بمعنى ثم نقول لهم ، ولكنه نبه على الوصف المترتب عليه توبيخهم ، ويحتمل أن يعود على الناس كلهم ، وهم مندرجون في هذا العموم ، ثم تفرد بالتوبيخ المشركون . وقيل : الضمير عائد على المشركين وأصنامهم ، ألا ترى إلى قولهم ( احشروا الذين ظلموا وأزواجهم وما كانوا يعبدون ) من دون الله ، وعطف بـ ( بثم ) للتراخي الحاصل بين مقامات يوم القيامة في المواقف ، فإن فيه مواقف بين كل موقف وموقف تراخ على حسب طول ذلك اليوم . و ( أين شركاؤكم ) سؤال توبيخ وتقريع . وظاهر مدلول ( أين شركاؤكم ) غيبة الشركاء عنهم; أي تلك الأصنام قد اضمحلت ، فلا وجود لها . وقال الزمخشري : ويجوز أن يشاهدوهم ، إلا أنهم حين لا ينفعونهم ، ولا يكون منهم ما رجوا من الشفاعة ، فكأنهم غيب عنهم ، وأن يحال بينهم . وبينهم في وقت التوبيخ; ليفقدوهم في الساعة التي علقوا بهم الرجاء فيها ، فيرو إمكان خزيهم وحسرتهم انتهى . والمعنى أين آلهتكم التي جعلتموها شركاء لله ؟ وأضيف الشركاء إليهم; لأنه لا شركة في الحقيقة بين الأصنام ، وبين شيء ، وإنما أوقع عليها اسم الشريك بمجرد تسمية الكفرة ، فأضيفت إليهم بهذه النسبة . والزعم : القول الأميل إلى الباطل ، والكذب في أكثر الكلام ، ولذلك قال ابن عباس : كل زعم في القرآن ، فهو بمعنى الكذب ، وإنما خص القرآن; لأنه ينطلق على مجرد الذكر والقول; ومنه قول الشاعر :


تقول هلكنا إن هلكت وإنما على الله أرزاق العباد كما زعم

وقال ابن عطية : وعلى هذا الحد يقول سيبويه : بزعم الخليل ، ولكن ذلك يستعمل في الشيء الغريب الذي تبقى عهدته على قائله انتهى . وحذف مفعولا ( يزعمون ) اختصارا ، إذ دل ما قبله على حذفهما ، والتقدير تزعمونهم شركاء ، ويحسن أن يكون التقدير كما قال بعضهم : ( أين شركاؤكم الذين كنتم تزعمون ) إنها تشفع لكم عند الله عز وجل .

( ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين ) . تقدم مدلول الفتنة ، وشرحت هنا بحب الشيء والإعجاب به ، كما تقول : فتنت بزيد ، فعلى هذا يكون المعنى; ثم لم يكن حبهم للأصنام ، وإعجابهم بها واتباعهم لها ، لما سئلوا عنها ، ووقفوا على عجزها ، إلا التبرؤ منها والإنكار لها ، وفي هذا توبيخ لهم ، كما تقول لرجل كان يدعي مودة آخر ثم انحرف عنه وعاداه : يا فلان لم تكن مودتك لفلان إلا أن عاديته وباينته ، والمعنى على ( ثم لم تكن ) بمعنى مودتهم وإعجابهم بالأصنام ، إلا البراءة منهم باليمين المؤكدة لبراءتهم ، وتكون الفتنة واقعة في الدنيا ، وشرحت أيضا بالاختبار ، والمعنى : ثم لم يكن اختبارنا إياهم ، إذ السؤال عن الشركاء وتوقيفهم ، اختبارا لإنكارهم الإشراك [ ص: 95 ] وتكون الفتنة هنا واقعة في القيامة; أي : ثم لم يكن جواب اختبار نالهم بالسؤال عن شركائهم إلا إنكار التشريك انتهى ، ملخصا من كلام ابن عطية ، مع بعض زيادة . وقال الزمخشري : ( فتنتهم ) كفرهم ، والمعنى ثم لم تكن عاقبة كفرهم الذي لزموه أعمارهم ، وقاتلوا عليه ، وافتخروا به ، وقالوا : دين آبائنا ، إلا جحوده ، والتبرؤ منه ، والحلف على الانتفاء من التدين به . ويجوز أن يراد; ثم لم يكن جوابهم ، إلا أن قالوا : فسمي فتنة; لأنه كذب انتهى . والشرح الأول من شرح ابن عطية معناه للزجاج ، والأول من تفسير الزمخشري ، لفظه للحسن ، ومعناه لابن عباس ، والثاني لمحمد بن كعب وغيره . قال : التقدير ثم لم يكن جوابهم ( إلا أن قالوا ) ، وسمي هذا القول فتنة ، لكونه افتراء وكذبا . وقال الضحاك : الفتنة هنا الإنكار; أي ثم لم يكن إنكارهم . وقال قتادة : عذرهم . وقال أبو العالية : قولهم . وقال عطاء وأبو عبيدة : بينهم . وزاد أبو عبيدة التي ألزمتهم الحجة ، وزادتهم لائمة . وقيل : حجتهم . والظاهر أن الضمير عائد على المشركين ، وأنه عام فيمن أشرك . وقال الحسن : هذا خاص بالمنافقين ، جروا على عادتهم في الدنيا . وقيل : هم قوم كانوا مشركين ، ولم يعلموا أنهم مشركون ، فيحلفون على اعتقادهم في الدنيا . وقرأ الجمهور ( ثم لم تكن ) ، وحمزة والكسائي بالياء ، وأبي وابن مسعود والأعمش ، وما كان فتنتهم ، وطلحة وابن مطرف ، ثم ما كان ، والابنان وحفص ( فتنتهم ) بالرفع ، وفرقة ( ثم لم يكن ) بالياء و ( فتنتهم ) بالرفع . وإعراب هذه القراءات واضح ، والجاري منها على الأشهر ، قراءة ( ثم لم يكن فتنتهم ) بالياء بالنصب; لأن ( أن ) مع ما بعدها أجريت في التعريف مجرى المضمر ، وإذا اجتمع الأعرف وما دونه في التعريف ، فذكروا أن الأشهر; جعل الأعرف هو الاسم ، وما دونه هو الخبر ، ولذلك أجمعت السبعة على ذلك في قوله تعالى : ( فما كان جواب قومه إلا أن قالوا ) ، و ( ما كان حجتهم إلا أن قالوا ) . ومن قرأ بالياء ، ورفع الفتنة ، فذكر الفعل ، لكون تأنيث الفتنة مجازيا أو لوقوعها من حيث المعنى على مذكر ، والفتنة اسم يكن ، والخبر ( إلا أن قالوا ) جعل غير الأعرف الاسم ، والأعرف الخبر ، ومن قرأ ( ثم لم تكن ) بالتاء ، ورفع الفتنة ، فأنث لتأنيث الفتنة ، والإعراب كإعراب ما تقدم قبله ، ومن قرأ ( ثم لم تكن ) بالتاء ( فتنتهم ) بالنصب ، فالأحسن أن يقدر ( إلا أن قالوا ) مؤنثا; أي : ثم لم تكن فتنتهم إلا مقالتهم . وقيل : ساغ ذلك من حيث كان الفتنة في المعنى . قال أبو علي : وهذا كقوله تعالى : ( فله عشر أمثالها ) فأنث الأمثال ، لما كانت الحسنات في المعنى . وقال الزمخشري : وقرئ ( تكن ) بالتاء . و ( فتنتهم ) بالنصب ، وإنما أتت ( أن قالوا ) لوقوع الخبر مؤنثا ، كقوله : من كانت أمك انتهى . وتقدم لنا أن الأولى; أن يقدر ( أن قالوا ) بمؤنث; أي إلا مقالتهم . وكذا قدره الزجاج بمؤنث; أي مقالتهم ، وتخريج الزمخشري ملفق من كلام أبي علي . وأما من كانت أمك ، فإنه حمل اسم كان على معنى ( من ) ; لأن من لها لفظ مفرد ، ولها معنى بحسب ما تريد من إفراد وتثنية وجمع وتذكير وتأنيث ، وليس الحمل على المعنى لمراعاة الخبر ، ألا ترى أنه يجيء حيث لا خبر ؟ نحو ومنهم من يستمعون إليك . و ( تكن ) مثل من يا ذئب يصطحبان . ومن تقنت في قراءة التاء ، فليست تأنيث كانت لتأنيث الخبر ، وإنما هو للحمل على معنى ( من ) حيث أردت به المؤنث ، وكأنك قلت : أية امرأة كانت أمك ؟ وقرأ الأخوان ( والله ربنا ) بنصب الباء على النداء; أي يا ربنا . وأجاز ابن عطية فيه النصب على المدح . وأجاز أبو البقاء فيه إضمار أعني . وباقي السبعة بخفضها على النعت ، وأجازوا فيه البدل وعطف البيان . وقرأ عكرمة وسلام بن مسكين ( والله ربنا ) برفع الاسمين . قال ابن عطية : وهذا على تقديم وتأخير أنهم قالوا : ( ما كنا مشركين ) ، ( والله ربنا ) ، ومعنى ( ما كنا مشركين ) جحدوا إشراكهم في الدنيا . روي أنهم إذا رأوا إخراج من في النار من أهل الإيمان ، ضجوا ، فيوقفون ، ويقال لهم أين شركاؤكم ؟ فينكرون طماعية منهم أن يفعل [ ص: 96 ] بهم ما فعل بأهل الإيمان . وهذا الذي روي مخالف لظاهر الآية ، وهو ( ويوم نحشرهم جميعا ) ، ثم نقول فظاهره أنه لا يتراخى القول عن الحشر هذا التراخي البعيد من دخول العصاة المؤمنين النار ، وإقامتهم فيها ما شاء الله ، وإخراجهم منها ، ثم بعد ذلك كله يقال لهم أين شركاؤكم ؟ وأتى رجل إلى ابن عباس فقال : سمعت الله يقول : ( والله ربنا ما كنا مشركين ) ، وفي أخرى ( ولا يكتمون الله حديثا ) ، فقال ابن عباس : لما رأوا أنه لا يدخل الجنة إلا مؤمن قالوا : تعالوا ، فلنجحد ، وقالوا : ( ما كنا مشركين ) ، فختم الله على أفواههم ، وتكلمت جوارحهم ، فلا يكتمون الله حديثا .

التالي السابق


الخدمات العلمية