صفحة جزء
( وكذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها ليمكروا فيها ) أي : كما جعلنا في مكة صناديدها [ ص: 215 ] ليمكروا فيها جعلنا في كل قرية ، وتضمن ذلك فساد حال الكفرة المعاصرين للرسول ، إذ حالهم حال من تقدمهم من نظرائهم الكفار . وقال عكرمة : نزلت في المستهزئين ، يعني أن التمثيل لهم ، وقيل : هو معطوف على ( كذلك زين ) ، فتكون الإشارة فيه إلى ما أشير إليه بقوله : ( كذلك زين ) ، و ( جعلنا ) بمعنى صيرنا ، ومفعولها الأول ( أكابر مجرميها ) ، وفي كل قرية المفعول الثاني ، و ( أكابر ) على هذا مضاف إلى ( مجرميها ) ، وأجاز أبو البقاء أن يكون ( مجرميها ) بدلا من ( أكابر ) ، وأجاز ابن عطية أن يكون ( مجرميها ) المفعول الأول ، و ( أكابر ) المفعول الثاني ، والتقدير : مجرميها أكابر ، وما أجازاه خطأ وذهول عن قاعدة نحوية ، وهو أن أفعل التفضيل إذا كان بمن ملفوظا بها أو مقدرة أو مضافة إلى نكرة كان مفردا مذكرا دائما سواء كان لمذكر أو مؤنث ، مفرد أو مثنى أو مجموع ، فإذا أنث أو ثني أو جمع طابق ما هو له في ذلك ولزمه أحد أمرين : إما الألف واللام أو الإضافة إلى معرفة ، وإذا تقرر هذا فالقول بأن ( مجرميها ) بدل من ( أكابر ) أو أن ( مجرميها ) مفعول أول ، خطأ لالتزامه أن يبقى ( أكابر ) مجموعا وليس فيه ألف ولام ، ولا هو مضاف إلى معرفة ، وذلك لا يجوز ، وقد تنبه الكرماني لهذه القاعدة فقال : أضاف الأكابر إلى مجرميها لأن أفعل لا يجمع إلا مع الألف واللام أو مع الإضافة . انتهى . وكان ينبغي أن يقيد فيقول : أو مع الإضافة إلى معرفة . وقدر بعضهم المفعول الثاني محذوفا ، أي : فساقا ( ليمكروا فيها ) ، وهو ضعيف جدا لا يجوز أن يحمل القرآن عليه ، وقال ابن عطية : ويقال أكابرة كما قالوا أحمر وأحامرة ، ومنه قول الشاعر :


إن الأحامرة الثلاثة أهلكت مالي وكنت بهن قدما مولعا



انتهى . ولا أعلم أحدا أجاز في الأفاضل أن يقال الأفاضلة ، بل الذي ذكره النحويون أن أفعل التفضيل يجمع للمذكر على الأفضلين أو الأفاضل ، وخص الأكابر لأنهم أقدر على الفساد والتحيل والمكر لرئاستهم وسعة أرزاقهم واستتباعهم الضعفاء والمحاويج . قال البغوي : سنة الله أنه جعل أتباع الرسل الضعفاء كما قال : ( واتبعك الأرذلون ) ، وجعل فساقهم أكابرهم ، وكان قد جلس على طريق مكة أربعة ليصرفوا الناس عن الأيمان بالرسول ، يقولون لكل من يقدم : إياك وهذا الرجل فإنه ساحر كاهن كذاب ، وهذه الآية تسلية للرسول ، إذ حاله في أن كان رؤساء قومه يعادونه ، كما كان في قرية من يعاند الأنبياء ، وقرأ ابن مسلم : أكبر مجرميها ، وأفعل التفضيل إذا أضيف إلى معرفة وكان لمثنى أو مجموع أو مؤنث جاز أن يطابق وجاز أن يفرد ، كقوله : ( ولتجدنهم أحرص الناس على حياة ) ، وتحرير هذا وتفصيله وخلافه مذكور في علم النحو . ولام ( ليمكروا ) لام كي . وقيل : لام العاقبة والصيرورة .

( وما يمكرون إلا بأنفسهم وما يشعرون ) أي : وباله يحيق بهم ، كما قال : " ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله " ، ( وما يشعرون ) يحيق ذلك بهم ، ولا يعني شعورهم على الإطلاق ، وهو مبالغة في نفي العلم إذ نفى عنهم الشعور الذي يكون للبهائم .

( وإذا جاءتهم آية قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله ) [ ص: 216 ] قال مقاتل : روي أن الوليد بن المغيرة قال : لو كانت النبوة حقا لكنت أولى بها منك ; لأني أكبر منك سنا وأكثر منك مالا . روي أن أبا جهل قال : زاحمنا بني عبد مناف في الشرف حتى إذا صرنا كفرسي رهان قالوا : منا نبي يوحى إليه ، والله لا نرضى به ولا نتبعه أبدا إلا أن يأتينا وحي كما يأتيه ، فنزلت ، ونحوه " بل يريد كل امرئ منهم أن يؤتى صحفا منشرة " ، والآية العلامة على صدق الرسول ، والضمير في ( جاءتهم ) عائد على الأكابر ، قاله الزجاج . وقال غيره : يعود على المجادلين في أكل الميتة ، وتغيية إيمانهم بقوله : ( حتى نؤتى ) دليل على تمحلهم في دعواهم واستبعاد منهم أن الإيمان لا يقع منهم البتة إذ علقوه بمستحيل عندهم ، وقولهم : ( رسل الله ) ليس فيه إقرار بالرسل من الله ، وإنما قالوا ذلك على سبيل التهكم والاستهزاء ، ولو كانوا موقنين وغير معاندين لاتبعوا رسل الله ، والمثلية كونهم يجرى على أيديهم المعجزات ، فتحيى لهم الأموات ويفلق لهم البحر ونحو ذلك ، كما جرت على أيدي الرسل أو النبوة أو جبريل والملائكة أو انشقاق القمر أو الدخان أو آية من القرآن تأمرهم بالإيمان ، أقوال ، آخرها للحسن وابن عباس ، وفيه : تأمرهم باتباع الرسول ، وأولاها النبوة والرسالة لقوله : ( الله أعلم حيث يجعل رسالته ) ، فظاهره يدل على أنه المثلية هي في الرسالة . وقال الماتريدي : أخبر عن غاية سفههم وأنهم ينكرون رسالته عن علم بها ، ولولا ذلك ما تمنوا أن يؤتوا مثل ما أوتي . انتهى . ولم يتمنوا ذلك إنما أخبروا أنهم لا يؤمنون حتى يؤتوا مثل ما أوتي الرسل ، فعلقوا ذلك على ممتنع ، وقصدوا بذلك أنهم لا يؤمنون البتة .

( الله أعلم حيث يجعل رسالته ) هذا استئناف إنكار عليهم ، وأنه تعالى لا يصطفي للرسالة إلا من علم أنه يصلح لها ، وهو أعلم بالجهة التي يضعها فيها ، وقد وضعها فيمن اختاره لها وهو رسول الله محمد - صلى الله عليه وسلم - دون أكابر مكة كأبي جهل والوليد بن المغيرة ونحوهما . وقيل : الأبلغ في تصديق الرسل أن لا يكونوا قبل البعث مطاعين في قومهم ; لأنهم إن كانوا مطاعين قبل اتبعوا لأجل الطاعة السابقة ، وقالوا : ( حيث ) لا يمكن إقرارها على الظرفية هنا . قال الحوفي : لأنه تعالى لا يكون في مكان أعلم منه في مكان ، فإذا لم تكن ظرفا كانت مفعولا على السعة ، والمفعول على السعة لا يعمل فيه أعلم ; لأنه لا يعمل في المفعولات فيكون العامل فيه فعل دل عليه أعلم . وقال أبو البقاء : والتقدير يعلم موضع رسالاته ، وليس ظرفا لأنه يصير التقدير يعلم في هذا المكان كذا ، وليس المعنى عليه ، وكذا قدره ابن عطية . وقال التبريزي : ( حيث ) هنا اسم لا ظرف ، انتصب انتصاب المفعول ، كما في قول الشماخ :


وحلأها عن ذي الأراكة عامر     أخو الخضر يرمي حيث تكوى النواحر



فجعل مفعولا به لأنه ليس يريد أنه يرمي شيئا حيث تكوى النواحر ، إنما يريد أنه يرمي ذلك الموضع . انتهى . وما قاله من أنه مفعول به على السعة أو مفعول به على غير السعة ، تأباه قواعد النحو ; لأن النحاة نصوا على أن حيث من الظروف التي لا تتصرف ، وشذ إضافة لدى إليها وجرها بالياء ، ونصوا على أن الظرف الذي يتوسع فيه لا يكون إلا متصرفا ، وإذا كان الأمر كذلك امتنع نصب ( حيث ) على المفعول به لا على السعة ولا على غيرها ، والذي يظهر لي إقرار ( حيث ) على الظرفية المجازية ، على أن تضمن ( أعلم ) معنى ما يتعدى إلى الظرف ، فيكون التقدير : الله أنفذ علما ( حيث يجعل رسالته ) ، أي : هو نافذ العلم في الموضع الذي يجعل فيه رسالته ، والظرفية هنا مجاز كما قلنا ، وروي ( حيث ) بالفتح ، فقيل : حركة بناء ، وقيل : حركة إعراب ، ويكون ذلك على لغة بني فقعس ، فإنهم يعربون ( حيث ) ، حكاها الكسائي . [ ص: 217 ] وقرأ ابن كثير وحفص : رسالته بالتوحيد ، وباقي السبعة على الجمع .

( سيصيب الذين أجرموا صغار عند الله وعذاب شديد بما كانوا يمكرون ) هذا وعيد شديد ، وعلق الإصابة بمن أجرم ليعم الأكابر وغيرهم ، والصغار : الذل والهوان ، يقال منه صغر يصغر وصغر يصغر صغرا وصغارا ، واسم الفاعل صاغر وصغير ، وأرض مصغر لم يطل نبتها ، عن ابن السكيت : وقابل الأكبرية بالصغار ، والعذاب الشديد من الأسر والقتل في الدنيا ، والنار في الآخرة ، وإصابة ذلك لهم بسبب مكرهم في قوله : ( ليمكروا فيها ) وقوله : ( وما يمكرون إلا بأنفسهم ) ، وقدم الصغار على العذاب لأنهم تمردوا عن اتباع الرسول وتكبروا طلبا للعز والكرامة ، فقوبلوا أولا بالهوان والذل ، ولما كانت الطاعة ينشأ عنها التعظيم ثم الثواب عليها نشأ عن المعصية الإهانة ثم العقاب عليها ، ومعنى ( عند الله ) قال الزجاج : في عرصة قضاء الآخرة . وقال الفراء : في حكم الله ، كما يقول عند الشافعي أي : في حكمه . وقيل : في سابق علمه . وقيل : إن الجزية توضع عليهم لا محالة ، وأن حكم الله بذلك مثبت عنده بأنه سيكون ذلك فيهم . وقال إسماعيل الضرير : في الكلام تقديم وتأخير ، أي : صغار ( وعذاب شديد ) عند الله في الآخرة ، وانتصب عند ( سيصيب ) ، أو بلفظ ( صغار ) لأنه مصدر فيعمل ، أو على أنه صفة ل صغار فيتعلق بمحذوف ، وقدره الزجاج : ثابت عند الله ، و ( ما ) الظاهر أنها مصدرية ، أي : بكونهم ( يمكرون ) . وقيل : موصولة بمعنى الذي .

التالي السابق


الخدمات العلمية