صفحة جزء
( إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا ) أي : أقبلت بقصدي وعبادتي وتوحيدي وإيماني وغير ذلك مما يعمه المعنى المعبر عنه ( بوجهي ) للذي ابتدع العالم محل هذه النيرات المحدثات وغيرها ، واكتفى بالظرف عن المظروف لعمومه ، إذ هذه النيرات مظروف السماوات ، ولما كانت الأصنام التي يعبدها قومه من خشب وحجارة ، وذكر ظرف النيرات ، عطف عليه الأرض التي هي ظرف الخشب والحجارة ، و ( حنيفا ) مائلا عن كل دين إلى دين الحق ، وهو عبادة الله ، تعالى " مسلما " أي : منقادا إليه مستسلما له ، ( وما أنا من المشركين ) ، ولما أنكر على أبيه عبادة الأصنام وضلله وقومه ، ثم استدل على ضلالهم بقضايا العقول ، إذ لا يذعنون للدليل السمعي لتوقفه في الثبوت على مقدمات كثيرة ، وأبدى تلك القضايا منوطة بالحس الصادق - تبرأ من عبادتهم ، وأكد ذلك بـ ( إن ) ثم أخبر أنه وجه عبادته لمبدع العالم التي هذه النيرات المستدل بها بعضه ، ثم نفى عن نفسه أن يكون من المشركين مبالغة في التبرؤ منهم .

( وحاجه قومه قال أتحاجوني في الله وقد هدان ) المحاجة مفاعلة من اثنين مختلفين في حكمين يدلي كل منهما بحجته على صحة دعواه ، والمعنى : وحاجه قومه في توحيد الله ونفي الشركاء عنه منكرين لذلك ، ومحاجة مثل هؤلاء إنما هي بالتمسك باقتفاء آبائهم تقليدا ، وبالتخويف من ما يعبدونه من الأصنام ، كقول قوم هود : ( إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء ) ، فأجابهم بأن الله قد هداه بالبرهان القاطع على توحيده ورفض ما سواه وأنه لا يخاف من آلهتهم ، وقرأ نافع وابن عامر بخلاف عن هشام : ( أتحاجوني ) بتخفيف النون ، وأصله بنونين ، الأولى علامة الرفع والثانية نون الوقاية ، والخلاف في المحذوف منهما مذكور في علم النحو ، وقد لحن بعض النحويين من قرأ بالتخفيف وأخطأ في ذلك ، وقال مكي : الحذف بعيد في العربية قبيح مكروه ، وإنما يجوز في الشعر للوزن ، والقرآن لا يحتمل ذلك فيه ، إذ لا ضرورة تدعو إليه ، وقول مكي ليس بالمرتضى ، وقيل : التخفيف لغة لغطفان ، وقرأ باقي السبعة بتشديد النون ، أصله أتحاجونني ، فأدغم هروبا من استثقال المثلين متحركين فخفف بالإدغام ، ولم يقرأ هناك بالفك ، وإن كان هو الأصل ، ويجوز في الكلام .

و ( في الله ) متعلق بـ " أتحاجوني " لا بقوله " وحاجه قومه " . والمسألة من باب الإعمال ، إعمال الثاني ، فلو كان متعلقا بالأول لأضمر في الثاني ، ونظيره ( يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة ) ، والجملة من قوله ( وقد هدان ) حالية ، أنكر عليهم أن تقع منهم محاجة له ، وقد حصلت من الله له الهداية لتوحيده ، فمحاجتهم لا تجدي لأنها داحضة .

( ولا أخاف ما تشركون به إلا أن يشاء ربي شيئا ) حكي أن الكفار قالوا لإبراهيم - عليه السلام - : أما خفت أن تصيبك آلهتنا ببرص أو داء لإذايتك لها وتنقيصك ، فقال لهم : لست أخاف الذي تشركون به لأنه لا قدرة له ولا غنى عنده ، و ( ما ) بمعنى الذي ، والضمير في " به " عائد عليه ، أي : الذي تشركون به الله - تعالى - ويجوز أن يعود على الله ، أي : الذي تشركونه بالله في الربوبية ، و ( إلا أن يشاء ربي ) قال ابن عطية : استثناء ليس من الأول ، ولما كانت قوة الكلام أنه لا يخاف ضرا استثنى مشيئة ربه - تعالى - في أن يريده بضر . انتهى . فيكون استثناء منقطعا ، وبه قال الحوفي ، فيصير المعنى : لكن مشيئة الله إياي بضر أخاف ، وقال الزمخشري : " إلا أن يشاء ربي " إلا وقت مشيئة ربي شيئا يخاف ، فحذف الوقت ، يعني لا أخاف معبوداتكم في وقت قط لأنها لا تقدر على منفعة ولا على مضرة ، إلا أن يشاء ربي أن يصيبني [ ص: 170 ] بمخوف من جهتها إن أصبت ذنبا أستوجب به إنزال المكروه ، مثل أن يرجمني بكوكب ، أو بشقة من الشمس والقمر ، أو يجعلها قادرة على مضرتي . انتهى . فيكون استثناء متصلا من عموم الأزمان الذي تضمنه النفي ، وجوز أبو البقاء أن يكون متصلا ومنقطعا إلا أنه جعله متصلا مستثنى من الأحوال ، وقدره : إلا في حال مشيئة ربي أي : لا أخافها في كل حال إلا في هذه الحال ، وانتصب " شيئا " على المصدر أي مشيئة ، أو على المفعول به .

( وسع ربي كل شيء علما ) ذكر عقيب الاستثناء سعة علم الله في تعلقه بجميع الكوائن ، فقد لا يستبعد أن يتعلق علمه بإنزال المخوف بي إما من جهتها إن كان استثناء متصلا ، أو مطلقا إن كان منقطعا ، وانتصب " علما " على التمييز المحول من الفاعل ، أصله وسع علم ربي كل شيء .

( أفلا تتذكرون ) تنبيه لهم على غفلتهم حيث عبدوا ما لا يضر ولا ينفع ، وأشركوا بالله ، وعلى ما حاجهم به من إظهار الدلائل التي أقامها على عدم صلاحية هذه الأصنام للربوبية . وقال الزمخشري : ( أفلا تتذكرون ) فتميزوا بين الصحيح والفاسد والقادر والعاجز ، وقيل : أفلا تتعظون بما أقول لكم ، وقال أبو عبد الله الرازي : ( أفلا تتذكرون ) أن نفي الشركاء والأضداد والأنداد عن الله لا يوجب حلول العذاب ونزول العقاب .

( وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطانا ) استفهام معناه التعجب والإنكار ، كأنه تعجب من فساد عقولهم حيث خوفوه خشبا وحجارة لا تضر ولا تنفع ، وهم لا يخافون عقبى شركهم بالله وهو الذي بيده النفع والضر والأمر كله ، ( ولا تخافون ) معطوف على ( أخاف ) فهو داخل في التعجب والإنكار ، واختلف متعلق الخوف ، فبالنسبة إلى إبراهيم علق الخوف بالأصنام ، وبالنسبة إليهم علقه بإشراكهم بالله - تعالى - تركا للمقابلة ، ولئلا يكون الله عديل أصنامهم لو كان التركيب ولا تخافون الله - تعالى - وأتى بلفظ ( ما ) الموضوعة لما لا يعقل لأن الأصنام لا تعقل إذ هي حجارة وخشب وكواكب ، والسلطان الحجة ، والإشراك لا يصح أن يكون عليه حجة ، وكأنه لما أقام الدليل العقلي على بطلان الشركاء وربوبيتهم ، نفى أيضا أن يكون على ذلك دليل سمعي ، فالمعنى أن ذلك ممتنع عقلا وسمعا فوجب اطراحه ، وقرئ : ( سلطانا ) بضم اللام ، والخلاف هل ذلك لغة فيثبت به بناء فعلان بضم الفاء والعين ، أو هو اتباع فلا يثبت به .

( فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون ) لما خوفوه في مكان الأمن ، ولم يخافوا في مكان الخوف ، أبرز الاستفهام في صورة الاحتمال وإن كان قد علم قطعا أنه هو الآمن لا هم ، كما قال الشاعر :

[ ص: 171 ]

فلئن لقيتك خاليين لتعلمن أيي وأيك فارس الأحزاب



أي أينا ، ومعلوم عنده أنه هو فارس الأحزاب لا المخاطب ، وأضاف أيا إلى الفريقين ، ويعني فريق المشركين وفريق الموحدين ، وعدل عن : أينا أحق بالأمن أنا أم أنتم ، احترازا من تجريد نفسه ، فيكون ذلك تزكية لها ، وجواب الشرط محذوف ، أي : إن كنتم من ذوي العلم والاستبصار فأخبروني أي هذين الفريقين أحق بالأمن .

( الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون ) الظاهر أنه من كلام إبراهيم ، لما استفهمهم استفهام عالم بمن هو الآمن وأبرزه في صورة السائل الذي لا يعلم ، استأنف الجواب عن السؤال ، وصرح بذلك المحتمل فقال : الفريق الذي هو أحق بالأمن هم الذين آمنوا ، وقيل : هو من كلام قوم إبراهيم ، أجابوا بما هو حجة عليهم ، وقيل : هو من كلام الله ، أمر إبراهيم أن يقوله لقومه ، أو قاله على جهة فصل القضاء بين خلقه وبين من حاجه قومه ، واللبس : الخلط ، والذين آمنوا : إبراهيم وأصحابه ، وليست في هذه الأمة ، قاله علي ، وعنه : إبراهيم خاصة ، أو من هاجر إلى المدينة ، قاله عكرمة ، أو عامة ، قاله بعضهم ، وهو الظاهر ، والظلم هنا الشرك ، قاله ابن مسعود وأبي ، وعن جماعة من الصحابة أنه لما نزلت أشفق الصحابة وقالوا : أينا لم يظلم نفسه ؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إنما ذلك كما قال لقمان : ( إن الشرك لظلم عظيم ) " ، ولما قرأها عمر عظمت عليه ، فسأل أبيا فقال : إنه الشرك يا أمير المؤمنين ، فسري عنه ، وجرى لزيد بن صوحان مع سلمان نحو مما جرى لعمر مع أبي ، وقرأ مجاهد : ( ولم يلبسوا إيمانهم بشرك ) ، ولعل ذلك تفسير معنى ، إذ هي قراءة تخالف السواد ، وقال الزمخشري : أي لم يخلطوا إيمانهم بمعصية تفسقهم ، وأبى تفسير الظلم بالكفر لفظ اللبس . انتهى . وهذه دفينة اعتزال أي : إن الفاسق ليس له الأمن إذا مات مصرا على الكبيرة ، وقوله : وأبى تفسير الظلم بالكفر لفظ اللبس ، هذا رد على من فسر الظلم بالكفر والشرك ، وهم الجمهور ، وقد فسره الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالشرك ، فوجب قبوله ، ولعل الزمخشري لم يصح له ذلك عن الرسول ، وإنما جعله يأباه لفظ اللبس لأن اللبس هو الخلط ، فيمكن أن يكون الشخص في وقت واحد مؤمنا عاصيا معصية تفسقه ، ولا يمكن أن يكون مؤمنا مشركا في وقت واحد ، و ( لم يلبسوا ) يحتمل أن يكون معطوفا على الصلة ، ويحتمل أن يكون حالا دخلت واو الحال على الجملة المنفية بلم ، كقوله تعالى : ( أنى يكون لي غلام ولم يمسسني بشر ) ، وما ذهب إليه ابن عصفور من أن وقوع الجملة المنفية بـ ( لم ) قليل جدا ، وابن خروف من وجوب الواو فيها وإن كان فيها ضمير يعود على ذي الحال - خطأ ، بل ذلك قليل ، وبغير الواو كثير ، على ذلك لسان العرب وكلام الله ، وقرأ عكرمة : ( ولم يلبسوا ) بضم الياء ، ويجوز في ( الذين ) أن يكون خبر مبتدأ محذوف ، وأن يكون خبره المبتدأ ، والخبر الذي هو ( أولئك لهم الأمن ) ، وأبعد من جعل ( لهم الأمن ) خبر الذين ، وجعل ( أولئك ) فاصلة ، وهو النحاس والحوفي .

التالي السابق


الخدمات العلمية