صفحة جزء
قوله تعالى : ( إن الذين آمنوا والذين هادوا ) الآية . نزلت في أصحاب سلمان ، وذلك أنه صحب عبادا من النصارى ، فقال له أحدهم : إن زمان نبي قد أظل ، فإن لحقته فآمن به . ورأى منهم عبادة عظيمة ، فلما جاء النبي ، صلى الله عليه وسلم ، ذكر له خبرهم وسأله عنهم ، فنزلت هذه الآية ، حكى هذه القصة مطولة ابن إسحاق والطبري والبيهقي . وروي عن ابن عباس أنها نزلت في أول الإسلام ، وقدر الله بها أن من آمن بمحمد ، صلى الله عليه وسلم ، ومن بقي على يهوديته ونصرانيته وصابئيته ، وهو مؤمن بالله واليوم الآخر ، فله أجره ، ثم نسخ ما قدر من ذلك بقوله : ( ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه ) .

وردت الشرائع كلها إلى شريعة محمد ، صلى الله عليه وسلم ، وقال غير ابن عباس : ليست بمنسوخة ، وهي فيمن ثبت على إيمانه بالنبي ، صلى الله عليه وسلم ، وروى الواحدي ، بإسناد متصل [ ص: 241 ] إلى مجاهد ، قال : لما قص سلمان على النبي ، صلى الله عليه وسلم ، قصة أصحابه ، وقال له : هم في النار . قال سلمان : فأظلمت علي الأرض ، فنزلت إلى ( يحزنون ) ، قال : فكأنما كشف عني جبل .

ومناسبة هذه الآية لما قبلها : أنه لما ذكر الكفرة من أهل الكتاب وما حل بهم من العقوبة ، أخبر بما للمؤمنين من الأجر العظيم ، دالا على أنه يجزي كلا بفعله ، والذين آمنوا منافقو هذه الأمة ، أي آمنوا ظاهرا ، ولهذا قرنهم بمن ذكر بعدهم ، ثم بين حكم من آمن ظاهرا وباطنا ، قاله سفيان الثوري . أو المؤمنون بالرسول .

ومن آمن : معناه من داوم على إيمانه ، وفي سائر الفرق : من دخل فيه ، أو الحنيفيون ممن لم يلحق الرسول : كزيد بن عمرو بن نفيل ، وقيس بن ساعدة ، وورقة بن نوفل ، ومن لحقه : كأبي ذر ، وسلمان ، وبحيرى . ووفد النجاشي الذين كانوا ينتظرون المبعث ، فمنهم من أدرك وتابع ، ومنهم من لم يدركه ، والذين هادوا كذلك ، ممن لم يلحق إلا من كفر بعيسى ، على نبينا وعليه الصلاة والسلام ، والنصارى كذلك ، والصابئين كذلك ، قاله السدي . أو أصحاب سلمان ، وقد سبق حديثهم ، أو المؤمنون بعيسى قبل أن يبعث الرسول ، قاله ابن عباس ، أو المؤمنون بموسى وعملوا بشريعته إلى أن جاء عيسى فآمنوا به وعملوا بشريعته ، إلى أن جاء محمد ، قاله السدي عن أشياخه ، أو مؤمنو الأمم الخالية ، أو المؤمنون بالله وملائكته وكتبه ورسله من سائر الأمم . فهذه ثمانية أقوال في المعني بالذين آمنوا والذين هادوا وهم اليهود .

وقرأ الجمهور : هادوا بضم الدال . وقرأ أبو السماك العدوي بفتحها من المهاداة ، قيل : أي مال بعضهم إلى بعض ، فالقراءة الأولى مادتها هاء وواو ودال ، أو هاء وياء ودال ، والقراءة الثانية مادتها هاء ودال وياء ، ويكون فاعل من الهداية ، وجاء فيه فاعل موافقة فعل ، كأنه قيل : والذين هدوا ، أي هدوا أنفسهم نحو : جاوزت الشيء بمعنى جزته .

( والنصارى ) : الألف للتأنيث ، ولذلك منع الصرف في قوله : ( الذين قالوا إنا نصارى ) ، وهذا البناء ، أعني فعالى ، جاء مقصورا جمعا ، وجاء ممدودا مفردا ، وألفه للتأنيث أيضا نحو براكاء . وقرأ الجمهور : والصابئين مهموزا ، وكذا والصابئون ، وتقدم معنى صبأ المهموز . وقرأ نافع بغير همز ، فيحتمل وجهين أظهرهما أن يكون من صبأ : بمعنى مال ، ومنه قول الشاعر :


إلى هند صبا قلبي وهند مثلها يصبي



والوجه الآخر يكون أصله الهمز ، فسهل بقلب الهمز ألفا في الفعل وياء في الاسم ، كما قال الشاعر :


إن السباع لتهدي في مرابضها     والناس ليس بهاد شرهم أبدا



وقال الآخر :


وكنت أذل من وتد بقاع     يشجج رأسه بالفهرواج



وقال آخر :


فارعي فزارة لا هناك المرتع



إلا أن قلب الهمزة ألفا يحفظ ولا يقاس عليه . وأما قلب الهمزة ياء فبابه الشعر ، فلذلك كان الوجه الأول أظهر . وذكر بعض المفسرين مسائل من أحكام اليهود والنصارى .

( والصابئين ) : لا يدل عليها لفظ القرآن هنا ، فلم يذكرها ، وموضعها كتب الفقه .

( من آمن بالله واليوم الآخر ) ، من : مبتدأة ، ويحتمل أن تكون شرطية ، فالخبر الفعل بعدها ، وإذا كانت موصولة ، فالخبر قوله : ( فلهم أجرهم ) ، ودخلت الفاء في الخبر ; لأن المبتدأ الموصول قد استوفى شروط جواز دخول الفاء في الخبر ، وقد تقدم ذكرها . واتفق المعربون والمفسرون على أن الجملة من قوله : ( من آمن ) في موضع خبر إن إذا كان ( من ) مبتدأ ، وأن الرابط محذوف ، تقديره : من آمن منهم ، ولا يتم ما قالوه إلا على تغاير الإيمانين ، أعني : الذي هو صلة الذين ، والذي هو صلة من ، إما في التعليق ، أو في الزمان ، أو في الإنشاء والاستدامة . وأما إذا لم يتغايرا ، فلا يتم ذلك ; [ ص: 242 ] لأنه يصير المعنى : إن الذين آمنوا من آمن منهم ، ومن كانوا مؤمنين ، يقال : من آمن منهم إلا على التغاير بين الإيمانين . وذهب بعض الناس إلى أن ذلك على الحذف ، وأن التقدير : إن الذين آمنوا لهم أجرهم عند ربهم ، والذين هادوا والصابئين والنصارى من آمن منهم ، أي من الأصناف الثلاثة ، فلهم أجرهم ، وذلك لما لم يصلح أن يكون عنده ( من آمن ) خبرا عن الذين آمنوا ومن بعدهم . ومن أعرب ( من ) مبتدأ ، فإنما جعلها شرطية .

وقد ذكرنا جواز كونها موصولة ، وأعربوا أيضا ( من ) بدلا ، فتكون منصوبة موصولة . قالوا : وهي بدل من اسم ( إن ) وما بعده ، ولا يتم ذلك أيضا إلا على تقدير تغاير الإيمانين ، كما ذكرنا ، إذا كانت مبتدأة . والذي نختاره أنها بدل من المعاطيف التي بعد اسم إن ، فيصح إذ ذاك المعنى ، وكأنه قيل : إن الذين آمنوا من غير الأصناف الثلاثة ، ومن آمن من الأصناف الثلاثة ، فلهم أجرهم . ودخلت الفاء في الخبر ; لأن الموصول ضمن معنى الشرط ، ولم يعتد بدخول ( إن ) على الموصول ، وذلك جائز في كلام العرب ، ولا مبالاة بمن خالف في ذلك . ومن زعم أن ( من آمن ) معطوف على ما قبله ، وحذف منه حرف العطف ، التقدير : ومن آمن بالله - فقوله بعيد عن الصواب ، ولا حاجة تدعو إلى ذلك ، وقد اندرج في الإيمان باليوم الآخر الإيمان بالرسل ، إذ البعث لا يعرف إلا من جهة الرسل .

( وعمل صالحا ) : هو عام في جميع أفعال الصلاح وأقوالها وأداء الفرائض ، أو التصديق بمحمد ، صلى الله عليه وسلم ، أقوال . الثاني يروى عن ابن عباس ، وقد حمل الصلة أو فعل الشرط والمعطوف على لفظ ( من ) فأفرد الضمير في ( آمن وعمل ) . ثم قال : ( فلهم أجرهم ) إلى آخر الآية ، فجمع حملا على المعنى . وهذان الحملان لا يتمان إلا بإعراب ( من ) مبتدأ ، وأما على إعراب ( من ) بدلا ، فليس فيه إلا حمل على اللفظ فقط . وللحمل على اللفظ والمعنى قيود ذكرت في النحو . قال أبو محمد بن عطية : وإذا جرى ما بعد ( من ) على اللفظ فجائز أن يخالف به بعد على المعنى ، وإذا جرى ما بعدها على المعنى ، لم يجز أن يخالف به بعد على اللفظ ; لأن الإلباس يدخل في الكلام . انتهى كلامه . وليس كما ذكر ، بل يجوز إذا راعيت المعنى أن تراعي اللفظ بعد ذلك ، لكن الكوفيين يشترطون الفصل في الجمع بين هذه الحملين فيقولون : من يقومون في غير شيء ، وينظر في أمورنا قومك . والبصريون لا يشترطون ذلك ، وهذا على ما قرر في علم العربية :


تروى الأحاديث عن كل مسامحة     وإنما لمعانيها معانيها



و ( أجرهم ) : مرفوع بالابتداء ، و ( لهم ) في موضع الخبر . وعند الأخفش والكوفيين أن ( أجرهم ) مرفوع بالجار والمجرور . ( عند ربهم ) : ظرف يعمل فيه الاستقرار الذي هو عامل في ( لهم ) ، ويحتمل أن ينتصب على الحال ، والعامل فيه محذوف تقديره : كائنا عند ربهم . وقرأ الجمهور : ( ولا خوف ) ، بالرفع والتنوين . وقرأ الحسن : ولا خوف ، من غير تنوين . وقد تقدم الكلام على قوله : ( ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون ) في آخر قصة آدم ، على نبينا وعليه الصلاة والسلام ، فأغنى عن إعادته هنا .

ومناسبة ختم هذه الآية بها ظاهرة ; لأن من استقر أجره عند ربه لا يلحقه حزن على ما مضى ، ولا خوف على ما يستقبل . قال القشيري : اختلاف الطرق مع اتحاد الأصل لا يمنع من حسن القبول ، فمن صدق الله تعالى في إيمانه ، وآمن بما أخبر به من حقه وصفاته ، فاختلاف وقوع الاسم غير قادح في استحقاق الرضوان .

( وإذ أخذنا ميثاقكم ) : هذا هو الإنعام العاشر ; لأنه إنما أخذ ميثاقهم لمصلحتهم ، وتقدم الكلام في لفظة الميثاق في قوله تعالى : ( الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ) . والميثاق : ما أودعه الله تعالى العقول من الدلائل على وجوده وقدرته وحكمته وصدق أنبيائه ورسله ، أو المأخوذ على ذرية آدم في قوله : ( ألست بربكم قالوا بلى ) ، أو إلزام الناس متابعة الأنبياء ، أو الإيمان بمحمد ، صلى الله عليه وسلم ، أو العهد منهم [ ص: 243 ] ليعملن بما في التوراة ، فلما جاء موسى قرءوا ما فيها من التثقيل فامتنعوا من أخذها ، أو قوله : ( لا تعبدون إلا الله ) ، أقوال ستة . قال القفال : قال ( ميثاقكم ) ولم يقل مواثيقكم ; لأنه أراد ميثاق كل واحد منكم ، كقوله : ( ثم يخرجكم طفلا ) ، أو لأن ما أخذه على واحد منهم ، أخذه على غيره ، فكان ميثاقا واحدا ، ولو جمع لاحتمل التغاير . انتهى كلامه ملخصا .

التالي السابق


الخدمات العلمية