( 
أفغير الله أبتغي حكما وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلا   ) 
قال مشركو قريش  للرسول : اجعل بيننا وبينك حكما من أحبار اليهود  ، وإن شئت من أساقفة النصارى ، ليخبرنا عنك بما في كتابهم من أمرك ، فنزلت   . ووجه نظمها بما قبلها أنه لما حكى حلف الكفار ، وأجاب بأنه لا فائدة في إظهار الآيات المقترحة لهم أنهم لا يبقون مصرين على الكفر بين الدليل على نبوته بإنزال القرآن عليه ، وقد عجز الخلق عن معارضته ، وحكم فيه بنبوته ، وباشتمال التوراة والإنجيل على أنه رسول حق ، وأن القرآن كتاب من عند الله حق . ووجه آخر وهو أنه لما ذكر العداوة وتهددهم قالوا ما ذكرناه في سبب النزول . وكان من عادتهم إذا التبس عليهم أمر واختلفوا فيه جعلوا بينهم كاهنا حكما ، فأمره الله أن يقول : (   
[ ص: 209 ] أفغير الله أبتغي حكما   ) ، وهذا استفهام معناه النفي ، أي : لا أبتغي حكما غير الله . قال 
الكرماني    : والحكم أبلغ من الحاكم لأنه من عرف منه الحكم مرة بعد أخرى ، والحاكم اسم فاعل يصدق على المرة الواحدة . وقال 
إسماعيل الضرير    : الفرق بينهما أن الحكم لا يحكم إلا بالحق ، والحاكم يحكم بالحق وبغير الحق . وقال 
ابن عطية  نحوه ، قال : الحكم أبلغ من الحاكم ، إذ هي صيغة للعدل من الحكام ، والحاكم جار على الفعل ، وقد يقال للجائر . انتهى . وكأنه إشارة إلى حكم الله عليهم بأنهم لا يؤمنون ولو بعث إليهم كل الآيات ، أو حكمه بأن جعل للأنبياء أعداء ، وحكما أي فاصلا بين الحق والباطل ، وجوزوا في إعراب ( غير ) أن يكون مفعولا بـ ( أبتغي ) وحكما حال ، وعكسه ، وأجاز الحوفي 
وابن عطية  أن ينتصب على التمييز عن غيرهم ، كقولهم : إن لنا غيرها إبلا ، وهو متجه ، وحكاه أبو البقاء ، فالكتاب القرآن ، ومفصلا موضحا مزال الإشكال ، أو مفضلا بالوعد والوعيد ، أو مفصلا مفرقا على حسب المصالح أي لم ينزله مجموعا أو مفصلا فيه الأحكام من النهي والأمر والحلال والحرام والواجب والمندوب والضلال والهدى ، أو مفصلا مبينا فيه الفصل بين الحق والباطل والشهادة لي بالصدق وعليكم بالافتراء ، أقوال خمسة ، وبهذه الآية خاصمت 
الخوارج  عليا  في تكفيره بالتحكيم ، وهذه الجملة حالية . 
( 
والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق   ) أي : والذين أعطيناهم علم التوراة والإنجيل والزبور والصحف ، والمراد علماء أهل الكتاب ، فهو عام بمعنى الخصوص ، وهذه الجملة تكون استئنافا ، وتتضمن الاستشهاد بمؤمني أهل الكتاب والطعن على مشركيهم وحسدتهم ، والعضد في الدلالة بأن القرآن حق ، يعلم أهل الكتاب أنه حق لتصديقه كتبهم وموافقته لها . 
( 
فلا تكونن من الممترين   ) قيل : الخطاب للرسول خطاب لأمته . وقيل : لكل سامع ، أي إذا ظهرت الدلالة فلا ينبغي أن يمترى فيه . وقيل : هو من باب التهييج والإلهاب كقوله : ( 
ولا تكونن من المشركين   ) . وقيل : ( 
فلا تكونن من الممترين   ) في أن أهل الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق ، ولا يريبك جحود أكثرهم وكفرهم . وقرأ 
 nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس  وحفص    : ( منزل ) بالتشديد ، والباقون بالتخفيف . 
( 
وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا   ) لما تقدم من أول السورة إلى هنا دلائل التوحيد والنبوة والبعث والطعن على مخالفي ذلك ، وكان من هنا إلى آخر السورة أحكام وقصص ناسب ذكر هذه الآيات هنا ، أي : تمت أقضيته وأقداره ، قاله 
 nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس    . وقال 
قتادة    : كلماته هو القرآن ، وقال 
 nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري    : كل ما أخبر به وأمر ونهى ووعد وأوعد . وقال 
الحسن    : صدقا في الوعد وعدلا في الوعيد . وقيل : في ما تضمن من خبر وحكم ، أو فيما كان وما يكون ، أو فيما أمر وما نهى ، أو في الترغيب والترهيب ، أو فيما قال : هؤلاء إلى الجنة وهؤلاء إلى النار ، أو في الثواب والعقاب ، أو في نصرة أوليائه وخذلان أعدائه ، أو في نصرة الرسول ببدر وإهلاك أعدائه ، أو في الإرشاد والإضلال ، أو في الغفران والتعذيب ، أو في الفضل والمنع ، أو في توسيع الرزق وتقتيره ، أو في إعطائه وبلائه . وهذه الأقوال أول القول فسر به الصدق والمعطوف فسر به العدل ، وأعرب 
الحوفي   nindex.php?page=showalam&ids=14423والزمخشري  وابن عطية  وأبو البقاء    ( 
صدقا وعدلا   ) مصدرين في موضع الحال ، 
 nindex.php?page=showalam&ids=16935والطبري  تمييزا ، وجوزه 
أبو البقاء    . وقال 
ابن عطية    : هو غير صواب ، وزاد 
أبو البقاء  مفعولا من أجله ، وليس المعنى في ( تمت ) أنها كان بها نقص فكملت ، وإنما المعنى استمرت وصحت ، كما جاء في الحديث : " 
وتم حمزة على إسلامه   " ، وكقوله تعالى : ( 
وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم   ) أي : استمرت ، وهي عبارة عن نفوذ أقضيته . وقرأ الكوفيون هنا ( كلمة ) بالإفراد ، 
ونافع  جميع ذلك ( كلمات ) بالجمع ، تابعه 
أبو عمرو  وابن كثير  هنا . 
( 
لا مبدل لكلماته   ) أي : لا مغير   
[ ص: 210 ] لأقضيته ولا مبدل لكلمات القرآن ، فلا يلحقها تغيير لا في المعنى ولا في اللفظ ، وفي حرف 
أبي    : لا مبدل لكلمات الله . 
( 
وهو السميع العليم   ) أي : السميع لأقوالكم العليم بالضمائر . 
( 
وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله   ) أي : وإن توافق فيما هم عليه من عبادة غير الله وشرع ما شرعوه بغير إذن الله أكثر ، لأن الأكثر إذ ذاك كانوا كفارا ، والأرض هنا الدنيا ، قاله 
 nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس    . وقيل : أكثر من في الأرض رؤساء 
مكة  ، والأرض خاص بأرض 
مكة  ، وكثيرا ما ذم الأكثر في كتابه ، والغالب أنه لا يقال الأكثر إلا للذين يتبعون أهواءهم . 
( 
إن يتبعون إلا الظن   ) أي : ليسوا راجعين في عقائدهم إلى علم ولا فيما شرعوه إلى حكم الله . 
( 
وإن هم إلا يخرصون   ) أي : يقدرون ويحزرون ، وهذا تأكيد لما قبله . ومن المفسرين من خص هذه الطاعة واتباعهم الظن وتخرصهم بأمر الذبائح ، وحكي أن سبب النزول مجادلة المشركين الرسول في أمر الذبائح ، وقولهم : نأكل ما نقتل ولا نأكل ما قتل الله ، فنزلت مخبرة أنهم يقدرون بظنونهم وبخرصهم . 
( 
إن ربك هو أعلم من يضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين   ) لما ذكر تعالى ( 
يضلوك عن سبيل الله   ) أخبر أنه أعلم العالمين بالضال والمهتدي ، والمعنى أنه أعلم بهم وبك ، فإنهم الضالون وأنت المهتدي ، و ( من ) قيل : في موضع جر على إسقاط حرف الجر وإبقاء عمله ، وهذا ليس بجيد لأن مثل هذا لا يجوز إلا في الشعر ، نحو : زيد أضرب السيف ، أي : بالسيف . وقال 
أبو الفتح    : في موضع نصب بـ ( أعلم ) بعد حذف حرف الجر ، وهذا ليس بجيد ; لأن أفعل التفضيل لا يعمل النصب في المفعول به ، وقال 
أبو علي    : في موضع نصب بفعل محذوف ، أي : يعلم من يضل ، ودل على حذفه ( أعلم ) ومثله ما أنشده 
أبو زيد    . 
وأضرب منا بالسيوف القوانسا 
أي : تضرب القوانس ، وهي إذ ذاك موصولة ، وصلتها ( يضل ) وجوز 
أبو البقاء  أن تكون موصوفة بالفعل . وقال 
 nindex.php?page=showalam&ids=15080الكسائي   nindex.php?page=showalam&ids=15153والمبرد   nindex.php?page=showalam&ids=14416والزجاج  ومكي    : في موضع رفع ، وهي استفهامية مبتدأ ، والخبر ( يضل ) ، والجملة في موضع نصب بأعلم ، أي : أعلم أي الناس يضل ، كقوله ( 
لنعلم أي الحزبين   ) ، وهذا ضعيف لأن التعليق فرع عن جواز العمل ، وأفعل التفضيل لا يعمل في المفعول به ، فلا يعلق عنه ، 
والكوفيون  يجيزون إعمال أفعل التفضيل في المفعول به ، والرد عليهم في كتب النحو . وقرأ 
الحسن  وأحمد بن أبي شريح    : ( يضل ) بضم الياء ، وفاعل ( يضل ) ضمير ( من ) ، ومفعوله محذوف ، أي : من يضل الناس ، أو ضمير الله على معنى يجده ضالا أو يخلق فيه الضلال ، وهذه الجملة خبرية تتضمن الوعيد والوعد لأن كونه تعالى عالما بالضال والمهتدي كناية عن مجازاتهما .