صفحة جزء
( وهو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار ثم يبعثكم فيه ليقضى أجل مسمى ثم إليه مرجعكم ثم ينبئكم بما كنتم تعملون ) ، مناسبة هذه الآية لما قبلها أنه تعالى لما ذكر استئثاره بالعلم التام للكليات والجزئيات ذكر استئثاره بالقدرة التامة تنبيها على ما تختص به الإلهية وذكر شيئا محسوسا قاهرا للأنام وهو التوفي بالليل والبعث بالنهار وكلاهما ليس للإنسان فيه قدرة ، بل هو أمر يوقعه الله - تعالى - بالإنسان ، والتوفي عبارة في العرف عن الموت ، وهنا المعنى به النوم على سبيل المجاز للعلاقة التي بينه وبين الموت وهي زوال إحساسه ومعرفته وفكره . ولما كان التوفي المراد به النوم سببا للراحة أسنده تعالى إليه ، وما كان بمعنى الموت مؤلما قال : ( قل يتوفاكم ملك الموت ) ، و ( توفته رسلنا ) ، و ( تتوفاهم الملائكة ) ، والظاهر أن الخطاب عام لكل سامع . وقال الزمخشري : الخطاب للكفرة ، وخص الليل بالنوم والبعث بالنهار وإن كان قد ينام بالنهار ويبعث بالليل حملا على الغالب ، ، ومعنى جرحتم كسبتم ، ومنه جوارح الطير أي كواسبها واجترحوا السيئات اكتسبوها ، والمراد منها أعمال الجوارح ، ومنه قيل للأعضاء جوارح . قال ابن عطية : ويحتمل أن يكون من الجرح كأن الذنب جرح في الدين ، [ ص: 147 ] والعرب تقول : وجرح اللسان كجرح اليد . وقال مكي : أصل الاجتراح عمل الرجل بجارحة من جوارحه يده أو رجله ، ثم كثر حتى قيل لكل مكتسب مجترح وجارح ، وظاهر قوله : ( ما جرحتم ) العموم في المكتسب خيرا كان أو شرا . وقال الزمخشري : ما كسبتم من الآثام . انتهى . وهو قول ابن عباس . وقال قتادة : ما عملتم . وقال مجاهد : ما كسبتم ، والبعث هنا هو التنبه من النوم ، والضمير في ( فيه ) عائد على النهار ، قاله مجاهد وقتادة والسدي ، عاد عليه لفظا ، والمعنى في يوم آخر كما تقول : عندي درهم ونصفه ، وقال عبد الله بن كثير يعود على التوفي أي يوقظكم في التوفي أي في خلاله وتضاعيفه . وقيل : يعود على الليل . وقال الزمخشري : ثم يبعثكم من القبور في شأن ذلك الذي قطعتم به أعماركم من النوم بالليل وكسب الآثام بالنهار ومن أجله ، كقولك : فيم دعوتني ، فتقول : في أمر كذا . انتهى . وحمله على البعث من القبور ينبو عنه قوله : ( ليقضى أجل مسمى ) ; لأن المعنى ، والله أعلم ، أنه تعالى يحييهم في هاتين الحالتين من النوم واليقظة ليستوفوا ما قدر لهم من الآجال والأعمال المكتوبة ، وقضاء الأجل فصل مدة العمر من غيرها ومسمى في علم الله أو في اللوح المحفوظ أو عند تكامل الخلق ونفخ الروح ، ففي الصحيح أن الملك يقول عند كمال ذلك : فما الرزق فما الأجل . وقال الزمخشري : هو الأجل الذي سماه وضربه لبعث الموتى وجزائهم على أعمالهم ، ( ثم إليه مرجعكم ) هو المرجع إلى موقف الحساب ، ( ثم ينبئكم بما كنتم تعملون ) في ليلكم ونهاركم . انتهى . وقال غيره كابن جبير : ( مرجعكم ) بالموت الحقيقي . ولما ذكر تعالى النوم واليقظة كان ذلك تنبيها على الموت والبعث وأن حكمهما بالنسبة إليه تعالى واحد فكما أنام وأيقظ يميت ويحيي . وقرأ طلحة وأبو رجاء : ( ليقضي أجلا مسمى ) ، بنى الفعل للفاعل ونصب ( أجلا ) أي ليتم الله آجالهم ، كقوله : ( فلما قضى موسى الأجل ) في قراءة الجمهور ، ويحتمل أن يكون الفاعل المحذوف ضميره أو ضميرهم .

( وهو القاهر فوق عباده ويرسل عليكم حفظة ) تقدم الكلام في تفسير ( وهو القاهر فوق عباده ) . قال هنا ابن عطية : القاهر إن أخذ صفة فعل أي مظهر القهر بالصواعق والرياح والعذاب ، فيصح أن تجعل ( فوق ) ظرفية للجهة لأن هذه الأشياء إنما تعاهدها للعباد من فوقهم ، وإن أخذ القاهر صفة ذات بمعنى القدرة والاستيلاء ففوق لا يجوز أن يكون للجهة وإنما هو لعلو القدر والشأن ، كما تقول : الياقوت فوق الحديد . انتهى . وظاهر ( ويرسل ) أن يكون معطوفا على ( وهو القاهر ) عطف جملة فعلية على جملة اسمية وهي من آثار القهر . وجوز أبو البقاء أن تكون معطوفة على قوله : ( يتوفاكم ) وما بعده من الأفعال ، وأن يكون معطوفا على ( القاهر ) التقدير : وهو الذي يقهر ويرسل ، وأن يكون حالا على إضمار مبتدإ أي وهو يرسل ، وذو الحال إما الضمير في (القاهر ) وإما الضمير في الظرف ، وهذا أضعف هذه الأعاريب ، و ( عليكم ) ظاهره أنه متعلق بيرسل كقوله : ( يرسل عليكما شواظ ) ، ولفظة ( على ) مشعرة بالعلو والاستعلاء لتمكنهم منا جعلوا كأن ذلك علينا ، ويحتمل أن يكون متعلقا بـ ( حفظة ) أي ويرسل حفظة عليكم أي يحفظون عليكم أعمالكم ، كما قال : ( وإن عليكم لحافظين ) ، كما تقول : حفظت عليك ما تعمل . وجوزوا أن يكون حالا لأنه لو تأخر لكان صفة أي حفظة كائنة عليكم أي مستولين عليكم ، و ( حفظة ) جمع حافظ وهو جمع منقاس لفاعل وصفا مذكرا صحيح اللام عاقلا وقل فيما لا يعقل . قال الزمخشري : أي ملائكة حافظين لأعمالكم وهم الكرام الكاتبون . انتهى . وقال ابن عطية : المراد بذلك الملائكة الموكلون بكتب الأعمال . انتهى . وما قالاه هو قول ابن عباس ، وظاهر الجمع أنه مقابل الجمع ، ولم تتعرض الآية لعدد ما على كل واحد ولا لما يحفظون عليه . وعن ابن عباس : ملكان مع كل إنسان أحدهما عن يمينه [ ص: 148 ] للحسنات ، والآخر عن شماله للسيئات ، وإذا عمل سيئة قال من على اليمين : انتظره لعله يتوب منها ، فإن لم يتب كتبت عليه . وقيل : ملكان بالليل وملكان بالنهار أحدهما يكتب الخير والآخر يكتب الشر ، فإذا مشى كان أحدهما بين يديه والآخر وراءه ، وإذا جلس فأحدهما عن يمينه والآخر عن شماله . وقيل : خمسة من الملائكة : اثنان بالليل واثنان بالنهار وواحد لا يفارقه ليلا ولا نهارا ، والمكتوب الحسنة والسيئة . وقيل : الطاعات والمعاصي والمباحات . وقيل : لا يطلعون إلا على القول والفعل لقوله : ( ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد ) ولقوله : ( يعلمون ما تفعلون ) وأما أعمال القلوب فعلمه لله تعالى . وقيل : يطلعون عليها على الإجمال لا على التفصيل ، فإذا عقد سيئة خرجت من فيه ريح خبيثة ، أو حسنة خرجت ريح طيبة . وقال الزمخشري : ( فإن قلت ) : الله غني بعلمه عن كتب الكتبة فما فائدتها ؟ ( قلت ) : فيها لطف للعباد لأنهم إذا علموا أن الله رقيب عليهم ، والملائكة الذين هم أشرف خلقه موكلون بهم يحفظون عليهم أعمالهم ويكتبونها في صحائف تعرض على رءوس الأشهاد في مواقف القيامة - كان ذلك أزجر لهم عن القبيح وأبعد من السوء . انتهى . وقوله : والملائكة الذين هم أشرف خلقه هو جار على مذهب المعتزلة في الملائكة ، ولا تتعين هذه الفائدة إذ يحتمل أن تكون الفائدة فيها أن توزن صحائف الأعمال يوم القيامة لأن وزن الأعمال بمجردها لا يمكن ، وهذه الفائدة جارية على مذهب أهل السنة ، وأما المعتزلة فتأولوا الوزن والميزان ، ولا يشعر قوله : ( حفظة ) أن ذلك الحفظ بالكتابة كما فسروا ، بل قد قيل : هم الملائكة الذين قال فيهم النبي - صلى الله عليه وسلم - : " تتعاقب فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار " ، قاله قتادة والسدي . وقيل : يحفظون الإنسان من كل شيء حتى يأتي أجله .

( حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا ) أي أسباب الموت ، توفته قبضت روحه ، رسلنا جاء جمعا . فقيل : عنى به ملك الموت - عليه السلام - وأطلق عليه الجمع تعظيما . وقيل : ملك الموت وأعوانه ، والأكثرون على أن ( رسلنا ) عين الحفظة يحفظونهم مدة الحياة ، وعند مجيء أسباب الموت يتوفونهم ، ولا تعارض بين قوله : ( الله يتوفى الأنفس حين موتها ) وبين قوله : ( قل يتوفاكم ملك الموت ) وبين قوله : ( توفته رسلنا ) ; لأن نسبة ذلك إلى الله - تعالى - بالحقيقة ولغيره بالمباشرة ، ولملك الموت لأنه هو الآمر لأعوانه ، وله ولهم بكونهم هم المتولون قبض الأرواح . وعن مجاهد : جعلت الأرض له كالطست يتناول منه من يتناوله وما من أهل بيت إلا ويطوف عليهم في كل يوم مرتين . وقرأ حمزة : توفاه بألف ممالة ، وظاهره أنه فعل ماض كتوفته إلا أنه ذكر على معنى الجمع ، ومن قرأ : توفته أنث على معنى الجماعة ، ويحتمل أن يكون مضارعا وأصله تتوفاه فحذفت إحدى التاءين على الخلاف في تعيين المحذوفة . وقرأ الأعمش : يتوفاه بزيادة ياء المضارعة على التذكير .

( وهم لا يفرطون ) جملة حالية والعامل فيها توفته ، أو استئنافية أخبر عنهم بأنهم لا يفرطون في شيء مما أمروا به من الحفظ والتوفي ومعناه : لا يقصرون . وقرأ الأعرج وعمرو بن عبيد : لا يفرطون بالتخفيف أي لا يجاوزون الحد فيما أمروا به . قال الزمخشري : فالتفريط : التولي والتأخر عن الحد ، والإفراط مجاوزة الحد ، أي لا ينقصون مما أمروا به ولا يزيدون فيه . انتهى . وهو معنى كلام ابن جني . وقال ابن بحر : يفرطون : لا يدعون أحدا يفرط عنهم أي يسبقهم ويفوتهم . وقيل : يجوز أن تكون قراءة التخفيف معناها لا يتقدمون على أمر الله ، وهذا لا يصح إلا إذا نقل أن أفرط بمعنى فرط أي تقدم . وقال الحسن : إذا [ ص: 149 ] احتضر الميت احتضره خمسمائة ملك يقبضون روحه فيعرجون بها .

( ثم ردوا إلى الله مولاهم الحق ) الظاهر عود الضمير على العباد ، وجاء عليكم على سبيل الالتفات لما في الخطاب من تقريب الموعظة من السامعين ، ويحتمل أن يعود الضمير في ردوا على أحدكم على المعنى لأنه لا يريد بـ ( أحدكم ) ظاهره من الإفراد إنما معناه الجمع ، وكأنه قيل : حتى إذا جاءكم الموت ، وقرئ : ردوا بكسر الراء ، نقل حركة الدال التي أدغمت إلى الراء ، والراد المحذر من الله ، أو بالبعث في الآخرة ، أو الملائكة ردتهم بالموت إلى الله . وقيل : الضمير يعود على ( رسلنا ) أي الملائكة يموتون كما يموت بنو آدم ويردون إلى الله - تعالى - وعوده على العباد أظهر ، ومولاهم لفظ عام لأنواع الولاية التي تكون بين الله وبين عبيده من الملك والنصرة والرزق والمحاسبة وغير ذلك ، وفي الإضافة إشعار برحمته لهم ، وظاهر الإخبار بالرد إلى الله أنه يراد به البعث والرجوع إلى حكم الله وجزائه يوم القيامة ويدل عليه آخر الآية . وقال أبو عبد الله الرازي : صريح الآية يدل على حصول الموت للعبد ورده إلى الله ، والميت مع كونه ميتا لا يمكن أن يرد إلى الله بل المردود هو النفس والروح ، وهنا موت وحياة ، فالموت نصيب البدن والحياة نصيب النفس والروح ، فثبت أن الإنسان ليس إلا النفس والروح ، وليس عبارة عن مجرد هذه البنية ، وفي قوله : ( ردوا إلى الله ) إشعار بكون الروح موجودة قبل البدن لأن الرد من هذا العالم إلى حضرة الجلال إنما يكون إذا كانت موجودة قبل التعلق بالبدن ، ونظيره ( ارجعي إلى ربك ) ، ( إلى الله مرجعكم جميعا ) ، وجاء في الحديث : " خلقت الأرواح قبل الأجساد بألفي عام " . وحجة الفلاسفة على كون النفوس غير موجودة قبل وجود البدن ضعيفة ، وبينا ضعفها في الكتب العقلية ، انتهى كلامه وفيه بعض تلخيص . وقال أيضا : ( إلى الله ) يشعر بالجهة وهو باطل فوجب حمله على أنهم ردوا إلى حيث لا مالك ولا حاكم سواه . انتهى . والظاهر أن هذا الرد هو بالبعث يوم القيامة لا ما أراده الرازي ، ووصفه تعالى بالحق معناه العدل الذي ليس بباطل ولا مجاز . وقال أبو عبد الله الرازي : كانوا في الدنيا تحت تصرفات الموالي الباطلة وهي النفس والشهوة والغضب ، كما قال تعالى : ( أفرأيت من اتخذ إلهه هواه ) ، فلما مات تخلص من تصرفات الموالي الباطلة ، وانتقل إلى تصرف المولى الحق . انتهى كلامه . وتفسيره خارج عن مناحي كلام العرب ومقاصدها ، وهو في أكثره شبيه بكلام الذين يسمون أنفسهم حكماء . وقرأ الحسن والأعمش : ( الحق ) بالنصب ، والظاهر أنه صفة قطعت فانتصبت على المدح ، وجوز نصبه على المصدر ، تقديره : الرد الحق .

( ألا له الحكم ) تنبيه منه تعالى عباده بأن جميع أنواع التصرفات له . وقال الزمخشري : ألا له الحكم يومئذ لا حكم فيه لغيره .

( وهو أسرع الحاسبين ) تقدم الكلام في سرعة حسابه تعالى في قوله : ( والله سريع الحساب ) .

التالي السابق


الخدمات العلمية