صفحة جزء
( ذلكم الله ربكم لا إله إلا هو خالق كل شيء فاعبدوه وهو على كل شيء وكيل ) أي : ( ذلكم ) الموصوف بتلك الأوصاف السابقة من كونه بديعا لم يتخذ صاحبة ولا ولدا خالق الموجودات عالما بكل شيء هو الله ، بدأ بالاسم العلم ثم قال : ( ربكم ) : أي مالككم والناظر في مصالحكم ، ثم حصر الألوهية فيه ، ثم كرر وصف خلقه ( كل شيء ) ثم أمر بعبادته ; لأن من استجمعت فيه هذه الصفات كان جديرا بالعبادة وأن يفرد بها فلا يتخذ معه شريك ، ثم أخبر أنه مع تلك الصفات السابقة التي منها خلق كل شيء وهو المالك لكل شيء من الأرزاق والآجال رقيب على الأعمال .

( لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار ) الإدراك قيل : معناه الإحاطة بالشيء ، وبذلك فسره هنا ابن عباس وقتادة وعطية العوفي وابن المسيب والزجاج ، قال ابن المسيب : لا تحيط به الأبصار ، وقال الزجاج : لا تحيط بحقيقته ، والإدراك يتضمن الإحاطة بالشيء والوصول إلى أعماقه وحوزه من جميع جهاته ، أو كنى بالأبصار عن الأشخاص لأن بها تدرك الأشخاص الأشياء ، وكان المعنى : لا تدركه الخلق وهو يدركهم ، أو يكون المعنى إبصار القلب أي لا تدركه علوم الخلق وهو يدرك علومهم وذواتهم ; لأنه غير محاط به ، وهو على هذا مستحيل على الله عند المسلمين ، ولا تنافي الرؤية انتفاء الإدراك ، وقيل : الإدراك هنا الرؤية ، وهي مختلف فيها بين المسلمين ، فالمعتزلة يحيلونها ، وأهل السنة يجوزونها عقلا ويقولون : هي واقعة سمعا ، وهذه مسألة يبحث عنها في علم أصول الدين ، وفيه ذكر دلائل الفريقين مستوفاة ، وقد رأيت فيها لأبي جعفر الطوسي ، وهو من عقلاء الإمامية ، سفرا كبيرا ينصر فيه مقالة أصحابه نفاة الرؤية ، وقد استدل نفاة الرؤية بهذه الآية لمذهبهم ، وأجيبوا بأن الإدراك غير الرؤية ، وعلى تسليم أن الإدراك هو الرؤية فالأبصار مخصوصة أي : أبصار الكفار الذين سبق ذكرهم أو لا تدركه في الدنيا ، قال الماتريدي : والبصر هو الجوهر اللطيف الذي ركبه الله - تعالى - في حاسة النظر ، به تدرك المبصرات ، وفي قوله : ( وهو يدرك الأبصار ) دلالة على أن الإدراك لا يراد به هنا مجرد [ ص: 196 ] الرؤية ، إذ لو كان مجرد الرؤية لم يكن له تعالى بذلك اختصاص ولا تمدح ; لأنا نحن نرى الأبصار فدل على أن معنى الإدراك الإحاطة بحقيقة الشيء ، فهو تعالى لا تحيط بحقيقته الأبصار وهو محيط بحقيقتها ، وقال الزمخشري : والمعنى أن الأبصار لا تتعلق به ولا تدركه ; لأنه متعال أن يكون مبصرا في ذاته ; لأن الأبصار إنما تتعلق بما كان في جهة أصلا أو تابعا كالأجسام والهيئات ، ( وهو يدرك الأبصار ) ، وهو للطف إدراكه للمدركات يدرك تلك الجواهر اللطيفة التي لا يدركها مدرك .

( وهو اللطيف الخبير ) يلطف عن أن تدركه الأبصار ، الخبير بكل لطيف ( وهو يدرك الأبصار ) ، لا تلطف عن إدراكه ، وهذا من باب اللف . انتهى . وهو على مذهبه الاعتزالي . وتظافرت الأخبار عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - برؤية المؤمنين الله في الآخرة ، وقد اختلفوا هل رآه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الدنيا ببصره ليلة المعراج ؟ فذهب جماعة من المحدثين والفقهاء والمتكلمين إلى إنكار ذلك ، قالت عائشة وابن مسعود وأبو هريرة على خلاف عنهما بذلك ، وذهب ابن عباس وكعب والحسن وعكرمة وأحمد بن حنبل وأبو الحسن الأشعري وجماعة من الصحابة إلى أنه رآه ببصره وعيني رأسه ، وروي هذا عن ابن مسعود وأبي هريرة ، والأول عن ابن مسعود أشهر ، وقيل : ( وهو يدرك الأبصار ) معناه : لا يخفى عليه شيء ، وخص الأبصار لتجنيس الكلام يعني المقابلة ، وقال الزجاج : في هذا دليل على أن الخلق لا يدركون الأبصار أي لا يعرفون كيفية حقيقة البصر الذي صار به الإنسان مبصرا من عينيه دون أن يبصر من غيرهما من سائر أعضائه . ( وهو اللطيف الخبير ) ، قال أبو العالية : لطيف باستخراج الأشياء ، خبير بأماكنها .

( قد جاءكم بصائر من ربكم ) هذا وارد على لسان الرسول لقوله آخره : ( وما أنا عليكم بحفيظ ) ، والبصيرة نور القلب الذي يستبصر به ، كما أن البصر نور العين الذي به تبصر ، أي : جاءكم من الوحي والتنبيه بما يجوز على الله - تعالى - وما لا يجوز ما هو للقلوب كالبصائر ، قاله الزمخشري ، وقال ابن عطية : البصيرة هي ما ينقب عن تحصيل العقل للأشياء المنظور فيها بالاعتبار ، فكأنه قال : قد جاءكم في القرآن والآيات طرائق إبصار الحق والمعينة عليه ، والبصيرة للقلب مستعارة من إبصار العين ، وقال الحوفي : البصيرة الحجة البينة الظاهرة ، كما قال تعالى : ( أدعو إلى الله على بصيرة ) ، ( بل الإنسان على نفسه بصيرة ) ، وقال الكلبي : البصائر آيات القرآن التي فيها الإيضاح والبينات والتنبيه على ما يجوز عليه وعلى ما يستحيل ، وإسناد المجيء إلى البصائر مجاز لتفخيم شأنها ، إذ كانت بمنزلة الغائب المتوقع حضوره ، كما يقال : جاءت العافية .

( فمن أبصر فلنفسه ) أي : فالإبصار لنفسه ، أي : نفعه وثمرته .

( ومن عمي فعليها ) أي : فالعمى عليها ، أي : فجدوى العمى عائد على نفسه ، والإبصار والعمى كنايتان عن الهدى والضلال ، والمعنى : أن ثمرة الهدى والضلال إنما هي للمهتدي والضال لأنه تعالى غني عن خلقه ، وهي من الكنايات الحسنة ، لما ذكر البصائر أعقبها تعالى بالإبصار والعمى ، وهذه مطابقة ، وقدره الزمخشري : ( فمن أبصر ) الحق وآمن ( فلنفسه ) أبصر وإياها نفع ، ( ومن عمي ) عنه فعلى نفسه عمي ، والذي قدرناه من المصدر أولى وهو فالإبصار والعمى لوجهين ، أحدهما أن المحذوف يكون مفردا لا جملة ، ويكون الجار والمجرور عمدة لا فضلة ، وفي تقديره هو : المحذوف جملة والجار والمجرور فضلة ، والثاني وهو أقوى ، وذلك أنه لو كان التقدير فعلا لم تدخل الفاء سواء كانت ( من ) شرطا أم موصولة مشبهة [ ص: 197 ] بالشرط ; لأن الفعل الماضي إذا لم يكن دعاء ولا جامدا ووقع جواب شرط أو خبر مبتدأ مشبه باسم الشرط لم تدخل الفاء في جواب الشرط ولا في خبر المبتدأ ، لو قلت : من جاءني فأكرمته ، لم يجز بخلاف تقديرنا ، فإنه لا بد فيه من الفاء ، ولا يجوز حذفها إلا في الشعر ، وقال أبو عبد الله الرازي : البصيرة اسم الإدراك التام الحاصل في القلب ، والآيات المتقدمة ليست في أنفسها بصائر ، إلا أنها لقوتها وجلائها توجب البصائر لمن عرفها ، فلما كانت أسبابا لحصول البصائر سميت بصائر .

( وما أنا عليكم بحفيظ ) أي : برقيب أحصر أعمالكم ، أو بوكيل آخذكم بالإيمان ، أو بحافظكم من عذاب الله ، أو برب أجازيكم ، أو بشاهد ، أقوال ، رابعها للحسن وخامسها للزجاج ، وقال الزمخشري : ( بحفيظ ) أحفظ أعمالكم وأجازيكم عليها ، إنما أنا منذر والله هو الحفيظ عليكم . انتهى . وهو بسط قول الحسن . وقال ابن عطية : كان قبل ظهور الإسلام ثم بعد ذلك كان حفيظا على العالم آخذا لهم بالإسلام والسيف .

( وكذلك نصرف الآيات ) أي : ومثل ما بينا تلك الآيات التي هي بصائر وصرفناها نصرف الآيات ونرددها على وجوه كثيرة .

( وليقولوا درست ) يعني أهل مكة حين يقرأ عليهم القرآن ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو : دارست ، أي : دارست يا محمد غيرك في هذه الأشياء ، أي : قارأته وناظرته ، إشارة منهم إلى سلمان وغيره من الأعاجم واليهود ، وقرأ ابن عامر وجماعة من غير السبعة : ( درست ) مبنيا للفاعل مضمرا فيه ، أي : درست الآيات ، أي : ترددت على أسماعهم حتى بليت وقدمت في نفوسهم وأمحت ، وقرأ باقي السبعة : ( درست ) يا محمد في الكتب القديمة ما تجيئنا به ، كما قالوا : ( أساطير الأولين اكتتبها ) ، وقال الضحاك : ( درست ) : قرأت وتعلمت من أبي فكيهة وجبر ويسار ، وقرئ : ( درست ) بالتشديد والخطاب ، أي : درست الكتب القديمة ، وقرئ : درست مشددا مبنيا للمفعول المخاطب ، وقرئ : ( دورست ) بالتخفيف والواو مبنيا للمفعول ، والواو مبدلة من الألف في دارست ، وقرأت فرقة : دارست ، أي : دارستك الجماعة الذين تتعلم منهم ، وجاز الإضمار ; لأن الشهرة بالدراسة كانت لليهود عندهم ، ويجوز أن يكون الفعل للآيات وهو لأهلها أي : دارس أهل الآيات ، وقرأت فرقة : ( درست ) بضم الراء مسندا إلى غائب ، مبالغة في درست أي : اشتد دروسها وبلاها ، وقرأ قتادة والحسن وزيد بن علي : ( درست ) مبنيا للمفعول ، وفيه ضمير الآيات غائبا ، وهي قراءة ابن عباس بخلاف عنه ، قال أبو الفتح : ويحتمل أن يراد عفيت أو تليت ، وكذا قال الزمخشري ، قال : بمعنى قرئت أو عفيت ، أما بمعنى قرئت فظاهر لأن درس بمعنى كرر القراءة متعد ، وأما درس بمعنى بلي وأمحي فلا أحفظه متعديا ، وما وجدناه في أشعار من وقفنا على شعره من العرب إلا لازما ، وقرأ أبي : درس أي محمد أو الكتاب ، وهي مصحف عبد الله ، وروي عن الحسن : درسن مبنيا للفاعل مسندا إلى النون أي درس الآيات ، وكذا هي في بعض مصاحف عبد الله ، وقرأت فرقة : درسن بتشديد الراء مبالغة في درسن ، وقرئ : دارسات أي هي قديمات أو ذات درس كعيشة راضية ، فهذه ثلاث عشر قراءة في هذه الكلمة . وقرأت طائفة : ( وليقولوا ) بسكون اللام على جهة الأمر المتضمن للتوبيخ والوعيد ، وقرأ الجمهور بكسرها ، وقالوا : هذه اللام هي التي تضمر أن بعدها ، والفعل منصوب بأن المضمرة . [ ص: 198 ] قال ابن عطية : على أنها لام كي ، وهي على هذا لام الصيرورة ، كقوله : ( فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا ) أي : لما صار أمرهم إلى ذلك ، وقال الزمخشري : ( وليقولوا ) جوابه محذوف ، تقديره : وليقولوا دارست تصرفها ، ( فإن قلت ) : أي فرق بين اللامين في ( ليقولوا ) و ( لنبينه ) ؟ ( قلت ) : الفرق بينهما أن الأولى مجاز والثانية حقيقة ، وذلك أن الآيات صرفت للتبيين ولم تصرف ليقولوا دارست ، ولكنه لأنه حصل هذا القول بتصريف الآيات كما حصل التبيين شبه به فسيق مساقه ، وقيل : ( ليقولوا ) كما قيل : ( لنبينه ) . انتهى . وتسميته ما يتعلق به قوله " ليقولوا " جوابا اصطلاح غريب ، ومثل هذا لا يسمى جوابا ، لا تقول : في جئت من قولك : جئت لتقوم ، أنه جواب ، وهذا الذي ذكره الزمخشري من تخريج ( ليقولوا ) عليه هو الذي ذهب إليه من أنكر لام الصيرورة وهي التي تسمى أيضا لام العاقبة والمآل ، وهو أنه لما ترتب على التقاطه كونه صار لهم عدوا وحزنا ، جعل كأنه علة لالتقاطه ، فهو علة مجازية ، وقال أبو علي الفارسي : واللام في ( ليقولوا ) على قراءة ابن عامر ومن وافقه بمعنى لئلا يقولوا ، أي : صرف الآيات وأحكمت لئلا يقولوا هذه أساطير الأولين قديمة قد تليت وتكررت على الأسماع ، واللام على سائر القراءات لام الصيرورة ، وما أجازه أبو علي من إضمار لا بعد اللام المضمر بعدها أن هو مذهب لبعض الكوفيين ، وتقدير الكلام : لئلا يقولوا ، كما أضمروها بعد أن المظهرة في قوله : " أن تضلوا " ، ولا يجيز البصريون إضمار لا إلا في القسم على ما تبين فيه ، وقد حمله بعضهم على أن اللام لام كي حقيقة ، فقال : المعنى تصريف هذه الدلائل حالا بعد حال ليقول بعضهم دارست فيزدادوا كفرا على كفر ، وتنبيه لبعضهم فيزدادوا إيمانا على إيمان ، ونظيره ( يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا ) ، ( وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم ) ، ولا يتعين ما ذكره المعربون والمفسرون من أن اللام في ( وليقولوا ) لام كي أو لام الصيرورة ، بل الظاهر أنها لام الأمر ، والفعل مجزوم بها لا منصوب بإضمار أن ، ويؤيده قراءة من سكن اللام ، والمعنى عليه متمكن ، كأنه قيل : ومثل ذلك نصرف الآيات وليقولوا هم ما يقولون من كونك درستها وتعلمتها ، أو درست هي أي بليت وقدمت ، فإنه لا يحفل بهم ولا يلتفت إلى قولهم ، وهو أمر معناه الوعيد بالتهديد وعدم الاكتراث بهم وبما يقولون في الآيات ، أي نصرفها ليدعوا فيها ما شاءوا فلا اكتراث بدعواهم .

( ولنبينه لقوم يعلمون ) أي : نصرف الآيات ، وأعاد الضمير مفردا ، قالوا : على معنى الآيات لأنها القرآن ، كأنه قال : وكذلك نصرف القرآن أو على القرآن ، ودل عليه الآيات أو درست أو على المصدر المفهوم من ( ولنبينه ) أي : ولنبين التبيين ، كما تقول : ضربته زيدا ، إذا أردت ضربت الضرب زيدا ، أو على المصدر المفهوم من نصرف ، قال ابن عباس : ( لقوم ) يريد أولياء الذين هداهم إلى سبيل الرشاد .

( اتبع ما أوحي إليك من ربك لا إله إلا هو وأعرض عن المشركين ) أمره تعالى بأن يتبع ما أوحي إليه وبأن يعرض عن من أشرك ، والأمر بالإعراض عنهم كان قبل نسخه بالقتال والسوق إلى الدين طوعا أو كرها ، والجملة بين الأمرين اعتراض أكد به وجوب اتباع الموحى ، أو في موضع الحال المؤكدة .

( ولو شاء الله ما أشركوا ) أي : إن إشراكهم ليس في الحقيقة بمشيئتهم وإنما هو بمشيئة الله - تعالى - وظاهر الآية يرد على المعتزلة ويتأولونها على مشيئة القسر والإلجاء .

( وما جعلناك عليهم حفيظا ) أي : رقيبا تحفظهم من الإشراك .

( وما أنت عليهم بوكيل ) أي : بمسلط عليهم ، والجملتان متقاربتان في المعنى ، إلا أن الأولى فيها نفي جعل الحفظ منه تعالى له عليهم ، والثانية فيها نفي الوكالة عليهم ، والمعنى : أنا لم نسلطك ولا أنت في ذاتك بمسلط ، فناسب أن تعرض عنهم إذ لست مأمورا منا بأن تكون حفيظا عليهم ، ولا أنت وكيل [ ص: 199 ] عليهم من تلقائك .

( ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم ) قال ابن عباس : سببها أن كفار قريش قالوا لأبي طالب : إما أن ينتهي محمد وأصحابه عن سب آلهتنا والغض منها ، وإما أن نسب إلهه ونهجوه ، فنزلت . وقيل : قالوا ذلك عند نزول قوله : ( إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم ) . وقيل : كان المسلمون يسبون آلهتهم فنهوا لئلا يكون سبهم سببا لسب الله - تعالى - وحكم هذه الآية باق في هذه الأمة ، فإذا كان الكافر في منعة ، وخيف أن يسب الإسلام أو الرسول أو الله ، فلا يحل لمسلم ذم دين الكافر ولا صنمه ولا صليبه ولا يتعرض إلى ما يؤدي إلى ذلك ، ولما أمر تعالى باتباع ما أوحي إليه وبموادعة المشركين عدل عن خطابه إلى خطاب المؤمنين ، فنهوا عن سب أصنام المشركين ، ولم يواجه هو - صلى الله عليه وسلم - بالخطاب وإن كان هو الذي سبت الأصنام على لسانه ، وأصحابه تابعون له في ذلك ، لما في مواجهته وحده بالنهي من خلاف ما كان عليه - صلى الله عليه وسلم - من الأخلاق الكريمة ، إذ لم يكن عليه السلام فحاشا ولا صخابا ولا سبابا ، فلذلك جاء الخطاب للمؤمنين فقيل : ( ولا تسبوا ) ، ولم يكن التركيب : ولا تسب ، كما جاء ( وأعرض ) ، وإذا كانت الطاعة تؤدي إلى مفسدة خرجت عن أن تكون طاعة ، فيجب النهي عنها كما ينهى عن المعصية ، و ( الذين يدعون ) هم الأصنام ، أي : يدعونهم المشركون ، وعبر عن الأصنام وهي لا تعقل بالذين كما يعبر عن العاقل ، على معاملة ما لا يعقل معاملة من يعقل ، إذ كانوا ينزلونهم منزلة من يعقل في عبادتهم واعتقادهم فيهم أنهم شفعاء لهم عند الله - تعالى - وقيل : يحتمل أن يراد بـ ( الذين يدعون ) الكفار ، وظاهر قوله : ( فيسبوا الله ) أنهم يقدمون على سب الله إذا سب آلهتهم وإن كانوا معترفين بالله - تعالى - لكن يحملهم على ذلك انتصارهم لآلهتهم وشدة غيظهم لأجلها ، فيخرجون عن الاعتدال إلى ما ينافي العقل ، كما يقع من بعض المسلمين إذا اشتد غضبه وانحرف ، فإنه قد يلفظ بما يؤدي إلى الكفر ، نعوذ بالله من ذلك . وقال أبو عبد الله الرازي : ربما كان بعضهم قائلا بالدهر ونفي الصانع ، فكان يأتي بهذا النوع من الشناعة ، أو كان المسلمون يسبون الأصنام ، وهم كانوا يسبون الرسول ، فأجري سب الرسول مجرى سب الله - تعالى - كما قال : ( إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله ) ، وكما قال : ( إن الذين يؤذون الله ورسوله ) ، أو كان بعض الكفرة يعتقد أن شيطانا يحمل الرسول على ادعاء النبوة والرسالة ، وكانوا بجهلهم يشتمون ذلك الشيطان بأنه إله محمد . انتهى . وهذه احتمالات مخالفة للظاهر ، وإنما أوردها لأنه ذكر أن المعترفين بوجود الصانع لا يجسرون أن يقدموا على سبه تعالى ، وقد ذكرنا ما يحمل على حمل الكلام على ظاهره ، وقال بعض الصوفية : بمعنى خاطبوهم بلسان الحجة وإلزام الدليل ولا تكلموهم على نوازع النفس والعادة ، و ( فيسبوا ) منصوب على جواب النهي ، وقيل : هو مجزوم على العطف ، كقولك : [ ص: 200 ] لا تمددها فتشققها ، و ( عدوا ) مصدر عدا ، وكذا عدو وعدوان بمعنى اعتدى أي ظلم ، وقرأ الحسن وأبو رجاء وقتادة ويعقوب وسلام وعبد الله بن يزيد بضم العين والدال وتشديد الواو ، وهو مصدر لعدا كما ذكرناه ، وجوزوا فيهما انتصابهما على المصدر في موضع الحال ، أو على المصدر من غير لفظ الفعل ; لأن سب الله عدوان ، أو على المفعول له . وقال ابن عطية : وقرأ بعض المكيين ، وعينه الزمخشري فقال عن ابن كثير : بفتح العين وضم الدال وتشديد الواو أي أعداء ، وهو منصوب على الحال المؤكدة ، وعدو يخبر به عن الجمع ، كما قال : " هم العدو " ، ومعنى ( بغير علم ) على جهالة بما يجب لله - تعالى - أن يذكر به ، وهو بيان لمعنى الاعتداء .

( كذلك زينا لكل أمة عملهم ) أي : مثل تزيين عبادة الأصنام للمشركين ( زينا لكل أمة ) ، وظاهر ( لكل أمة عملهم ) العموم في الأمم وفي العمل فيه ، فيدخل فيه المؤمنون والكافرون ، وتزيينه هو ما يخلقه ويخترعه في النفوس من المحبة للخير أو الشر والاتباع لطرقه ، وتزيين الشيطان هو ما يقذفه في النفوس من الوسوسة وخطرات السوء ، وخص الزمخشري ( لكل أمة عملهم ) فقال : من أمم الكفار سوء عملهم ، أي : خليناهم وشأنهم ولم نكفهم حتى حسن عندهم سوء عملهم ، وأمهلنا الشيطان حتى زين لهم أو زيناه في زعمهم وقولهم : إن الله أمرنا بهذا وزينه لنا . انتهى . وهو على طريقته الاعتزالية . وقال الحسن : أي ( زينا لكل أمة ) العمل الذي أوجبناه عليهم ، فجعل ( زينا ) بمعنى شرعنا ، و ( لكل أمة ) عام ، والعمل خاص بما أوجبه الله تعالى . وأنكر هذا الزجاج وقال : هو بمعنى طبع الله على قلوبهم ، والدليل عليه : ( أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء ) . انتهى . وما فسر به الحسن قد أوضحه بعض المعتزلة فقال : المراد بتزيين العمل تزيين المأمور به لا المنهي عنه ، ويحمل على الخصوص وإن كان عاما لئلا يؤدي إلى تناقض النصوص ; لأنه نص على تزيين الله للإيمان وتكريهه للكفر في قوله : ( حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر ) ، فلو دخل تزيين الكفر في هذه الآية في المراد لوجب التناقض بين الآيتين ; ولذلك أضاف التزيين إلى الشيطان بقوله : ( زين لهم الشيطان أعمالهم ) ، فلا يكون الله مزينا ما زينه الشيطان ، فنقول : الله يزين ما يأمر به ، والشيطان يزين ما ينهى عنه ، حتى يكون ذلك عملا بجميع النصوص . انتهى . وأجيب بأن لا تناقض لاختلاف التزيين : تزيين الله بالخلق للشهوات ، وتزيين الشيطان بالدعاء إلى المعاصي ، فالآية على عمومها في كل أمة وفي عملهم .

( ثم إلى ربهم مرجعهم فينبئهم بما كانوا يعملون ) أي : أمرهم مفوض إلى الله وهو عالم بأحوالهم مطلع على ضمائرهم ، ومنقلبهم يوم القيامة إليه ، فيجازى كل بمقتضى عمله ، وفي ذلك وعد جميل للمحسن ووعيد للمسيئ .

( وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها ) أي : آية من اقتراحهم ، نحو قولهم : حتى تنزل ( إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية فظلت أعناقهم لها خاضعين ) أنزلها علينا حتى نؤمن بها ، فقال المسلمون : يا رسول الله أنزلها عليهم ، فنزلت هذه الآية ، قاله ابن عباس ، أو نحو قولهم : يجعل الصفا ذهبا ، حتى ذكروا معجزة موسى في الحجر ، وعيسى في إحياء الموتى ، وصالح في الناقة ، فقام الرسول يدعو ، فجاءه جبريل - عليه [ ص: 201 ] السلام - فقال له : إن شئت أصبح الصفا ذهبا ، فإن لم يؤمنوا هلكوا عن آخرهم معاجلة كما فعل بالأمم الماضية ، إذ لم يؤمنوا بالآيات المقترحة ، وإن شئت تركتهم حتى يتوب تائبهم ، فقال : " بل حتى يتوب تائبهم " ، وإنما اقترحوا آية معينة لأنهم شكوا في القرآن ، ولهذا قالوا : دارست أي العلماء وباحثت أهل التوراة والإنجيل ، وكابر أكثرهم وعاند ، والمعنى : أنهم حلفوا غاية حلفهم ، وسمي الحلف قسما لأنه يكون عند انقسام الناس إلى التصديق والتكذيب ، فكأنه يقوي القسم الذي يختاره ، قال التبريزي : الإقسام إفعال من القسم الذي هو بمعنى النصيب والقسمة ، وكان إقسامهم بالله غاية في الحلف ، وكانوا يقسمون بآبائهم وآلهتهم ، فإذا كان الأمر عظيما أقسموا بالله تعالى . والجهد : بفتح الجيم المشقة ، وبضمها الطاقة ، ومنهم من يجعلهما بمعنى واحد ، وانتصب ( جهد ) على المصدر المنصوب بـ ( أقسموا ) أي : أقسموا جهد إقساماتهم ، والأيمان بمعنى الإقسامات ، كما تقول : ضربته أشد الضربات ، وقال الحوفي : مصدر في موضع الحال من الضمير في ( أقسموا ) أي : مجتهدين في أيمانهم ، وقال المبرد : مصدر منصوب بفعل من لفظه ، وقد تقدم الكلام على ( جهد أيمانهم ) في المائدة ، و ( لئن جاءتهم ) إخبار عنهم لا حكاية لقولهم إذ لو حكي قولهم لكان : لئن جاءتنا آية ، وعامل الإخبار عن القسم معاملة حكاية القسم بلفظ ما نطق به المقسم ، وأنه لا يراد بها مطلق آية ، إذ قد جاءتهم آيات كثيرة ولكنهم أرادوا آية مقترحة ، كما ذكرناه . وقرأ طلحة بن مصرف : ( ليؤمنن بها ) مبنيا للمفعول وبالنون الخفيفة .

( قل إنما الآيات عند الله ) هذا أمر بالرد عليهم ، وأن مجيء الآيات ليس لي إنما ذلك لله - تعالى - وهو القادر عليها ينزلها على وجه المصلحة كيف شاء لحكمته ، وليست عندي فتقترح علي .

( وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون ) استفهامية ، ويعود عليها ضمير الفاعل في ( يشعركم ) ، وقرأ قوم بسكون ضمة الراء ، وقرئ باختلاسها ، وأما الخطاب فقال مجاهد وابن زيد : هو للكفار ، وقال الفراء وغيره : المخاطب بها المؤمنون ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو والعليمي والأعشى عن أبي بكر ، وقال ابن عطية وابن كثير وأبو عمرو وعاصم في رواية داود الإيادي أنها بكسر الهمزة ، وقرأ باقي السبعة بفتحها ، وقرأ ابن عامر وحمزة : ( لا تؤمنون ) بتاء الخطاب ، وقرأ باقي السبعة بياء الغيبة ، فترتبت أربع قراءات ، الأولى كسر الهمزة والياء ، وهي قراءة ابن كثير وأبي عمرو وأبي بكر بخلاف عنه في كسر الهمزة ، وهذه قراءة واضحة ، أخبر تعالى أنهم ( لا يؤمنون ) البتة على تقدير مجيء الآية ، وتم الكلام عند قوله : ( وما يشعركم ) ، ومتعلق ( يشعركم ) محذوف ، أي : ( وما يشعركم ) ما يكون ، فإن كان الخطاب للكفار كان التقدير : ( وما يشعركم ) ما يكون منكم ، ثم أخبر على جهة الالتفات بما علمه من حالهم لو جاءتهم الآيات ، وإن كان الخطاب للمؤمنين كان التقدير : ( وما يشعركم ) أيها المؤمنون ما يكون منهم ، ثم أخبر المؤمنين بعلمه فيهم . القراءة الثانية كسر الهمزة والتاء ، وهي رواية العليمي والأعشى عن أبي بكر عن عاصم ، والمناسب أن يكون الخطاب للكفار في هذه القراءة ، كأنه قيل : وما يدريكم أيها الكفار ما يكون منكم ، ثم أخبرهم على جهة الجزم أنهم لا يؤمنون على تقدير مجيئها ، ويبعد جدا أن يكون الخطاب في ( وما يشعركم ) للمؤمنين ، وفي " لا تؤمنون " للكفار . القراءة الثالثة فتح الهمزة والتاء ، وهي قراءة نافع والكسائي وحفص ، فالظاهر أن الخطاب للمؤمنين ، والمعنى : وما يدريكم أيها المؤمنون أن الآية التي تقترحونها إذا جاءت [ ص: 202 ] لا يؤمنون بها ، يعني أنا أعلم أنها إذا جاءت لا يؤمنون وأنتم لا تدرون بذلك ، وكان المؤمنون يطمعون في إيمانهم إذا جاءت تلك الآية ، ويتمنون مجيئها ، فقال : وما يدريكم أنهم لا يؤمنون ، على معنى أنكم لا تدرون ما سبق علمي به من أنهم لا يؤمنون ، ألا ترى إلى قوله ( كما لم يؤمنوا به أول مرة ) ، ويبعد جدا أن يكون الخطاب في ( وما يشعركم ) للكفار ، و ( أن ) في هذه القراءة مصدرية ولا على معناها من النفي ، وجعل بعض المفسرين ( أن ) هنا بمعنى لعل ، وحكي من كلامهم ذلك ، قالوا : إيت السوق إنك تشتري لحما ، يريدون : لعلك ، وقال امرؤ القيس :


عوجا على الطلل المحيل لأننا نبكي الديار كما بكى ابن حرام



وذكر ذلك أبو عبيدة وغيره ، و ( لعل ) تأتي كثيرا في مثل هذا الموضع ، قال تعالى : ( وما يدريك لعله يزكى ) ، ( وما يدريك لعل الساعة قريب ) ، وفي مصحف أبي : وما أدراكم لعلها إذا جاءت لا يؤمنون ، وضعف أبو علي هذا القول بأن التوقع الذي يدل عليه ( لعل ) لا يناسب قراءة الكسر ; لأنها تدل على حكمه تعالى عليهم بأنهم لا يؤمنون ، لكنه لم يجعل ( أنها ) معمولة لـ ( يشعركم ) بل جعلها علة على حذف لامها ، والتقدير عنده : ( قل إنما الآيات عند الله ) لأنها إذا جاءت لا يؤمنون ، فهو لا يأتي بها لإصرارهم على كفرهم فيكون نظير " وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون " أي بالآيات المقترحة . انتهى . ويكون ( وما يشعركم ) اعتراضا بين المعلول وعلته ، إذ صار المعنى : ( قل إنما الآيات عند الله ) أي : المقترحة لا يأتي بها لانتفاء إيمانهم وإصرارهم على ضلالهم ، وجعل بعضهم " لا " زائدة فيكون المعنى : وما يدريكم بإيمانهم ، كما قالوا : إذا جاءت ، وإنما جعلها زائدة لأنها لو بقيت على النفي لكان الكلام عذرا للكفار وفسد المراد بالآية ، قاله ابن عطية ، قال : وضعف الزجاج وغيره زيادة لا . انتهى قول ابن عطية . والقائل بزيادة " لا " هو الكسائي والفراء ، وقال الزجاج : زعم سيبويه أن معناها لعلها إذا جاءت لا يؤمنون ، وهي قراءة أهل المدينة ، قال : وهذا الوجه أقوى في العربية ، والذي ذكر أن " لا " لغو غالط لأن ما كان لغوا لا يكون غير لغو ، ومن قرأ بالكسر فالإجماع على أن " لا " غير لغو ، فليس يجوز أن يكون المعنى مرة إيجابا ومرة غير ذلك في سياق كلام واحد ، وتأول بعض المفسرين الآية على حذف معطوف يخرج " لا " عن الزيادة وتقديره : ( وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون ) أو يؤمنون ، أي : ما يدريكم بانتفاء الإيمان أو وقوعه ، ذكره النحاس وغيره ، ولا يحتاج الكلام إلى زيادة " لا " ، ولا إلى هذا الإضمار ، ولا يكون ( أن ) بمعنى ( لعل ) وهذا كله خروج عن الظاهر لفرضه ، بل حمله على الظاهر أولى ، وهو واضح سائغ كما بحثناه أولا ، أي : ( وما يشعركم ) ويدريكم بمعرفة انتفاء إيمانهم ، لا سبيل لكم إلى الشعور بها .

القراءة الرابعة : فتح الهمزة والتاء ، وهي قراءة ابن عامر وحمزة ، والظاهر أنه خطاب للكفار ، ويتضح معنى هذه القراءة على زيادة " لا " ، أي : وما يدريكم أنكم تؤمنون إذا جاءت كما أقسمتم عليه ، وعلى تأويل ( أن ) بمعنى لعل ، وكون " لا " نفيا ، أي : وما يدريكم بحالهم لعلها إذا جاءت لا يؤمنون بها ، وكذلك يصح المعنى على تقدير حذف المعطوف ، أي : وما يدريكم بانتفاء إيمانكم إذا جاءت أو وقوعه ; لأن مآل أمركم مغيب عنكم ، فكيف تقسمون على الإيمان إذا جاءتكم الآية ؟ وكذلك يصح معناها على تقدير ، أي على أن تكون أنها علة ، أي : ( قل إنما الآيات عند الله ) فلا يأتيكم بها لأنها ( إذا جاءت لا يؤمنون ) وما يشعركم بأنكم تؤمنون ، وأما على إقرار أن ( أنها ) معمولة لـ ( يشعركم ) وبقاء ( لا ) على النفي ، فيشكل معنى هذه القراءة ; لأنه يكون المعنى ( وما يشعركم ) أيها الكفار بانتفاء إيمانكم إذا جاءتكم الآية المقترحة ، والذي يناسب صدر الآية ( وما يشعركم ) بوقوع الإيمان منكم إذا جاءت ، وقد يصح أن [ ص: 203 ] يكون التقدير : وأي شيء يشعركم بانتفاء الإيمان إذا جاءت ، أي : لا يقع ذلك في خواطركم ، بل أنتم مصممون على الإيمان إذا جاءت ، وأنا أعلم أنكم لا تؤمنون إذا جاءت لأنكم مطبوع على قلوبكم ، وكم آية جاءتكم فلم تؤمنوا . وقد ذهب بعض المفسرين إلى أن " ما " في قوله ( وما يشعركم ) نافية ، والفاعل بـ ( يشعركم ) ضمير يعود على الله ، ويتكلف معنى الآية على جعلها نافية ، سواء فتحت ( أن ) أم كسرت . ومتعلق ( لا يؤمنون ) محذوف ، وحسن حذفه كون ما يتعلق به وقع فاصلة ، وتقديره : ( لا يؤمنون ) بها . وقد اتضح من ترتيب هذه القراءات الأربع أنه لا يصلح أن يكون الخطاب للمؤمنين على الإطلاق ولا للكفار على الإطلاق ، بل الخطاب يكون على ما يصح به المعنى الذي للقراءة .

( ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ونذرهم في طغيانهم يعمهون ) الظاهر أن قوله : ( ونقلب ) جملة استئنافية أخبر تعالى أنه يفعل بهم ذلك ، وهي إشارة إلى الحيرة والتردد وصرف الشيء عن وجهه ، والمعنى أنه تعالى يحولهم عن الهدى ، ويتركهم في الضلال والكفر ، و ( كما ) للتعليل ; أي يفعل بهم ذلك ; لكونهم لم يؤمنوا به أول وقت جاءهم هدى الله ، كما قال تعالى : ( وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون ) ، ويؤكد هذا المعنى آخر الآية : ( ونذرهم في طغيانهم يعمهون ) أي نتركهم في تغمطهم في الشر ، والإفراط فيه يتحيرون ، وهذا كله إخبار من الله تعالى بفعله بهم في الدنيا ، وقالت فرقة : هذا الإخبار هو على تقدير أنه لو جاءت الآية التي اقترحوها ، صنعنا بهم ذلك ، ولذلك قال الزمخشري : ونقلب أفئدتهم ونذرهم ، عطف على ( لا يؤمنون ) داخل في حكم : ( وما يشعركم ) بمعنى : وما يشعركم أنهم لا يؤمنون ، وما يشعركم أنا نقلب أفئدتهم وأبصارهم ; أي فنطبع على أبصارهم وقلوبهم فلا يفقهون ولا يبصرون الحق ; كما كانوا عند نزول آياتنا أولا لا يؤمنون بها ; لكونهم وما يشعركم أنا نذرهم في طغيانهم ; أي نخليهم وشأنهم لا نكفهم ونصرفهم عن الطغيان حتى يعمهوا فيه . انتهى . وهذا معنى ما قاله ابن عباس ومجاهد وابن زيد ، قالوا : لو أتيناهم بآية كما سألوا لقلبنا أفئدتهم وأبصارهم عن الإيمان بها وحلنا بينهم وبين الهدى فلم يؤمنوا ; كما لم يؤمنوا بما رأوا قبلها عقوبة لهم على ذلك ، والفرق بين هذا القول والذي بدأنا به أولا أن ذلك استئناف إخبار بما يفعل بهم تعالى في الدنيا ، وهذا إخبار على تقدير مجيء الآية المقترحة ، فذلك واقع وهذا غير واقع ; لأن الآية المقترحة لم تقع ، فلم يقع ما رتب عليها ، وقال مقاتل : نقلب أفئدة هؤلاء وأبصارهم عن الإيمان وعن الآيات كما لم يؤمن أوائلهم من الأمم الخالية بما رأوا من الآيات وقيل : تقليبها بإزعاج نفوسهم هما وغما . وقال الكرماني : معناه أنا نحيط علما بذات الصدور وخائنة الأعين منهم . انتهى . ولا يستقيم هذا التفسير لقوله : كما لم يؤمنوا به أول مرة لا على التعليل لا على التشبيه إلا إن جعل متعلقا بقوله " أنها إذا جاءت لا يؤمنون " أي كما لم يؤمنوا به أول مرة فيصح على بعد في تفسير هذا التقليب بإحاطة العلم .

وقال الكعبي : المراد أنا لا نفعل بهم ما نفعل بالمؤمنين من الفوائد والألطاف من حيث أخرجوا أنفسهم عن الهداية بسبب الكفر . انتهى . وهو على طريقه الاعتزالي .

ومعنى تقليب القلب والبصر ما ينشأ عن القلب والبصر من الدواعي إلى الحيرة والضلال لأن القلب والبصر يتقلبان بأنفسهما فنسبة التقليب إليهما مجاز ، وقدمت الأفئدة ; لأن موضع الدواعي والصوارف هو القلب ; فإذا حصلت الداعية في القلب انصرف البصر إليه شاء أم أبى ، وإذا حصلت الصوارف في القلب انصرف البصر عنه ، وإن كان تحدق النظر إليه ظاهرا ، وهذه التفاسير على أن ذلك في الدنيا ، وقالت فرقة إن ذلك إخبار أن الله تعالى يفعل بهم ذلك في الآخرة . فروي عن ابن عباس أنه جواب لسؤالهم [ ص: 204 ] في الآخرة الرجوع إلى الدنيا ، والمعنى : لو ردوا لحلنا بينهم وبين الهدى كما حلنا بينهم وبينه أول مرة ، وهم في الدنيا . انتهى . وهذا ينبو عنه تركيب الكلام وقيل : تقليبها في النار في جهنم على لهيبها وجمرها ليعذبوا كما لم يؤمنوا به أول مرة ; يعني في الدنيا ، وقاله الجبائي ، وقال أبو الهذيل : تقليب أفئدتهم بلوغها الحناجر ، كما قال تعالى : ( وأنذرهم يوم الآزفة ) ، وقيل : تقليب أبصارهم إلى الزرقة ، وحمل ذلك على أنه في الآخرة ضعيف قلق النظم ; لأن التقليب في الآخرة ، وتركهم في الطغيان في الدنيا ، فيختلف الظرفان من غير دليل على اختلافهما ، بل الظاهر أن ذلك إخبار مستأنف كما قررناه أولا ، والكاف في ( كما ) ذكرنا أنها للتعليل ، وهو واضح فيها ، وإن كان استعمالها فيه قليلا ، وقالت فرقة ( كما ) هي بمعنى المجازاة ; أي : لما لم يؤمنوا به أول مرة نجازيهم بأن نقلب أفئدتهم عن الهدى ، ونطبع على قلوبهم فكأنه قال : ونحن نقلب أفئدتهم وأبصارهم جزاء لما لم يؤمنوا أول مرة بما دعوا إليه من الشرع ، قاله ابن عطية . وهو معنى التعليل الذي ذكرناه ; إلا أن تسمية ذلك بمعنى المجازاة غريبة ، لا يعهد في كلام النحويين أن الكاف للمجازاة ، وقيل : للتشبيه ، وقيل : وفي الكلام حذف تقديره : فلا يؤمنون به ثاني مرة كما لم يؤمنوا به أول مرة ، وقيل : الكاف نعت لمصدر محذوف ; أي تقليبا لكفرهم أي عقوبة مساوية لمعصيتهم . قاله أبو البقاء ، وقال الحوفي : نعت لمصدر محذوف ، والتقدير : لا يؤمنون به إيمانا ثانيا كما لم يؤمنوا به أول مرة . انتهى . والضمير عائد على الله ، أو القرآن أو الرسول . أقوال . وأبعد من ذهب إلى أنه يعود على التقليب ، وانتصب ( أول مرة ) على أنه ظرف زمان ، وقرأ النخعي : ( ويقلب ويذرهم ) بالياء فيهما ، والفاعل ضمير الله ، وقرأ أيضا فيما روى عنه مغيرة : وتقلب أفئدتهم وأبصارهم ، بالرفع فيهما على البناء للمفعول ، ويذرهم بالياء وسكون الراء ، وافقه على ( ويذرهم ) الأعمش والهمداني ، وقال الزمخشري : وقرأ الأعمش : وتقلب أفئدتهم وأبصارهم ، على البناء للمفعول .

التالي السابق


الخدمات العلمية