صفحة جزء
( قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة أغير الله تدعون إن كنتم صادقين ) [ ص: 124 ] هذا ابتداء احتجاج على الكفار يجعلون لله شركاء . قال الكرماني : ( أرأيتكم ) كلمة استفهام ، وتعجب ، وليس لها نظير . وقال ابن عطية : والمعنى : أرأيتكم إن خفتم عذاب الله ، أو خفتم هلاكا ، أو خفتم الساعة ، أتدعون أصنامكم ، وتلجأون إليها في كشف ذلك ، إن كنتم صادقين في قولكم إنها آلهة ؟ بل تدعون الله الخالق الرازق ، فيكشف ما خفتموه إن شاء ، وتنسون أصنامكم; أي تتركونهم ، فعبر عن الترك بأعظم وجوهه الذي هو مع الترك ، ذهول وإغفال ، فكيف يجعل إلها من هذه حاله في الشدائد ؟ و ( أتاكم عذاب الله ) أتاكم خوفه وأماراته ، وأوائله ، مثل الجدب والبأساء والأمراض التي يخاف منها الهلاك ، كالقولنج . ويدعو إلى هذا التأويل ، أنا لو قدرنا إتيان العذاب وحلوله ، لم يترتب أن يقول بعد ذلك : فيكشف ما تدعون; لأن ما قد صح حلوله ومضى ، لا يصح كشفه . ويحتمل أن يريد بالساعة في هذه الآية ، ساعة موت الإنسان انتهى . ولا يضطر إلى هذا التأويل الذي ذكره ، بل إذا حل بالإنسان العذاب ، واستمر عليه ، لا يدعو إلا الله ، وقوله : لأن ما صح حلوله ومضى ، لا يصح كشفه ، ليس كما ذكر; لأن العذاب الذي يحل بالإنسان ، هو جنس منه ما مر وانقضى ، فذلك لا يصح كشفه ، ومنه ما هو ملتبس بالإنسان في الحال ، فيصح كشفه وإزالته ، بقطع الله ذلك عن الإنسان . وهذه الآية تنظر إلى قوله تعالى : وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه ، فما انقضى من الضر الذي مسه ، لا يصح كشفه ، وما هو ملتبس به ، كشفه الله تعالى ، فالضر جنس كما أن العذاب هنا جنس . وقال مقاتل : عذاب الله هو العذاب الذي كان يأتي الأمم الخالية . وقال ابن عباس : هو الموت ، ويعني ، والله أعلم مقدماته من الشدائد . والجمهور على أن ( الساعة ) هي القيامة ، وأرأيت : الهمزة فيها للاستفهام ، فإن كانت البصرية ، أو التي لإصابة الرؤية ، أو العلمية الباقية على بابها ، لم يجز فيها إلا تحقيق الهمزة ، أو تسهيلها بين بين ، ولا يجوز حذفها . وتختلف [ ص: 125 ] التاء باختلاف المخاطب ، ولا يجوز إلحاق الكاف بها ، وإن كانت العلمية التي هي بمعنى أخبرني ، جاز أن تحقق الهمزة ، وبه قرأ الجمهور في ( أرأيتكم ) ، وأرأيتم وأرأيت ، وجاز أن تسهل بين بين ، وبه قرأ نافع ، وروي عنه إبدالها ألفا محضة ، ويطول مدها لسكونها وسكون ما بعدها . وهذا البدل ضعيف عند النحويين ، إلا أنه قد سمع من كلام العرب ، حكاه قطرب وغيره ، وجاز حذفها ، وبه قرأ الكسائي ، وقد جاء ذلك في كلام العرب . قال الراجز :


أريت إن جاءت به أملودا

بل قد زعم الفراء أنها لغة أكثر العرب ، قال الفراء : للعرب في أرأيت لغتان ومعنيان : أحدهما : أن تسأل الرجل ، أرأيت زيدا ؟ أي بعينك ، فهذه مهموزة ، وثانيهما : أن تقول : أرأيت ، وأنت تقول : أخبرني فيها هنا ، تترك الهمزة إن شئت ، وهو أكثر كلام العرب ، تومئ إلى ترك الهمزة; للفرق بين المعنيين انتهى . وإذا كانت بمعنى أخبرني ، جاز أن تختلف التاء باختلاف المخاطب ، وجاز أن تتصل بها الكاف مشعرة باختلاف المخاطب ، وتبقى التاء مفتوحة ، كحالها للواحد المذكر . ومذهب البصريين أن التاء هي الفاعل ، وما لحقها حرف يدل على اختلاف المخاطب ، وأغنى اختلافه عن اختلاف التاء . ومذهب الكسائي أن الفاعل هو التاء ، وأن أداة الخطاب اللاحقة في موضع المفعول الأول . ومذهب الفراء أن التاء هي حرف خطاب [ ص: 126 ] كهي في أنت ، وأن أداة الخطاب بعده هي في موضع الفاعل ، استعيرت ضمائر النصب للرفع ، والكلام على هذه المذاهب إبدالا وتصحيحا مذكور في علم النحو ، وكون أرأيت وأرأيتك بمعنى أخبرني ، نص عليه سيبويه والأخفش والفراء والفارسي وابن كيسان وغيرهم . وذلك تفسير معنى ، لا تفسير إعراب ، قالوا : فتقول العرب : أرأيت زيدا ما صنع ! فالمفعول الأول ملتزم فيه النصب ، ولا يجوز فيه الرفع على اعتبار تعليق أرأيت ، وهو جائز في علمت ورأيت الباقية على معنى علمت المجردة من معنى أخبرني; لأن أخبرني لا تعلق ، فكذلك ما كان بمعناها ، والجملة الاستفهامية في موضع المفعول الثاني . قال سيبويه : وتقول أرأيتك زيدا أبو من هو ؟ وأرأيتك عمرا أعندك هو أم عند فلان ؟ لا يحسن فيه إلا النصب في زيد ، ألا ترى أنك لو قلت : أرأيت أبو من أنت ؟ ، وأرأيت أزيد ثم أم فلان لم يحسن; لأن فيه معنى أخبرني عن زيد . ثم قال سيبويه : وصار الاستفهام في موضع المفعول الثاني . وقد اعترض كثير من النحاة على سيبويه وخالفوه ، وقالوا : كثيرا ما تعلق ( أرأيت ) ، وفي القرآن من ذلك كثير ، منه ( قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة أغير الله تدعون ) ، ( أرأيت الذي ينهى عبدا إذا صلى ) ، ( أرأيت إن كذب وتولى ألم يعلم ) . وقال الشاعر :


أرأيت إن جاءت به أملودا     مرجلا ويلبس البرودا
أقائلن أحضروا الشهودا

وذهب ابن كيسان إلى أن الجملة الاستفهامية في أرأيت زيدا ما صنع ؟ بدل من أرأيت . وزعم أبو الحسن أن أرأيتك إذا كانت بمعنى أخبرني ، فلا بد بعدها من الاسم المستخبر عنه ، وتلزم الجملة التي بعده الاستفهام; لأن أخبرني موافق لمعنى الاستفهام ، وزعم أيضا أنها تخرج عن بابها بالكلية ، وتضمن معنى ( أما ) ، أو تنبه ، وجعل من ذلك قوله تعالى : ( قال أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت ) . وقد أمعنا الكلام على أرأيت ، ومسائلها في كتابنا المسمى بالتذييل في شرح التسهيل ، وجمعنا فيه ما لا يوجد مجموعا في كتاب ، فيوقف عليه فيه ، ونحن نتكلم على كل مكان تقع فيه أرأيت ، في القرآن بخصوصيته . [ ص: 127 ] فنقول الذي نختاره أنها باقية على حكمها من التعدي إلى اثنين ، فالأول منصوب ، والذي لم نجده بالاستقراء إلا جملة استفهامية ، أو قسمية ، فإذا تقرر هذا ، فنقول : المفعول الأول في هذه الآية محذوف ، والمسألة من باب التنازع ، تنازع ( أرأيتكم ) ، والشرط على عذاب الله ، فأعمل الثاني ، وهو ( أتاكم ) ، فارتفع عذاب به ، ولو أعمل الأول لكان التركيب ( عذاب ) ، بالنصب ، ونظيره اضرب إن جاءك زيد ، على إعمال ( جاءك ) ، ولو نصب لجاز ، وكان من إعمال الأول ، وأما المفعول الثاني ، فهي الجملة الاستفهامية من ( أغير الله تدعون ) ، والرابط لهذه الجملة بالمفعول الأول محذوف تقديره : ( أغير الله تدعون ) لكشفه ، والمعنى : قل أرأيتكم عذاب الله إن أتاكم ، أو الساعة إن أتتكم ، أغير الله تدعون لكشفه ، أو كشف نوار لها ، وزعم أبو الحسن أن ( أرأيتكم ) في هذه الآية بمعنى أما . قال : وتكون أبدا بعد الشرط وظروف الزمان ، والتقدير : أما إن أتاكم عذابه والاستفهام جواب أرأيت ، لا جواب الشرط ، وهذا إخراج لأرأيت عن مدلولها بالكلية ، وقد ذكرنا تخريجها على ما استقر فيها ، فلا نحتاج إلى هذا التأويل البعيد . وعلى ما زعم أبو الحسن ، لا يكون لأرأيت مفعولان ، ولا مفعول واحد . وذهب بعضهم إلى أن مفعول ( أرأيتكم ) محذوف دل عليه الكلام ، تقديره : أرأيتكم عبادتكم الأصنام ، هل تنفعكم عند مجيء الساعة ؟ ودل عليه قوله : ( أغير الله تدعون ) . وقال آخرون : لا تحتاج هنا إلى جواب مفعول; لأن الشرط وجوابه قد حصلا معنى المفعول ، وهذان القولان ضعيفان ، وأما جواب الشرط ، فذهب الحوفي إلى أن جوابه ( أرأيتكم ) قدم لدخول ألف الاستفهام عليه ، وهذا لا يجوز عندنا ، وإنما يجوز تقديم جواب الشرط عليه في مذهب الكوفيين وأبي زيد والمبرد . وذهب غيره إلى أنه محذوف ، فقدره الزمخشري ، فقال : إن أتاكم عذاب الله ، أو أتتكم الساعة من تدعون ؟ وإصلاحه بدخول الفاء; أي فمن تدعون ؟ لأن الجملة الاستفهامية إذا وقعت جوابا للشرط ، فلا بد فيها من الفاء ؟ وقدره غيره; إن أتاكم عذاب الله ، أو أتتكم الساعة ، دعوتم الله ، ودل عليه الاستفهام في قوله : ( أغير الله تدعون ) . وقال الزمخشري : ويجوز أن يتعلق الشرط بقوله : ( أغير الله تدعون ) ، كأنه قيل : أغير الله تدعون إن أتاكم عذاب الله انتهى . فلا يجوز أن يتعلق الشرط بقوله : ( أغير الله ) لأنه لو تعلق به لكان جوابا للشرط ، فلا يجوز أن يكون جوابا للشرط; لأن جواب الشرط إذا كان استفهاما بالحرف ، لا يكون إلا بـ ( هل ) مقدما عليها الفاء ، نحو إن قام زيد فهل تكرمه ؟ ولا يجوز ذلك في الهمزة ، لا تتقدم الفاء على الهمزة ولا تتأخر عنها ، فلا يجوز إن قام زيد فأتكرمه ؟ ولا أفتكرمه ، ولا أتكرمنه ، بل إذا جاء الاستفهام جوابا للشرط ، لم يكن إلا بما يصح وقوعه بعد الفاء لا قبلها ، هكذا نقله الأخفش عن العرب ، ولا يجوز أيضا من وجه آخر; لأنا قد قررنا أن ( أرأيتك ) متعد إلى اثنين : أحدهما في هذه الآية محذوف ، وأنه من باب التنازع ، والآخر وقعت الجملة الاستفهامية موقعه ، فلو جعلتها جوابا للشرط لبقيت ( أرأيتكم ) متعدية إلى واحد ، وذلك لا يجوز ، وأيضا التزام العرب في الشرط الجائي بعد أرأيت ، مضي الفعل دليل على أن جواب الشرط محذوف; لأنه لا يحذف جواب الشرط إلا عند مضي فعله ، قال تعالى : ( قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله ) ، ( قل أرأيتم إن أخذ الله سمعكم وأبصاركم ) ، ( قل أرأيتم إن أتاكم عذابه بياتا ) ، ( قل أرأيتم إن أخذ الله ) ، ( أفرأيت إن متعناهم سنين ) ، ( أرأيت إن كذب وتولى ألم يعلم ) إلى غير ذلك من الآيات; وقال الشاعر :


أرأيت إن جاءت به أملودا

وأيضا فمجيء الجمل الاستفهامية مصدرة بهمزة الاستفهام ، دليل على أنها ليست جواب الشرط ، إذ لا يصح وقوعها جوابا للشرط . وقال الزمخشري : فإن قلت : إن علقت الشرطية ، يعني بقوله : ( أغير الله ) ، فما تصنع بقوله : ( فيكشف ما تدعون إليه ) مع قوله : [ ص: 128 ] ( أو أتتكم الساعة ) ! وقوارع الساعة لا تكشف عن المشركين ، قلت : قد اشترط في الكشف المشيئة ، وهو قوله : إن شاء إيذانا بأنه إن فعل ، كان له وجه من الحكمة ، إلا أنه لا يفعل لوجه آخر من الحكمة أرجح منه انتهى . وهذا مبني على أنه يجوز أن يتعلق الشرط بقوله : ( أغير الله ) ، وقد استدل للفاعل أن ذلك لا يجوز . وتلخص في جواب الشرط أقوال : أحدها; أنه مذكور ، وهو ( أرأيتكم ) ، المتقدم ، والآخر أنه مذكور ، وهو ( أغير الله تدعون ) . والثالث : أنه محذوف ، تقديره : من تدعون . والرابع : أنه محذوف ، تقديره : دعوتم الله ، هذا ما وجدناه منقولا . والذي نذهب إليه غير هذه الأقوال ، وهو أن يكون محذوفا لدلالة ( أرأيتكم ) عليه ، وتقديره : ( إن أتاكم عذاب الله ) ، فأخبروني عنه ، أتدعون غير الله لكشفه ؟ كما تقول : أخبرني عن زيد إن جاءك ما تصنع به ؟ التقدير : إن جاءك فأخبرني ، فحذف الجواب لدلالة أخبرني عليه ، ونظير ذلك أنت ظالم إن فعلت ، التقدير : فأنت ظالم ، فحذف فأنت ظالم ، وهو جواب الشرط لدلالة ما قبله عليه ، وهذا التقدير الذي قدرناه هو الذي تقتضيه قواعد العربية . و ( غير الله ) عنى به الأصنام التي كانوا يعبدونها ، وتقديم المفعول هنا بعد الهمزة ، يدل على الإنكار عليهم دعاء الأصنام ، إذ لا ينكر الدعاء ، إنما ينكر أن الأصنام تدعى ، كما تقول : أزيدا تضرب ؟ لا تنكر الضرب ، ولكن تنكر أن يكون محله زيدا . قال الزمخشري : بكتهم بقوله : ( أغير الله تدعون ) بمعنى أتخصون آلهتكم بالدعوة فيما هو عادتكم إذا أصابكم ضر ، أم تدعون الله دونها ؟ انتهى . وقدره بمعنى أتخصون; لأن عنده تقديم المفعول مؤذن بالتخصيص والحصر ، وقد تكلمنا فيما سبق في ذلك ، وأنه لا يدل على الحصر والتخصيص . وهذه الآية عند علماء البيان من باب استدراج المخاطب ، وهو أن يلين الخطاب ، ويمزجه بنوع من التلطف والتعطف ، حتى يوقع المخاطب في أمر يعترف به ، فتقوم الحجة عليه . والله تعالى خاطب هؤلاء الكفار بلين من القول ، وذكر لهم أمرا لا ينازعون فيه ، وهو أنهم كانوا إذا مسهم الضر ، دعوا الله لا غيره . وجواب ( إن كنتم صادقين ) محذوف ، تقديره : إن كنتم صادقين في دعواكم أن غير الله إله ، فهل تدعونه لكشف ما يحل بكم من العذاب ؟ ( بل إياه تدعون فيكشف ما تدعون إليه إن شاء وتنسون ما تشركون ) . ( إياه ) ضمير نصب منفصل ، وتقدم الكلام عليه في قوله : ( إياك نعبد ) مستوفى . وقال ابن عطية : هنا ( إياه ) اسم مضمر أجري مجرى المظهرات في أنه يضاف أبدا انتهى . وهذا مخالف لمذهب سيبويه ; لأن مذهب سيبويه أن ما اتصل بإيا من دليل تكلم أو خطاب أو غيبة ، وهو حرف لا اسم ، أضيف إليه إيا; لأن المضمر عنده لا يضاف; لأنه أعرف المعارف ، فلو أضيف لزم من ذلك تنكره حتى يضاف ، ويصير إذ ذاك معرفة بالإضافة ، لا يكون مضمرا ، وهذا فاسد . ومجيئه هنا مقدما على فعله دليل على الاعتناء بذكر المفعول ، وعند الزمخشري أن تقديمه دليل على الحصر والاختصاص; ولذلك قال : بل تخصونه بالدعاء دون الآلهة . والاختصاص عندنا والحصر فهم من سياق الكلام ، لا من تقديم المفعول على العامل . و ( بل ) هنا للإضراب والانتقال من شيء إلى شيء من غير إبطال; لما تضمنه الكلام السابق من معنى النفي; لأن معنى الجملة السابقة النفي ، وتقديرها : ما تدعون أصنامكم لكشف العذاب . وهذا كلام حق لا يمكن فيه الإضراب ، يعني الإبطال . و ( ما ) من قوله : ( ما تدعون ) الأظهر أنها موصولة; أي فيكشف الذي تدعون . قال ابن عطية : ويصح أن تكون ظرفية انتهى . ويكون مفعول ( يكشف ) محذوفا; أي فيكشف العذاب مدة دعائكم; أي ما دمتم داعيه ، وهذا فيه حذف المفعول ، وخروج عن الظاهر لغير حاجة ، ويضعفه وصل ( ما ) الظرفية بالمضارع ، وهو قليل جدا ، إنما بابها أن توصل بالماضي ، تقول : ألا أكلمك ما طلعت الشمس ، ولذلك علة أما ذكرت في علم النحو قال ابن [ ص: 129 ] عطية : ويصح أن تكون مصدرية على حذف في الكلام . وقال الزجاج : وهو مثل واسأل القرية انتهى . ويكون تقدير المحذوف ، فيكشف موجب دعائكم ، وهو العذاب ، وهذه دعوى محذوف غير متعين ، وهو خلاف الظاهر . والضمير في ( إليه ) عائد على ( ما ) الموصولة; أي إلى كشفه ، ودعا بالنسبة إلى متعلق الدعاء ، يتعدى بـ ( إلى ) ، قال الله تعالى : ( وإذا دعوا إلى الله ) الآية; وقال الشاعر :


وإن دعوت إلى جلى ومكرمة     يوما سراة كرام الناس فادعينا

وتتعدى باللام أيضا; قال الشاعر :


وإن أدع للجلى أكن من حماتها

وقال آخر :


دعوت لما نابني مسورا

وقال ابن عطية : والضمير في ( إليه ) يحتمل أن يعود إلى الله بتقدير فيكشف ما تدعون فيه إلى الله انتهى . وهذا ليس بجيد; لأن دعا بالنسبة إلى مجيب الدعاء ، إنما يتعدى لمفعول به دون حرف جر ، قال تعالى : ( ادعوني أستجب لكم ) ، ( أجيب دعوة الداع إذا دعان ) . ومن كلام العرب : دعوت الله سميعا ولا تقول بهذا المعنى دعوت إلى الله ، إلا أنه يمكن أن يصحح كلامه بدعوى التضمين ، ضمن يدعون معنى يلجأون ، كأنه قيل : فيكشف ما يلجأون فيه بالدعاء إلى الله ، لكن التضمين ليس بقياس ، ولا يصار إليه إلا عند الضرورة ، ولا ضرورة هنا تدعو إليه . وعلق تعالى الكشف بمشيئته ، فإن شاء أن يتفضل بالكشف ، فعل ، وإن لم يشأ ، لم يفعل ، لا يجب عليه شيء . قال الزمخشري : إن شاء : إن أراد أن يتفضل عليكم ، ولم تكن مفسدة انتهى . وفي قوله : ولم تكن مفسدة دسيسة الاعتزال ، وظاهر قوله : ( وتنسون ما تشركون ) النسيان حقيقة ، والذهول والغفلة عن الأصنام; لأن الشخص إذا دهمه ما لا طاقة له بدفعه ، تجرد خاطره من كل شيء ، إلا من الله الكاشف لذاك الداهم ، فيكاد يصير الملجأ إلى التعلق بالله والذهول عن من سواه ، فلا يذكر غير الله القادر على كشف ما دهم . وقال الزمخشري : ( وتنسون ما تشركون ) وتكرهون آلهتكم ، وهذا فيه بعد . وقال ابن عطية : تتركونهم ، وتقدم قوله هذا ، وسبقه إليه الزجاج ، فقال : تتركونهم لعلمكم أنهم في الحقيقة لا يضرون ولا ينفعون . وقال النحاس : هو مثل قوله : ( ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ) . وقيل : يعرضون إعراض الناسي لليأس من النجاة من قبله . و ( ما ) موصولة; أي وتنسون الذي تشركون . وقيل : ( ما ) مصدرية; أي وتنسون إشراككم ، ومعنى هذه الجمل ، بل لا ملجأ لكم إلا الله تعالى ، وأصنامكم مطرحة منسية ، قاله ابن عطية .

التالي السابق


الخدمات العلمية