صفحة جزء
( فقالوا يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين ) . قرأ ابن عامر وحمزة وحفص ( ولا نكذب ونكون ) بالنصب فيهما ، وهذا النصب عند جمهور البصريين ، هو بإضمار ( أن ) بعد الواو ، فهو ينسبك من ( أن ) المضمرة ، والفعل بعدها مصدر مرفوع معطوف على مصدر متوهم مقدر من الجملة السابقة ، والتقدير : يا ليتنا يكون لنا رد وانتفاء تكذيب ، وكون من المؤمنين . وكثيرا ما يوجد في كتب النحو أن هذه الواو المنصوب بعدها ، هو على جواب التمني ، كما قال الزمخشري : ( ولا نكذب ونكون ) بالنصب بإضمار ( أن ) على جواب التمني ، ومعناه إن رددنا لم نكذب ، ونكن من المؤمنين ) انتهى . وليس كما ذكر ، فإن نصب الفعل بعد الواو ليس على جهة الجواب; لأن الواو لا تقع في جواب الشرط ، فلا ينعقد مما قبلها ، ولا مما بعدها شرط وجواب ، وإنما هي واو الجمع يعطف ما بعدها على المصدر المتوهم قبلها ، وهي واو العطف يتعين مع النصب أحد محاملها الثلاثة ، وهي المعية ، ويميزها من الفاء تقدير شرط قبلها ، أو حال مكانها . وشبهة من قال : إنها جواب ، أنها تنصب في المواضع التي تنصب فيها الفاء ، فتوهم أنها جواب . [ ص: 102 ] وقال سيبويه : والواو تنصب ما بعدها من حيث انتصب ما بعد الفاء والواو ، ومعناها ، ومعنى الفاء مختلفان ، ألا ترى ، لا تنه عن خلق ، وتأتي مثله . لو أدخلت الفاء هنا لأفسدت المعنى ، وإنما أراد لا يجتمع النهي والإتيان ، وتقول : لا تأكل السمك ، وتشرب اللبن ، لو أدخلت الفاء فسد المعنى انتهى كلام سيبويه ملخصا وبلفظه . ويوضح لك أنها ليست بجواب انفراد الفاء دونها بأنها إذا حذفت انجزم الفعل بعدها بما قبلها; لما فيه من معنى الشرط ، إلا إذا نصبت بعد النفي ، وسقطت الفاء ، فلا ينجزم ، وإذا تقرر هذا ، فالأفعال الثلاثة من حيث المعنى متمناة على سبيل الجمع بينها ، لا أن كل واحد متمنى وحده ، إذ التقدير كما قلنا يا ليتنا يكون لنا رد مع انتفاء التكذيب ، وكون من المؤمنين . قال ابن عطية : وقرأ ابن عامر في رواية هشام بن عمار عن أصحابه عن ابن عامر ( ولا نكذب ) بالرفع ( ونكون ) بالنصب ويتوجه ذلك على ما تقدم انتهى . وكان قد قدم أن رفع ( ولا نكذب ونكون ) في قراءة باقي السبعة على وجهين : أحدهما; العطف على ( نرد ) فيكونان داخلين في التمني ، والثاني; الاستئناف والقطع ، فهذان الوجهان يسوغان في رفع ( ولا نكذب ) على هذه القراءة ، وفي مصحف عبد الله ، فلا نكذب بالفاء ، وفي قراءة أبي ( فلا نكذب بآيات ربنا أبدا ونكون ) . وحكى أبو عمرو أن في قراءة أبي ونحن ( نكون من المؤمنين ) وجوزوا في رفع ( ولا نكذب ونكون ) أن يكون في موضع نصب على الحال ، فتلخص في الرفع ثلاثة أوجه .

أحدها : أن يكون معطوفا على ( نرد ) فيكون انتفاء التكذيب والكون من المؤمنين داخلين في التمني; أي وليتنا لا نكذب ، وليتنا نكون من المؤمنين ، ويكون هذا الرفع مساويا في هذا الوجه للنصب; لأن في كليهما العطف ، وإن اختلفت جهتاه ففي النصب على مصدر من الرد متوهم ، وفي الرفع على نفس الفعل ، فإن قلت : التمني إنشاء ، والإنشاء لا يدخله الصدق والكذب ، فكيف جاء قوله : ( وإنهم لكاذبون ) إخبارا من الله أن سجية هؤلاء الكفار هي الكذب ، فيكون ذلك حكاية وإخبارا عن حالهم في الدنيا ، لا تعلق به بمتعلق التمني . والوجه الثاني : أن هذا التمني قد تضمن معنى الخبر والعدة ، فإذا كانت سجية الإنسان شيئا ، ثم تمنى ما يخالف السجية ، وما هو بعيد أن يقع منها ، صح أن يكذب على تجوز ، نحو ليت الله يرزقني مالا فأحسن إليك وأكافئك على صنيعك ، فهذا متمن في معنى الواعد والمخبر ، فإذا رزقه الله مالا ، ولم يحسن إلى صاحبه ، ولم يكافئه ، كذب وكان تمنيه في حكم من قال : إن رزقني الله مالا كافأتك على إحسانك ، ونحو قول رجل شرير بعيد من أفعال الطاعات : ليتني أحج ، وأجاهد ، وأقوم الليل ، فيجوز أن يقال لهذا على تجوز كذبت; أي أنت لا تصلح لفعل الخير ، ولا يصلح لك . والثاني من وجوه الرفع; أن يكون رفع ( ولا نكذب ونكون ) على الاستئناف ، فأخبروا عن أنفسهم بهذا ، فيكون مندرجا تحت القول أي قالوا : يا ليتنا نرد وقالوا : نحن لا نكذب بآيات ربنا ، ونكون من المؤمنين ، فأخبروا أنهم يصدر عنهم ذلك على كل حال . فيصح على هذا تكذيبهم في هذا الإخبار . ورجح سيبويه هذا الوجه ، وشبهه بقوله : دعني ولا أعود بمعنى وأنا لا أعود تركتني أو لم تتركني . والثالث من وجوه الرفع : أن يكون ( ولا نكذب ونكون ) في موضع نصب على الحال ، التقدير يا ليتنا نرد غير مكذبين ، وكائنين من المؤمنين ، فيكون داخلا قيدا في الرد المتمنى ، وصاحب الحال هو الضمير المستكن في ( نرد ) . ويجاب عن قوله : ( وإنهم لكاذبون ) بالوجهين اللذين ذكرا في إعراب ( ولا نكذب ونكون ) إذا كانا معطوفين على نرد . وحكي أن بعض القراء قرأ ( ولا نكذب ) بالنصب ( ونكون ) بالرفع ، فالنصب عطف على مصدر متوهم ، والرفع في ( ونكون ) عطف [ ص: 103 ] على ( نرد ) ، أو على الاستئناف; أي ونحن نكون ، وتضعف فيه الحال; لأنه مضارع مثبت ، فلا يكون حالا بالواو ، إلا على تأويل مبتدأ محذوف ، نحو : نجوت وأرهنهم مالكا ، وأنا أرهنهم مالكا . والظاهر أنهم تمنوا الرد من الآخرة إلى الدنيا . وحكى الطبري تأويلا في الرد ، وهو أنهم تمنوا أن يردوا من عذاب النار إلى الوقوف على النار التي وقفوا عليها ، فالمعنى : يا ليتنا نوقف هذا الوقوف غير مكذبين بآيات ربنا ، كائنين من المؤمنين . قال : ويضعف هذا التأويل من غير وجه يبطله ، ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه ، ولا يصح أيضا التكذيب في هذا التمني; لأنه تمني ما قد مضى ، وإنما يصح التكذيب الذي ذكرناه ، قبل هذا على تجوز في تمني المستقبلات انتهى . وأورد بعضهم هنا سؤالا ، فقال : فإن قيل : كيف يتمنون الرد مع علمهم بتعذر حصوله ، وأجاب بقوله : قلنا لعلهم لم يعلموا أن الرد لا يحصل ، والثاني : أن العلم بعدم الرد ، لا يمنع من الإرادة ، كقوله : ( يريدون أن يخرجوا من النار ) ( أن أفيضوا علينا من الماء ) انتهى . ولا يرد هذا السؤال; لأن التمني يكون في الممكن والممتنع ، بخلاف الترجي فإنه لا يكون إلا في الممكن ، فورد التمني هنا على الممتنع ، وهو أحد قسمي ما يكون التمني له في لسان العرب ، والأصح أن ( يا ) في قوله : ( يا ليت ) حرف تنبيه ، لا حرف نداء ، والمنادى محذوف لأن في هذا حذف جملة النداء ، وحذف متعلقه رأسا ، وذلك إجحاف كثير .

التالي السابق


الخدمات العلمية