صفحة جزء
( ومنهم من يستمع إليك وجعلنا على قلوبهم أكنة [ ص: 97 ] أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا ) . روى أبو صالح عن ابن عباس ، أن أبا سفيان والوليد والنضر وعتبة وشيبة وأمية وأبيا ، استمعوا للرسول - صلى الله عليه وسلم - ، فقالوا للنضر : يا أبا قتيلة ! ما يقول محمد ، فقال : ما يقول إلا أساطير الأولين ، مثل ما أحدثكم عن القرون الماضية ، وكان صاحب أشعار ، جمع أقاصيص في ديار العجم ، مثل قصة رستم وأسفنديار ، فكان يحدث قريشا ، فيستمعون له ، فقال أبو سفيان : إني لأرى بعض ما يقول حقا ، فقال أبو جهل : كلا ، لا تقر بشيء من هذا ، وقال : الموت أهون من هذا ، فنزلت . والضمير في ( ومنهم ) عائد على الذين أشركوا ، ووحد الضمير في ( يستمع ) حملا على لفظ ( من ) ، وجمعه في ( على قلوبهم ) حملا على معناها . والجملة من قوله : ( وجعلنا ) معطوفة على الجملة قبلها ، عطف فعلية على اسمية ، فيكون إخبارا من الله تعالى أنه جعل كذا . وقيل : الواو واو الحال; أي وقد جعلنا أي ننصت إلى سماعك ، وهم من الغباوة في حد من قلبه في كنان ، وأذنه صماء ، وجعل هنا يحتمل أن تكون بمعنى ألقى ، فتتعلق ( على ) بها ، وبمعنى صير ، فتتعلق بمحذوف ، إذ هي في موضع المفعول الثاني ، ويجوز أن تكون بمعنى خلق ، فيكون في موضع الحال; لأنها في موضع نعت ، لو تأخرت ، فلما تقدمت صارت حالا . والأكنة جمع كنان ، كعنان وأعنة . والكنان الغطاء الجامع .

قال الشاعر :


إذا ما انتضوها في الوغى من أكنة حسبت بروق الغيث هاجت غيومها

و ( أن يفقهوه ) في موضع المفعول من أجله تقديره : عندهم كراهة أن يفقهوه . وقيل : المعنى أن لا يفقهوه . وتقدم نظير هذين التقديرين . وقرأ طلحة بن مصرف ، ( وقرا ) ، بكسر الواو ، كأنه ذهب إلى أن ( آذانهم ) وقرت بالصمم ، كما توقر الدابة من الحمل . والظاهر أن الغطاء والصمم هنا ليسا حقيقة ، بل ذلك من باب استعارة المحسوس للمعقول ، حتى يستقر في النفس . استعار الأكنة لصرف قلوبهم عن تدبر آيات الله ، والثقل في الأذن لتركهم الإصغاء إلى سماعه ، ألا تراهم قالوا : (لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه ) ؟ فلما لم يتدبروا ، ولم يصغوا كانوا بمنزلة من على قلبه غطاء ، وفي أذنه وقر . وقال قوم : ذلك حقيقة ، وهو لا يشعر به ، كمداخلة الشيطان باطن الإنسان ، وهو لا يشعر به . ونحا الجبائي في فهم هذه الآية منحى آخر غير هذا ، فقال : كانوا يستمعون القراءة ليتوصلوا بسماعها إلى معرفة مكان الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، بالليل ، فيقصدوا قتله وإيذاءه ، فعند ذلك كان الله يلقي على قلوبهم النوم ، وهو المراد من الأكنة ، وتثقل أسماعهم عن استماع تلك القراءة بسبب ذلك النوم ، وهو المراد بقوله : ( في آذانهم وقرا ) . وقيل : إن الإنسان الذي علم الله منه أنه لا يؤمن ، وأنه يموت على الكفر ، يسم الله قلبه بعلامة مخصوصة ، تستدل الملائكة برؤيتها على أنهم لا يؤمنون ، وإذا ثبت هذا ، فلا يبعد تسمية تلك العلامة بالكنان . وقيل : لما أصروا على الكفر ، صار عدولهم عن الإيمان ، كالكنان المانع عن الإيمان ، فذكر تعالى ذلك كناية عن هذا المعنى . وقيل : لما منعهم الألطاف التي إنما تصلح أن يفعل بمن قد اهتدى ، فأخلاهم وفوضهم إلى أنفسهم; ليسوء صنيعهم ، لم يبعد أن يضيف ذلك إلى نفسه ، فيقول : ( وجعلنا على قلوبهم أكنة ) . وقيل : يكون هذا الكلام ورد حكاية لما كانوا يذكرونه من قولهم ، وقالوا : قلوبنا في أكنة . وهذه الأقوال كلها تعزى إلى الجبائي ، وهي كلها فرار من نسبة الجعل إلى الله حقيقة ، فتأولوا ذلك على هذه المجازات البعيدة . وقد نحا الزمخشري منحى بعض هذه الأقوال ، فقال : الأكنة على القلوب ، [ ص: 98 ] والوقر في الآذان تمثيل نبو قلوبهم ومسامعهم عن قبوله ، واعتقاد صحته ، ووجه إسناد الفعل إلى ذاته ، وهو قوله : ( وجعلنا ) للدلالة على أنه أمر ثابت فيهم لا يزول عنهم ، كأنهم مجبولون عليه ، أو هي حكاية لما كانوا ينطقون به من قولهم : ( وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب ) . انتهى . وهو جار على مذهب أصحابه المعتزلة ، وأما عند أهل السنة ، فنسبة الجعل إلى الله حقيقة ، لا مجاز ، وهي مسألة خلق الأعمال يبحث فيها في أصول الدين . قال ابن عطية : وهذه عبارة عن ما جعل الله في نفوس هؤلاء القوم من الغلظ والبعد عن قبول الخير ، كأنهم لم يكونوا سامعين لأقواله . ( ومنهم من يستمع إليك وجعلنا على قلوبهم ) . لما ذكر عدم انتفاعهم بعقولهم ، حتى كأن على محالها أكنة ، ولا بسماعهم حتى كأن في آذانهم وقرا ، انتقل إلى الحاسة التي هي أبلغ من حاسة السماع ، فنفى ما يترتب على إدراكها ، وهو الإيمان . والرؤية هنا بصرية ، والآية كانشقاق القمر ، ونبع الماء من أصابعه ، وحنين الجذع ، وانقلاب العصا سيفا ، والماء الملح عذبا ، وتصيير الطعام القليل كثيرا ، وما أشبه ذلك . وقال ابن عباس : ( كل آية ) كل دليل وحجة لا يؤمنوا بها; لأجل ما جعل على قلوبهم أكنة . انتهى . ومقصود هذه الجملة الشرطية الإخبار عن المبالغة التامة ، والعناد المفرط في عدم إيمانهم ، حتى أن الشيء المرئي الدال على صدق الرسول حقيقة ، لا يرتبون عليه مقتضاه ، بل يرتبون عليه ضد مقتضاه . ( حتى إذا جاءوك يجادلونك يقول الذين كفروا إن هذا إلا أساطير الأولين ) . ( يجادلونك ) أي يخاصمونك في الاحتجاج ، وبلغ تكذيبهم في الآيات إلى المجادلة ، وهذا إشارة إلى القرآن ، وجعلهم إياه من أساطير الأولين ، قدح في أنه كلام الله . قيل : كان النضر يعارض القرآن بأخبار إسفنديار ورستم . وقال ابن عباس : مجادلتهم قولهم : تأكلون ما قتلتم ، ولا تأكلون ما قتل الله انتهى . وهذا فيه بعد ، وظاهر المجادلة أنها في المسموع الذي هم يستمعون إلى الرسول بسببه ، وهو القرآن ، والمعنى أنهم في الاحتجاج انتهى أمرهم إلى المجادلة والافتراء دون دليل ، ومجيء الجملة الشرطية ( إذا ) بعد ( حتى ) كثير جدا في القرآن ، وأول ما وقعت فيه قوله : ( وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح ) وهي حرف ابتداء ، وليست هنا جارة [ ص: 99 ] لـ " إذا " ، ولا جملة الشرط ولا جملة الجزاء في موضع جر ، وليس من شرط ( حتى ) التي هي حرف ابتداء أن يكون بعدها المبتدأ ، بل تكون تصلح أن يقع بعدها المبتدأ ، ألا ترى أنهم يقولون في نحو ضربت القوم حتى زيدا ضربته ، أن ( حتى ) فيه حرف ابتداء ، وإن كان ما بعدها منصوبا ، و ( حتى ) إذا وقعت بعدها ( إذا ) يحتمل أن تكون بمعنى الفاء ، ويحتمل أن تكون بمعنى ( إلى أن ) ، فيكون التقدير ، فإذا ( لكارهون يجادلونك ) يقول ، أو يكون التقدير ( وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا ) أي منعناهم من فهم القرآن وتدبره ؟ إلى أن يقولوا : ( إن هذا إلا أساطير الأولين ) في وقت مجيئهم مجادليك لأن الغاية لا تؤخذ إلا من جواب الشرط ، لا من الشرط ، وعلى هذين المعنيين يتخرج جميع ما جاء في القرآن من قوله تعالى ( حتى إذا ) . وتركيب " حتى إذا " لا بد أن يتقدمه كلام ظاهر ، نحو هذه الآية ، ونحو قوله : ( فانطلقا حتى إذا لقيا غلاما فقتله قال أقتلت ) . أو كلام مقدر يدل عليه سياق الكلام ، نحو قوله : ( زبر الحديد حتى إذا ساوى بين الصدفين قال انفخوا حتى إذا جعله نارا ) التقدير فأتوه بها ، ووضعها بين الصدفين حتى إذا ساوى بينهما قال : انفخوا فنفخه ( حتى إذا جعله نارا بأمره وإذنه ، قال : آتوني أفرغ ، ولهذا قال الفراء ( حتى إذا ) لا بد أن يتقدمها كلام لفظا ، أو تقديرا ، وقد ذكرنا في كتاب التكميل أحكام ( حتى ) مستوفاة ، ودخولها على الشرط ، ومذهب الفراء والكسائي في ذلك ، ومذهب غيرهما . وقال الزمخشري : هنا هي ( حتى ) التي تقع بعدها الجمل ، والجملة قوله : ( إذا ) في موضع الحال انتهى . وهذا موافق لما ذكرناه ، ثم قال : ويجوز أن تكون الجارة ، ويكون ( إذا ) في محل الجر بمعنى حتى وقت مجيئهم ، و ( لكارهون يجادلونك ) حال ، وقوله : ( يقول الذين كفروا ) تفسير ، والمعنى أنه بلغ تكذيبهم الآيات ، إلى أنهم يجادلونك ويناكرونك ، وفسر مجادلتهم بأنهم يقولون : ( إن هذا إلا أساطير الأولين ) فيجعلون كلام الله ، وأصدق الحديث خرافات وأكاذيب ، وهي الغاية في التكذيب انتهى . وما جوزه الزمخشري في ( إذا ) بعد ( حتى ) من كونها مجرورة ، أوجبه ابن مالك في التسهيل ، فزعم أن ( إذا ) تجر بـ ( حتى ) . قال في التسهيل : وقد تفارقها ، يعني ( إذا ) الظرفية مفعولا بها ، ومجرورة بـ ( حتى ) ، أو مبتدأ ، وما ذهب إليه الزمخشري في تجويزه أن تكون ( إذا ) مجرورة بـ ( حتى ) ، وابن مالك في إيجاب ذلك ، ولم يذكر قولا غيره خطأ ، وقد بينا ذلك في كتاب التذييل في شرح التسهيل ، وقد وفق الحوفي وأبو البقاء وغيرهما من المعربين للصواب في ذلك ، فقال هنا أبو البقاء : ( يوزعون حتى إذا ) في موضع نصب لجوابها ، وهو ( يقول ) وليس لحتى هاهنا عمل ، وإنما أفادت معنى الغاية ، كما لا تعمل في الجمل ، و ( يجادلونك ) حال من ضمير الفاعل في ( جاءوك ) وهو العامل في الحال ، ( يقول ) جواب ( إذا ) ، وهو العامل في ( إذا ) انتهى . ( وهم ينهون عنه وينأون عنه ) . روي عن ابن عباس أنها نزلت في أبي طالب ، كان ينهى المشركين أن يؤذوا الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأتباعه ، وكانوا يدعونه إلى الإسلام ، فاجتمعت قريش بأبي طالب يريدون سوءا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقال أبو طالب :

[ ص: 100 ]

والله لن يصلوا إليك بجمعهم     حتى أوسد في التراب دفينا
فاصدع بأمرك ما عليك غضاضة     وأبشر وقر بذاك منك عيونا
ودعوتني وزعمت أنك ناصح     ولقد صدقت وكنت ثم أمينا
وعرضت دينا لا محالة أنه     من خير أديان البرية دينا
لولا الملامة أو حذار مسبة     لوجدتني سمحا بذاك مبينا

وقال محمد بن الحنفية والسدي والضحاك : نزلت في كفار مكة ، كانوا ينهون الناس عن اتباع الرسول - صلى الله عليه وسلم - ويتباعدون بأنفسهم عنه ، وهو قول ابن عباس في رواية الوالبي . والظاهر أن الضمير في قوله : ( وهم ) يعود على الكفار ، وهو قول الجمهور ، واختاره الطبري . وفي قوله : ( عنه ) يعود إلى القرآن ، وهو الذي عاد عليه الضمير المنصوب في ( يفقهوه ) ، وهو المشار إليه بقولهم ( إن هذا ) ، وهو قول قتادة ومجاهد ، والمعنى أنهم ينهون غيرهم عن اتباع القرآن ، وتدبره . و ( ينأون ) بأنفسهم عن ذلك . وقيل : الضمير في ( عنه ) عائد على الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، إذ تقدم ذكره في قوله : ( ومنهم من يستمع إليك حتى إذا جاءوك يجادلونك ) ، فيكون ذلك التفاتا ، وهو خروج من خطاب إلى غيبة . والضمير في ( وهم ) عائد على الكفار المتقدم ذكرهم . والمعنى أنهم جمعوا بين تباعدهم عن الرسول بأنفسهم ، ونهي غيرهم عن اتباعه ، فضلوا ، وأضلوا . وتقدم أن هذا القول هو أحد ما ذكر في سبب النزول . وقيل : الضمير في ( وهم ) عائد على أبي طالب ، ومن وافقه على حماية الرسول - صلى الله عليه وسلم - . والضمير في ( عنه ) عائد على الرسول ، والمعنى ( وهم ينهون عنه ) من يريد إذايته ، ويبعدون عنه بترك إيمانهم به واتباعهم له ، فيفعلون الشيء وخلافه ، وهو قول ابن عباس أيضا والقاسم بن محمد وحبيب بن أبي ثابت وعطاء بن دينار ومقاتل ، وهذا القول أحد ما ذكر في سبب النزول ، ونسبة هذا إلى أبي طالب وتابعيه بلفظ ( وهم ) الظاهر عوده على جماعة الكفار وجماعتهم لم ينهوا عن إذاية الرسول هي نسبة لكل الكفار بما صدر عن بعضهم ، فخرجت العبارة عن فريق منهم بما يعم جميعهم; لأن التوبيخ على هذه الصورة أشنع وأغلظ حيث ينهون عن إذايته ، ويتباعدون عن اتباعه ، وهذا كما تقول في التشنيع على جماعة منهم : سراق ، ومنهم زناة ، ومنهم شربة خمر ، هؤلاء سراق ، وزناة ، وشربة خمر ، وحقيقته أن بعضهم يفعل ذا ، وبعضهم ذا . وكان المعنى ومنهم من يستمع ، ومنهم من ينهى عن إذايته ، ويبعد عن هدايته . وفي قوله : ( ينهون عنه وينأون ) تجنيس التصريف ، وهو أن تنفرد كل كلمة عن الأخرى بحرف ، فينهون انفردت بالهاء ، ( وينأون ) انفردت بالهمزة ، ومنه وهم يحسبون أنهم يحسنون ، ويفرحون ويمرحون ، والخيل معقود في نواصيها الخير . وفي كتاب التحبير سماه تجنيس التحريف ، وهو أن يكون الحرف فرقا بين الكلمتين; وأنشد عليه :


إن لم أشن على ابن هند غارة     لنهاب مال أو ذهاب نفوس

وذكر غيره أن تجنيس التحريف ، هو أن يكون الشكل فرقا بين الكلمتين ، كقول بعض العرب وقد مات له ولد : اللهم إني مسلم ومسلم . وقال بعض العرب : اللهى تفتح اللها . وقرأ الحسن ( وينون ) بحذف الهمزة ، وإلقاء حركتها على النون ، وهو تسهيل قياسي .

( وإن يهلكون إلا أنفسهم وما يشعرون ) . قبل هذا محذوف ، تقديره : ( وهم ينهون عنه وينأون عنه ) أي عن الرسول ، أو القرآن ، قاصدين تخلي الناس عن الرسول ، فيهلكونه ، وهم في الحقيقة يهلكون أنفسهم . وليس المراد بالهلاك الموت ، بل الخلود في النار . و ( إن ) نافية بمعنى ( ما ) ، ونفي الشعور عنهم ، بإهلاكهم أنفسهم مذمة عظيمة; لأنه أبلغ في نفي العلم ، إذ البهائم تشعر وتحس ، فوبال ما راموا ، حل بأنفسهم ولم يتعد إلى غيرهم . ( ولو ترى [ ص: 101 ] إذ وقفوا على النار ) لما ذكر تعالى حديث البعث في قوله : ( ويوم نحشرهم ) ، واستطرد من ذلك إلى شيء من أوصافهم الذميمة في الدنيا ، عاد إلى الأول وجواب ( لو ) محذوف لدلالة المعنى عليه ، وتقديره : لرأيت أمرا شنيعا ، وهولا عظيما . وحذف جواب ( لو ) لدلالة الكلام عليه ، جائز فصيح ، ومنه ( ولو أن قرآنا سيرت به الجبال ) الآية; وقول الشاعر :


وجدك لو شيء أتانا رسوله     سواك ولكن لم نجد لك مدفعا

أي لو شيء أتانا رسوله سواك لدفعناه . و ( نرى ) مضارع معناه الماضي; أي : ولو رأيت ، فإذ باقية على كونها ظرفا ماضيا معمولا لترى ، وأبرز هذا في صورة المضي ، وإن كان لم يقع بعد إجراء للمحقق المنتظر مجرى الواقع الماضي . والظاهر أن الرؤية هنا بصرية ، وجوزوا أن تكون من رؤية القلب . والمعنى ولو صرفت فكرك الصحيح إلى تدبر حالهم ، لازددت يقينا أنهم يكونون يوم القيامة على أسوأ حال ، فيجتمع للمخاطب في هذه الحالة الخبر الصدق الصريح ، والنظر الصحيح ، وهما مدركان من مدارك العلم اليقين . والمخاطب بـ ( يرى ) الرسول ، أو السامع . ومعمول ( ترى ) محذوف ، تقديره : ( ولو ترى ) حالهم ( إذ ) وقفوا . وقيل : ( ترى ) باقية على الاستقبال . و ( إذ ) معناه ( إذا ) ، فهو ظرف مستقبل ، فتكون ( لو ) هنا استعملت استعمال ( إن ) الشرطية . وألجأ من ذهب إلى هذا أن هذا الأمر لم يقع بعد . وقرأ الجمهور ( وقفوا ) مبنيا للمفعول ، ومعناه عند الجمهور حبسوا على النار . وقال ابن السائب : معناه أجلسوا عليها . و ( على ) بمعنى ( في ) ، أو تكون على بابها . ومعنى جلوسهم; أن جهنم طبقات ، فإذا كانوا في طبقة ، كانت النار تحتهم في الطبقة الأخرى . وقال مقاتل : عرضوا عليها ، ومن عرض على شيء ، فقد وقف عليه . وقيل : عاينوها ، ومن عاين شيئا وقف عليه . وقيل : عرفوا مقدار عذابها ، كقولهم : وقفت على ما عند فلان; أي فهمته وتبينته ، واختاره الزجاج . وقيل : جعلوا وقفا عليها ، كالوقوف المؤبدة على سبلها ، ذكره الماوردي . وقيل : وقفوا بقربها . وفي الحديث : " أن الناس يوقفون على متن جهنم " . وقال الطبري : أدخلوها ، و ( وقف ) في هذه القراءة متعدية . وقرأ ابن السميقع وزيد بن علي ( وقفوا ) مبنيا للفاعل من ( وقف ) اللازمة ، ومصدر هذه ( الوقوف ) ، ومصدر تلك ( الوقف ) ، وقد سمع في المتعدية ( أوقف ) ، وهي لغة قليلة ، ولم يحفظها أبو عمرو بن العلاء ، قال : لم أسمع في شيء من كلام العرب ، أوقفت فلانا ، إلا أني لو لقيت رجلا واقفا ، فقلت له : ما أوقفك هاهنا ؟ ، لكان عندي حسنا انتهى . وإنما ذهب أبو عمرو إلى حسن هذا; لأنه مقيس في كل فعل لازم ، أن يعدى بالهمزة ، نحو ضحك زيد ، وأضحكته .

التالي السابق


الخدمات العلمية