صفحة جزء
( وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم ) الجمهور أنها نزلت في الذين نهى الله عن طردهم فكان إذا رآهم بدأهم بالسلام وقال : الحمد لله الذي جعل في أمتي من أبدأهم بالسلام . وقيل : الذين صوبوا رأي أبي طالب في طرد الضعفة . وقال الفضيل بن عياض : قال قوم : قد أصبنا ذنوبا فاستغفر لنا فأعرض عنهم فنزلت . وقيل : نزلت في عمر حين أشار بإجابة الكفرة ولم يعلم أنها مفسدة ، وعلى هذه الأسباب يكون تفسير ( الذين يؤمنون ) فإن كان عنى بهم الستة الذين نهى عن طردهم فيكون من باب العام أريد به الخاص ، ويكون قوله ( سلام عليكم ) أمرا بإكرامهم وتنبيها على خصوصية تشريفهم بهذا النوع من الإكرام ، وإن كان عنى عمر حين اعتذر واستغفر وقال : ما أردت بذلك إلا الخير ، كان من إطلاق الجمع على الواحد المعظم ، والظاهر أنه يراد به المؤمنون من غير تخصيص لا بالستة ولا بغيرهم ، وإنها استئناف إخبار من الله - تعالى - بعد تقصي خبر أولئك الذين نهى عن طردهم ، ولو كانوا إياهم لكان التركيب الأحسن : وإذا جاءوك ، والآيات هنا آيات القرآن وعلامات النبوة . وقال أبو عبد الله الرازي : آيات الله آيات وجوده وآيات صفات جلاله وإكرامه وكبريائه ووحدانيته ، وما سوى الله لا نهاية له ، ولا سبيل للعقول إلى الوقوف عليه على التفصيل التام ، إلا أن الممكن هو أن يطلع على بعض الآيات ثم يؤمن بالبقية على سبيل الإجمال ، ثم يكون مدة حياته كالسابح في تلك البحار وكالسائح في تلك القفار ، ولما كان لا نهاية لها فكذلك لا نهاية في ترقي العبد في معارج تلك الآيات ، وهذا مشرع جملي لا نهاية لتفاصيله ، ثم إن العبد إذا كان موصوفا بهذه الصفات فعندها أمر الله نبيه محمدا - صلى الله عليه وسلم - بأن يقول لهم : سلام عليكم ، فيكون هذا التسليم بشارة بحصول الكرامة عقيب تلك السلامة والنجاة من بحر عالم الظلمات ومركز الجسمانيات ومعدن الآفات [ ص: 140 ] والمخافات وموضع التغييرات والتبديلات ، وأما الكرامة بالوصول إلى الباقيات الصالحات المجردات المقدسات والوصول إلى فسحة عالم الأنوار والترقي إلى معارج سرادقات الجلال . انتهى كلامه . وهو تكثير لا طائل تحته طافح بإشارات أهل الفلسفة بعيد من مناهج المتشرعين وعن مناحي كلام العرب ومن غلب عليه شيء حتى في غير مظانه ، ولله در القائل يغري منصور الموحدين بأهل الفلسفة من قصيدة :


وحرق كتبهم شرقا وغربا ففيها كامن شر العلوم     يدب إلى العقائد من أذاها
سموم والعقائد كالجسوم



وقال المبرد : السلام في اللغة اسم من أسماء الله - تعالى - وجمعه سلامة ومصدر واسم شجر . وقال الزجاج : مصدر لسلم تسليما وسلاما كالسراح من سرح والأداء من أدى . وقال عكرمة والحسن : أمر بابتداء السلام عليهم تشريفا لهم . وقال ابن زيد : أمر بإبلاغ السلام عليهم من الله ، وقيل : معنى السلام هنا الدعاء من الآفات . وقال أبو الهيثم : السلام والتحية بمعنى واحد ، ومعنى السلام عليكم : حياكم الله . وقال الزمخشري : إما أن يكون أمر بتبليغ سلام الله إليهم وإما أن يكون أمر بأن يبدأهم بالسلام إكراما لهم وتطييبا لقلوبهم . انتهى . وترديده : إما وإما ، الأول قول ابن زيد والثاني قول عكرمة . وقال ابن عطية : لفظه لفظ الخبر وهو في معنى الدعاء ، وهذا من المواضع التي جاز فيها الابتداء بالنكرة إذ قد تخصصت . انتهى . والتخصيص الذي يعنيه النحاة في النكرة التي يبتدأ بها هو أن تتخصص بالوصف أو العمل أو الإضافة ، و ( سلام ) ليس فيه شيء من هذه التخصيصات ، وقد رام بعض النحويين أن يجعل جواز الابتداء بالنكرة راجعا إلى التخصيص والتعميم ، والذي يظهر من كلام ابن عطية أنه يعني بقوله : إذ قد تخصصت ، أي استعملت في الدعاء فلم تبق النكرة على مطلق مدلولها الوصفي ؛ إذ قد استعملت يراد بها أحد ما تحتمله النكرة .

التالي السابق


الخدمات العلمية