صفحة جزء
( وجعلوا لله شركاء الجن وخلقهم ) لما ذكر تعالى ما اختص به من باهر قدرته ومتقن صنعته [ ص: 193 ] وامتنانه على عالم الإنسان بما أوجد له مما يحتاج إليه في قوام حياته ، وبين ذلك آيات لقوم يعلمون ، ولقوم يفقهون ، ولقوم يؤمنون ذكر ما عاملوا به منشئهم من العدم وموجد أرزاقهم من إشراك غيره له في عبادته ، ونسبة ما هو مستحيل عليه من وصفه بسمات الحدوث من البنين والبنات ، وقال الكلبي : نزلت في الزنادقة ، قالوا : إن الله خالق الناس والدواب ، وإبليس خالق الحيات والعقارب والسباع ، ويقرب من هذا قول المجوس ، قالوا : للعالم صانعان : إله قديم ، والثاني شيطان حادث من فكرة الإله القديم ، وكذلك الحائطية من المعتزلة من أصحاب أحمد بن حائط زعموا أن للعالم صانعين : الإله القديم والآخر محدث خلقه الله أولا ثم فوض إليه تدبير العالم ، وهو الذي يحاسب الخلق في الآخرة . والضمير في ( وجعلوا ) عائد على الكفار لأنهم مشركون وأهل كتاب ، وقيل : هو عائد على عبدة الأوثان ، والنصارى قالت : المسيح ابن الله ، واليهود قالوا : عزير ابن الله ، وطوائف من العرب جعلوا لله - تعالى - بنات الملائكة ، وبنو مدلج زعموا أن الله - تعالى - صاهر الجن فولدت له الملائكة ، وقد قيل : إن من الملائكة طائفة يسمون الجن ، وإبليس منهم ، وهم خدم الجنة . وقال الحسن : هذه الطوائف كلها أطاعوا الشيطان في عبادة الأوثان واعتقدوا الإلهية فيمن ليست له ، فجعلوهم شركاء لله في العبادة . وظاهر الكلام أنهم جعلوا لله شركاء الجن أنفسهم ، وما قاله الحسن مخالف لهذا الظاهر ، إذ ظاهر كلامه أن الشركاء هي الأوثان ، وأنه جعلت طاعة الشيطان تشريكا له مع الله - تعالى - إذ كان التشريك ناشئا عن أمره وإغوائه ، وكذا قال إسماعيل الضرير : أراد بالجن إبليس ، أمرهم فأطاعوه ، وظاهر لفظ الجن أنهم الذين يتبادر إليهم الذهن من أنهم قسيم الإنس في قوله تعالى : ( يامعشر الجن والإنس ) ، وأنهم ليسوا الملائكة لقوله : ( ثم نقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن ) ، فالآية مشيرة إلى الذين جعلوا الجن شركاء لله في عبادتهم إياهم وأنهم يعلمون الغيب ، وكانت طوائف من العرب تفعل ذلك وتستجير بجن الأودية في أسفارها ، والجمهور على نصب ( الجن ) ، وأعربه الزمخشري وابن عطية مفعولا أولا بجعلوا ، ( وجعلوا ) بمعنى صيروا ، و ( شركاء ) مفعول ثان ، ولله متعلق بشركاء ، قال الزمخشري : ( فإن قلت ) : فما فائدة التقديم ؟ ( قلت ) : فائدته استعظام أن يتخذ لله شريك من كان ملكا أو جنيا أو إنسيا أو غير ذلك ، ولذلك قدم اسم الله على الشركاء . انتهى . وأجاز الحوفي وأبو البقاء فيه أن يكون ( الجن ) بدلا من ( شركاء ) ، و ( لله ) في موضع المفعول الثاني ، و ( شركاء ) هو المفعول الأول ، وما أجازاه لا يجوز ; لأنه يصح للبدل أن يحل محل المبدل منه ، فيكون الكلام منتظما لو قلت : وجعلوا لله الجن ، لم يصح ، وشرط البدل أن يكون على نية تكرار العامل على أشهر القولين ، أو معمولا للعامل في المبدل منه على قول ، وهذا لا يصح هنا البتة كما ذكرنا ، وأجاز الحوفي أن يكون ( شركاء ) المفعول الأول ، والجن المفعول الثاني ، كما هو ترتيب النظم ، وأجاز أبو البقاء أن يكون ( لله شركاء ) حالا ، وكان لو تأخر للشركاء ، وأحسن مما أعربوه ما سمعت من أستاذنا العلامة أبي جعفر أحمد بن إبراهيم بن الزبير الثقفي يقول فيه ، قال : انتصب الجن على إضمار فعل جواب سؤال مقدر ، كأنه قيل : من جعلوا لله شركاء ؟ قيل : الجن ، أي جعلوا الجن ، ويؤيد هذا المعنى قراءة أبي حيوة ويزيد بن قطيب : الجن بالرفع ، على تقديرهم الجن جوابا لمن قال : من الذي جعلوه شريكا ؟ فقيل له : هم الجن ، ويكون ذلك على سبيل الاستعظام لما فعلوه والانتقاص لمن جعلوه شريكا لله . وقرأ شعيب بن أبي حمزة : الجن بخفض النون ، ورويت هذه عن أبي حيوة وابن قطيب أيضا ، قال الزمخشري : وقرئ على الإضافة [ ص: 194 ] التي للتبيين ، والمعنى : أشركوهم في عبادته لأنهم أطاعوهم كما يطاع الله . انتهى . ولا يتضح معنى هذه القراءة ، إذ التقدير : وجعلوا شركاء الجن لله ، وهذا معنى لا يظهر ، والضمير في ( وخلقهم ) عائد على الجاعلين ، إذ هم المحدث عنهم ، وهي جملة حالية ، أي : وقد خلقهم وانفرد بإيجادهم دون من اتخذه شريكا له وهم الجن ، فجعلوا من لم يخلقهم شريكا لخالقهم ، وهذه غاية الجهالة ، وقيل : الضمير يعود على الجن ، أي : والله خلق من اتخذوه شريكا له ، فهم متساوون في أن الجاعل والمجعول مخلوقون لله ، فكيف يناسب أن يجعل بعض المخلوق شريكا لله - تعالى - ؟ وقرأ يحيى بن يعمر : ( وخلقهم ) بإسكان اللام ، وكذا في مصحف عبد الله ، والظاهر أنه عطف على الجن أي : وجعلوا خلقهم الذي ينحتونه أصناما شركاء لله ، كما قال تعالى : ( أتعبدون ما تنحتون والله خلقكم وما تعملون ) ، فالخلق هنا واقع على المعمول المصنوع بمعنى المخلوق ، قال هنا معناه ابن عطية ، وقال الزمخشري : وقرئ : ( وخلقهم ) ، أي : اختلاقهم الإفك ، يعني وجعلوا لله خلقهم حيث نسبوا قبائحهم إلى الله في قولهم " والله أمرنا بها " . انتهى . فالخلق هنا مصدر بمعنى الاختلاق .

( وخرقوا له بنين وبنات بغير علم ) أي : اختلقوا وافتروا ، ويقال خرق الإفك وخلقه واختلقه واخترقه واقتلعه وافتراه وخرصه إذا كذب فيه ، قاله الفراء ، وقال الزمخشري : ويجوز أن يكون من خرق الثوب إذا شقه ، أي : اشتقوا له بنين وبنات ، وقال قتادة ومجاهد وابن زيد وابن جريج : ( خرقوا ) كذبوا ، وأشار بقوله : ( بنين ) إلى أهل الكتابين في المسيح وعزير ، ( وبنات ) إلى قريش في الملائكة ، وقرأ نافع : ( وخرقوا ) بتشديد الراء ، وباقي السبعة بتخفيفها ، وقرأ ابن عمر وابن عباس : وحرفوا بالحاء المهملة والفاء ، وشدد ابن عمر الراء ، وخففها ابن عباس بمعنى وزوروا له أولادا ; لأن المزور محرف مغير للحق إلى الباطل ، ومعنى ( بغير علم ) من غير أن يعلموا حقيقة ما قالوه من خطأ وصواب ، ولكن رميا بقول عن عمى وجهالة من غير فكر وروية ، وفيه نص على قبح تقحمهم المجهلة وافترائهم الباطل .

( سبحانه وتعالى عما يصفون ) نزه ذاته عن تجويز المستحيلات عليه ، والتعالي هنا هو الارتفاع المجازي ، ومعناه أنه متقدس في ذاته عن هذه الصفات ، قيل : وبين ( سبحانه وتعالى ) فرق من جهة أن سبحان مضاف إليه تعالى ، فهو من حيث المعنى منزه ، وتعالى فيه إسناد التعالي إليه على جهة الفاعلية ، فهو راجع إلى صفات الذات سواء سبحه أحد أم لم يسبحه .

( بديع السماوات والأرض ) تقدم تفسيره في البقرة .

( أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة ) أي : كيف يكون له ولد وهذه حاله ؟ أي إن الولد إنما يكون من الزوجة ، وهو لا زوجة له ولا ولد ، وقرأ النخعي : ولم يكن بالياء ، ووجه على أن فيه ضميرا يعود على الله أو على أن فيه ضمير الشأن ، والجملة في هذين الوجهين في موضع خبر ( تكن ) ، أو على ارتفاع ( صاحبة ) بتكن ، وذكر للفصل بين الفعل والفاعل ، كقوله :


لقد ولد الأخيطل أم سوء وحضر للقاضي امرأة .



وقال ابن عطية : وتذكيرها وأخواتها مع تأنيث اسمها أسهل من ذلك في سائر الأفعال . انتهى . ولا أعرف هذا عن النحويين ، ولم يفرقوا بين كان وغيرها ، والظاهر ارتفاع ( بديع ) على أنه خبر مبتدأ ، أي : هو بديع فيكون الكلام جملة واستقلال الجملة بعدها ، وجوزوا أن يكون بديع مبتدأ والجملة [ ص: 195 ] بعده خبره ، فيكون انتفاء الولدية من حيث المعنى بجهتين ، إحداهما : انتفاء الصاحبة ، والأخرى : كونه بديعا أي : عديم المثل ومبدعا لما خلق ، ومن كان بهذه الصفة لا يمكن أن يكون له ولد ; لأن تقدير الولدية وتقدير الإبداع ينافي الولدية ، وهذه الآية رد على الكفار بقياس الغائب على الشاهد ، وقرأ المنصور : بديع بالجر ، ردا على قوله : ( وجعلوا لله ) أو على ( سبحانه ) . وقرأ صالح الشامي : بديع بالنصب على المدح .

( وخلق كل شيء ) قيل : هذا عموم معناه الخصوص أي : وخلق العالم ، فلا تدخل فيه صفاته ولا ذاته ، كقوله : ( ورحمتي وسعت كل شيء ) ، ولا تسع إبليس ولا من مات كافرا ، و ( تدمر كل شيء ) ولم تدمر السماوات والأرض ، قال ابن عطية : ليس هو عموما مخصصا على ما ذهب إليه قوم ; لأن العموم المخصص هو أن يتناول العموم شيئا ثم يخرجه بالتخصيص ، وهذا لم يتناول قط هذا الذي ذكرناه ، وإنما هو بمنزلة قول الإنسان : قتلت كل فارس وأفحمت كل خصم ، فلم يدخل القاتل قط في هذا العموم الظاهر من لفظه ، قال الزمخشري : وفيه إبطال الولد من ثلاثة أوجه ، أحدها : أن مبتدع السماوات والأرض ، وهي أجسام عظيمة ، لا يستقيم أن يوصف بالولادة ; لأن الولادة من صفات الأجسام ، ومخترع الأجسام لا يكون جسما حتى يكون والدا ، والثاني : أن الولادة لا تكون إلا بين زوجين من جنس واحد ، وهو تعالى متعال عن مجانس ، فلم يصح أن تكون له صاحبة فلم تصح الولادة ، والثالث : أنه ما من شيء إلا وهو خالقه والعالم به ، ومن كان بهذه الصفة كان غنيا عن كل شيء ، والولد إنما يطلبه المحتاج .

( وهو بكل شيء عليم ) قال ابن عطية : هذا عموم على الإطلاق ; لأن الله - تعالى - يعلم كل شيء ، وقال التبريزي : ( بكل شيء ) من الواجب والممكن والممتنع .

التالي السابق


الخدمات العلمية