صفحة جزء
( قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس أو فسقا أهل لغير الله به ) لما ذكر [ ص: 241 ] أنهم حرموا ما حرموا افتراء على الله ، أمره تعالى أن يخبرهم بأن مدرك التحريم ، إنما هو بالوحي من الله - تعالى - وبشرعه لا بما تهوى الأنفس وما تختلقه على الله - تعالى - وجاء الترتيب هنا كالترتيب الذي في البقرة والمائدة ، وجاء هنا هذه المحرمات منكرة ، والدم موصوف بقوله : ( مسفوحا ) ، والفسق موصوفا بقوله : ( أهل لغير الله به ) ، وفي تينك السورتين معرفا ; لأن هذه السورة مكية فعلق بالتنكير ، وتانك السورتان مدنيتان ، فجاءت تلك الأسماء معارف بالعهد حوالة على ما سبق تنزيله في هذه السورة . وروي عن ابن عامر : ( في ما أوحي ) بفتح الهمزة والحاء ، جعله فعلا ماضيا مبنيا للفاعل ، و ( محرما ) صفة لمحذوف ، تقديره مطعوما ، ودل عليه قوله ( على طاعم يطعمه ) ، ويطعمه صفة لطاعم . وقرأ الباقر : ( يطعمه ) بتشديد الطاء وكسر العين ، والأصل يطتعمه ، أبدلت تاؤه طاء وأدغمت فيها فاء الكلمة . وقرأت عائشة وأصحاب عبد الله ومحمد بن الحنفية : تطعمه بفعل ماض ، و " إلا أن يكون " استثناء منقطع لأنه كون وما قبله عين ، ويجوز أن يكون نصبه بدلا على لغة تميم ، ونصبا على الاستثناء على لغة الحجاز . وقرأ الابنان وحمزة : إلا أن تكون بالتاء ، وابن كثير وحمزة : ( ميتة ) بالنصب ، واسم ( يكون ) مضمر يعود على قوله : ( محرما ) ، وأنث لتأنيث الخبر . وقرأ ابن عامر : ( ميتة ) بالرفع ، جعل كان تامة . وقرأ الباقون بالياء ونصب ( ميتة ) ، واسم كان ضمير مذكر يعود على ( محرما ) ، أي : ( إلا أن يكون ) المحرم ( ميتة ) ، وعلى قراءة ابن عامر ، وهي قراءة أبي جعفر فيما ذكر مكي ، يكون قوله : ( أو دما ) معطوفا على موضع ( أن يكون ) ، وعلى قراءة غيره يكون معطوفا على قوله : ( ميتة ) ، ومعنى ( مسفوحا ) مصبوبا سائلا كالدم في العروق لا كالطحال والكبد ، وقد رخص في دم العروق بعد الذبح . وقيل لأبي مجلز : القدر تعلوها الحمرة من الدم . فقال : إنما حرم الله - تعالى - المسفوح ، وقالت نحوه عائشة ، وعليه إجماع العلماء . وقيل : الدم حرام لأنه إذا زايل فقد سفح . والظاهر أن الضمير في ( فإنه ) عائد على ( لحم خنزير ) ، وزعم أبو محمد بن حزم أنه عائد على خنزير ، فإنه أقرب مذكور ، وإذا احتمل الضمير العود على شيئين كان عوده على الأقرب أرجح ، وعورض بأن المحدث عنه إنما هو اللحم ، وجاء ذكر الخنزير على سبيل الإضافة إليه لا أنه هو المحدث عنه المعطوف ، ويمكن أن يقال : ذكر اللحم تنبيها على أنه أعظم ما ينتفع به من الخنزير ، وإن كان سائره مشاركا له في التحريم بالتنصيص على العلة من كونه رجسا ، أو لإطلاق الأكثر على كله ، أو الأصل على التابع لأن الشحم وغيره تابع للحم . واختلفوا في هذه الآية ، أهي محكمة ؟ وهو قول الشعبي وابن جبير ، فعلى هذا لا شيء محرم من الحيوان إلا فيها ، وليس هذا مذهب الجمهور . وقيل : هي منسوخة بآية المائدة ، وينبغي أن يفهم هذا النسخ بأنه نسخ للحصر فقط . وقيل : جميع ما حرم داخل في الاستثناء ، سواء كان بنص قرآن أو حديث عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالاشتراك في العلة التي هي الرجسية . والذي نقوله : إن الآية مكية وجاءت عقيب قوله : ( ثمانية أزواج ) ، وكان أهل الجاهلية يحرمون ما يحرمون من البحائر والسوائب والوصائل والحوامي ، من هذه الثمانية ، فالآية [ ص: 242 ] محكمة ، وأخبر فيها أنه لم يجد فيما أوحي إليه إذ ذاك من القرآن سوى ما ذكر ، ولذلك أتت صلة ( ما ) جملة مصدرة بالفعل الماضي ، فجميع ما حرم بالمدينة لم يكن إذ ذاك سبق منه وحي فيه بمكة ، فلا تعارض بين ما حرم بالمدينة وبين ما أخبر أنه أوحي إليه بمكة تحريمه ، وذكر الخنزير وإن لم يكن من ثمانية الأزواج لأن من الناس من كان يأكله إذ ذاك ، ولأنه أشبه شيء بثمانية الأزواج في كونه ليس سبعا مفترسا يأكل اللحوم ويتغذى بها ، وإنما هو من نمط الثمانية في كونه يعيش بالنبات ويرعى كما ترعى الثمانية . وذكر المفسرون هنا أشياء مما اختلف أهل العلم فيها ، ونلخص من ذلك شيئا ، فنقول : أما الحمر الأهلية فذهب الشعبي وابن جبير إلى أنه يجوز أكلها ، وتحريم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لها إنما كان لعلة ، وأما لحوم الخيل فاختلف فيها السلف وأباحها الشافعي وابن حنبل وأبو يوسف ومحمد بن الحسن ، وعن أبي حنيفة الكراهة . فقيل : كراهة تنزيه . وقيل : كراهة تحريم ، وهو قول مالك والأوزاعي والحكم بن عيينة وأبي عبيد وأبي بكر الأصم ، وقال به من التابعين مجاهد ، ومن الصحابة ابن عباس ، وروي عنه خلافه ، وقد صنف في حكم لحوم الخيل جزءا قاضي القضاة شمس الدين أحمد بن إبراهيم بن عبد الغني السروجي الحنفي - رحمه الله - قرأناه عليه ، وأجمعوا على تحريم البغال ، وأما الحمار الوحشي إذا تأنس ، فذهب أبو حنيفة وأصحابه والحسن بن صالح والشافعي إلى جواز أكله ، وروى ابن القاسم عن مالك أنه إذا دجن وصار يعمل عليه كما يعمل على الأهلي أنه لا يؤكل . وقال أبو حنيفة وأبو يوسف وزفر ومحمد : لا يحل أكل ذي الناب من السباع وذي المخلب من الطير . وقال مالك : لا يؤكل سباع الوحش ، ولا البر وحشيا كان أو أهليا ، ولا الثعلب ، ولا الضبع ، ولا بأس بأكل سباع الطير الرخم والعقاب والنسور وغيرها ما أكل الجيفة وما لم يأكل . وقال الأوزاعي : الطير كله حلال إلا أنهم يكرهون الرخم . وقال الشافعي : ما عدا على الناس من ذي الناب كالأسد والذئب والنمر ، وعلى الطيور من ذي المخلب كالنسر والبازي لا يؤكل ، ويؤكل الثعلب والضبع ، وكره أبو حنيفة الغراب الأبقع لا الغراب الزرعي ، والخلاف في الحدأة كالخلاف في العقاب والنسر ، وكره أبو حنيفة الضب . وقال مالك والشافعي : لا بأس به ، والجمهور على أنه لا يؤكل الهر الإنسي ، وعن مالك جواز أكله إنسيا كان أو وحشيا ، وعن بعض السلف جواز أكل إنسيه . وقال ابن أبي ليلى : لا بأس بأكل الحية إذا ذكيت . وقال الليث : لا بأس بأكل القنفذ وفراخ النحل ودود الجبن ودود التمر ونحوه ، وكذا قال ابن القاسم عن مالك في القنفذ . وقال أبو حنيفة والشافعي : لا تؤكل الفأرة . وقال أبو حنيفة : لا يؤكل اليربوع . وقال الشافعي : يؤكل ، وعن مالك في الفأر التحريم والكراهة والإباحة ، وذهب أبو حنيفة والشافعي وأصحابهما إلى كراهة أكل الجلالة . وقال مالك والليث : لا بأس بأكلها . وقال صاحب التحرير والتحبير : وأما المخدرات كالبنج والسيكران واللفاح وورق القنب المسمى بالحشيشة فلم يصرح فيها أهل العلم بالتحريم ، وهي عندي إلى التحريم أقرب ; لأنها إن كانت مسكرة فهي محرمة بقوله صلى الله عليه وسلم : " ما أسكر كثيره فقليله حرام " ، وبقوله : " كل مسكر حرام " ، وإن كانت غير مسكرة فإدخال الضرر على الجسم حرام . وقد نقل ابن بختيشوع في كتابه : إن ورق القنب يحدث في الجسم سبعين داء ، وذكر منها أنه يصفر الجلد ويسود الأسنان ويجعل فيها الحفر ويثقب الكبد ويحميها ويفسد العقل ويضعف البصر ويحدث الغم ويذهب الشجاعة ، والبنج والسيكران كالورق في الضرر ، وأما المرقدات كالزعفران والمازريون فالقدر المضر منها حرام ، وقال جمهور الأطباء : إذا استعمل من الزعفران كثير قتل فرحا ، انتهى وفيه بعض تلخيص . وقال [ ص: 243 ] أبو بكر الرازي في قوله : ( على طاعم يطعمه ) دلالة على أن المحرم من الميتة ما يتأتى فيه الأكل منها ، وإن لم يتناول الجلد المدبوغ ولا القرن ولا العظم ولا الظلف ولا الريش ونحوها ، وفي قوله : ( أو دما مسفوحا ) دلالة على أن دم البق والبراغيث والذباب ليس بنجس . انتهى . ( أو فسقا ) الظاهر أنه معطوف على المنصوب قبله ، سمي ما أهل لغير الله به فسقا لتوغله في باب الفسق ، ومنه ( ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق ) ، وأهل صفة له منصوبة المحل ، وأجاز الزمخشري أن ينتصب فسقا على أنه مفعول من أجله مقدم على العامل فيه وهو أهل ؛ لقوله :


طربت وما شوقا إلى البيض أطرب



وفصل به بين أو وأهل بالمفعول له ، ويكون أو أهل معطوفا على ( يكون ) ، والضمير في ( به ) يعود على ما عاد عليه في ( يكون ) ، وهذا إعراب متكلف جدا ، وتركيب على هذا الإعراب خارج عن الفصاحة ، وغير جائز في قراءة من قرأ : ( إلا أن يكون ميتة ) بالرفع ، فيبقى الضمير في ( به ) ليس له ما يعود عليه ، ولا يجوز أن يتكلف محذوفا حتى يعود الضمير عليه ، فيكون التقدير : أو شيء ( أهل لغير الله به ) ; لأن مثل هذا لا يجوز إلا في ضرورة الشعر .

( فمن اضطر غير باغ ولا عاد فإن ربك غفور رحيم ) تقدم تفسير مثل هذا ، ولما كان صدر الآية مفتتحا بخطابه تعالى بقوله : ( قل لا أجد ) اختتم الآية بالخطاب فقال : " فإن ربك " ، ودل على اعتنائه به تعالى بتشريف خطابه افتتاحا واختتاما .

( وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ) مناسبة هذه لما قبلها أنه لما بين أن التحريم إنما يستند للوحي الإلهي ، أخبر أنه حرم على بعض الأمم السابقة أشياء ، كما حرم على أهل هذه الملة أشياء مما ذكرها في الآية قبل ، فالتحريم إنما هو راجع إلى الله - تعالى - في الأمم جميعها ، وفي قوله ( حرمنا ) تكذيب اليهود في قولهم : إن الله لم يحرم علينا شيئا ، وإنما حرمنا على أنفسنا ما حرمه إسرائيل على نفسه . قال ابن عباس ومجاهد وابن جبير وقتادة والسدي : هي ذوات الظلف كالإبل والنعام وما ليس بذي أصابع منفرجة كالبط والإوز ونحوهما ، واختاره الزجاج . وقال ابن زيد : هي الإبل خاصة ، وضعف هذا التخصيص . وقال الضحاك : هي النعامة وحمار الوحش ، وهو ضعيف لتخصيصه . وقال الكلبي : كل ذي مخلب من الطير وذي حافر من الدواب وذي ناب من السباع . وقال القتبي : الظفر هنا بمنزلة الحافر ، يدخل فيه كل ذي حافر من الدواب ، سمي الحافر ظفرا استعارة . وقال ثعلب : كل ما لا يصيد فهو ذو ظفر ، وما يصيد فهو ذو مخلب . قال النقاش : هذا غير مطرد لأن الأسد ذو ظفر . وقال الزمخشري : ما له أصبع من دابة أو طائر ، وكان بعض ذوات الظفر حلالا لهم ، فلما ظلموا حرم ذلك عليهم ، فعم التحريم كل ذي ظفر ، بدليل قوله : ( فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم ) . وقال أبو عبد الله الرازي : حمل الظفر على الحافر ضعيف لأن الحافر لا يكاد يسمى ظفرا ، ولأنه لو كان كذلك لقيل : حرم عليهم كل حيوان له حافر ، وذلك باطل لدلالة الآية على إباحة البقر والغنم مع أنها لها حافر ، فوجب حمل الظفر على المخالب والبراثن ; لأن المخالب آلات لجوارح الصيد في الاصطياد ، فيدخل فيه أنواع السباع والكلاب والسنانير والطيور التي تصطاد ، ويكون هذا مختصا باليهود لدلالة ( وعلى الذين هادوا ) على الحصر ، فيختص التحريم باليهود ، ولا تكون محرمة على المسلمين ، وما روي من تحريم ذي الناب من السباع وذي المخلب من الطير ضعيف ; لأنه خبر واحد على خلاف كتاب الله فلا يقبل ، ويقوي مذهب مالك ، انتهى ملخصا وفيه منوع ، أحدها : لا [ ص: 244 ] نسلم تخصيص ذي الظفر بما قاله . الثاني : لا نسلم الحصر الذي ادعاه . الثالث : لا نسلم الاختصاص . الرابع : لا نسلم أن خبر الواحد في تحريم ذي الناب وذي المخلب على خلاف كتاب الله ، وكل من فسر الظفر بما فسره من ذوي الأقوال السابقة بذاهب إلى تحريم لحم ما فسره وشحمه وكل شيء منه . وذهب بعض المفسرين إلى أن ذلك على حذف مضاف ، وليس المحرم ذا الظفر ، وإنما المراد ما صاده ذو الظفر ، أي : ذو المخلب الذي لم يعلم ، وهذا خلاف الظاهر . وقرأ أبي والحسن والأعرج : ( ظفر ) بسكون الفاء ، والحسن أيضا وأبو السمال قعنب بسكونها وكسر الظاء .

( ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما ) أي : شحوم الجنسين ، ويتعلق " من " بحرمنا المتأخرة ، ولا يجب تقدمها على العامل ، فلو كان التركيب : وحرمنا عليهم من البقر والغنم شحومهما ، لكان تركيبا غريبا ، كما تقول : من زيد أخذت ماله ، ويجوز أخذت من زيد ماله ، والإضافة تدل على تأكيد التخصيص والربط ، إذ لو أتى في الكلام : من البقر والغنم حرمنا عليهم الشحوم ، لكان كافيا في الدلالة على أنه لا يراد إلا شحوم البقر والغنم ، ويحتمل أن يكون ( ومن البقر والغنم ) معطوفا على ( كل ذي ظفر ) ، فيتعلق من بحرمنا الأولى ، ثم جاءت الجملة الثانية مفسرة ما أبهم في " من " التبعيضية من المحرم فقال : ( حرمنا عليهم شحومهما ) . وقال أبو البقاء : لا يجوز أن يكون ( من البقر ) متعلقا بحرمنا الثانية ، بل ذلك معطوف على كل ، ( وحرمنا عليهم ) تبيين للمحرم من البقر والغنم ، وكأنه يوهم أن عود الضمير مانع من التعلق ، إذ رتبة المجرور بمن التأخير ، لكن عن ماذا ؟ أما عن الفعل فمسلم ، وأما عن المفعول فغير مسلم ، وإن سلمنا أن رتبته التأخير عن الفعل والمفعول ليس بممنوع ، بل يجوز ذلك كما جاز : ضرب غلام المرأة أبوها ، وغلام المرأة ضرب أبوها ، وإن كانت رتبة المفعول التأخير ، لكنه وجب هنا تقديمه لعود الضمير الذي في الفاعل الذي رتبته التقديم عليه ، فكيف بالمفعول الذي هو والمجرور في رتبة واحدة ؟ أعني في كونهما فضلة ، فلا يبالى فيهما بتقديم أيهما شئت على الآخر . وقال الشاعر :


وقد ركدت وسط السماء نجومها



فقدم الظرف وجوبا لعود الضمير الذي اتصل بالفاعل على المجرور بالظرف . واختلف في تحريم ذلك على المسلمين من ذبائح اليهود ، فعن مالك : منع أكل الشحم من ذبائحهم ، وروي عنه الكراهة ، وأباح ذلك بعض الناس من ذبائحهم ، ومن ذبحهم ما هو عليهم حرام إذا أمرهم بذلك مسلم . وقال ابن حبيب : ما كان معلوما تحريمه عليهم من كتابنا فلا يحل لنا من ذبائحهم ، وما لم نعلمه إلا من أقوالهم فهو غير محرم علينا من ذبائحهم . انتهى . فظاهر قوله : ( وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم ) أن الشحم الذي هو من ذبائحهم لا يحل لنا أنه ليس من طعامهم ، فلا يدخل تحت عموم ( وطعام الذين ) ، وحمل قوله : ( وطعام الذين ) على الذبائح فيه بعد ، وهو خلاف الظاهر .

( إلا ما حملت ظهورهما ) أي : إلا الشحم الذي حملته ظهورهما البقر والغنم . قال ابن عباس : هو مما علق بالظهر من الشحم ، وبالجنب من داخل بطونهما . وقيل : سمين الظهر وهي الشرائح التي على الظهر من الشحم ، فإن ذلك لم يحرم عليهم . وقال السدي وأبو صالح : الإليات مما حملت ظهورهما .

( أو الحوايا ) هو معطوف على ( ظهورهما ) ، قاله الكسائي ، وهو الظاهر ، أي : والشحم الذي حملته ( الحوايا ) . قال ابن عباس وابن جبير والحسن وقتادة ومجاهد والسدي وابن زيد : هي المباعر . وقال علي بن عيسى : هو كل ما تحويه البطن فاجتمع واستدار . وقال ابن زيد أيضا : هي بنات اللبن . وقيل : الأمعاء والمصارين التي عليها الشحم .

( أو ما اختلط بعظم ) هو معطوف على ( ما حملت ظهورهما ) ، بعظم هو [ ص: 245 ] شحم الإلية لأنه على العصعص ، قاله السدي وابن جريج ، أو شحم الجنب ، أو كل شحم في القوائم والجنب والرأس والعينين والأذنين ، قاله ابن جريج أيضا ، أو مخ العظم ، والظاهر أن هذه الثلاثة مستثناة من الشحم فهي حلال لهم . قيل : بالمحرم أذب شحم الثرب والكلى . وقيل : " أو الحوايا أو ما اختلط بعظم " معطوف على قوله ( شحومهما ) فتكون داخلة في المحرم أي : حرمنا عليهم شحومهما ( أو الحوايا أو ما اختلط بعظم ) إلا ما حملت ظهورهما ، وتكون أو كهي في قوله ( ولا تطع منهم آثما أو كفورا ) ، يراد بها نفي ما يدخل عليه بطريق الانفراد ، كما تقول : هؤلاء أهل أن يعصوا فاعص هذا أو هذا ، فالمعنى حرم عليهم هذا وهذا . قال الزمخشري : وأو بمنزلتها في قولهم : جالس الحسن أو ابن سيرين . انتهى . وقال النحويون : أو في هذا المثال للإباحة فيجوز له أن يجالسهما معا وأن يجالس أحدهما ، والأحسن في الآية إذا قلنا : إن ذلك معطوف على " شحومهما " أن تكون أو فيه للتفصيل ، فصل بها ما حرم عليهم من البقر والغنم . وقال ابن عطية : وقال بعض الناس ( أو الحوايا ) معطوف على الشحوم . قال : وعلى هذا يدخل الحوايا في التحريم ، وهذا قول لا يعضده اللفظ ولا المعنى بل يدفعانه . انتهى . ولم يبين دفع اللفظ والمعنى لهذا القول .

( ذلك جزيناهم ببغيهم ) قال ابن عطية : ( ذلك ) في موضع رفع ، وقال الحوفي : ( ذلك ) في موضع رفع على إضمار مبتدإ تقديره : الأمر ذلك ، ويجوز أن يكون نصب بـ ( جزيناهم ) ; لأنه يتعدى إلى مفعولين ، والتقدير : جزيناهم ذلك . وقال أبو البقاء : ( ذلك ) في موضع نصب بـ ( جزيناهم ) ولم يبين على أي شيء انتصب ، هل على المصدر أو على المفعول بإذ ؟ وقيل : مبتدأ والتقدير : جزيناهموه . انتهى . وهذا ضعيف لضعف : زيد ضربت . وقال الزمخشري : ذلك الجزاء ( جزيناهم ) ، وهو تحريم الطيبات . انتهى . وظاهره أنه منتصب انتصاب المصدر ، وزعم ابن مالك أن اسم الإشارة لا ينتصب مشارا به إلى المصدر إلا وأتبع بالمصدر ، فتقول : قمت هذا القيام وقعدت ذلك العقود ، ولا يجوز قمت هذا ولا قعدت ذلك ، فعلى هذا لا يصح انتصاب ذلك على أنه إشارة إلى المصدر ، والبغي هنا الظلم . وقال الحسن : الكفر . وقال أبو عبد الله الرازي : هو قتلهم الأنبياء بغير حق وأخذهم الربا وأكلهم أموال الناس بالباطل ، ونظيره ( فبظلم من الذين هادوا حرمنا ) ، وهذا يقتضي أن هذا التحريم كان عقوبة لهم على ذنوبهم واستعصائهم على الأنبياء . قال القاضي : نفس التحريم لا يكون عقوبة على جرم صدر منهم ; لأن التكليف تعريض للثواب ، والتعريض للثواب إحسان . والجواب : أن المنع من الانتفاع يمكن لمن يرى استحقاق الثواب ، ويمكن أن يكون للجرم المتقدم ، وكل واحد منهما غير مستبعد .

( وإنا لصادقون ) في الإخبار عما ( حرمنا عليهم ) . وقال ابن عطية : إخبار يتضمن التعريض بكذبهم في قولهم : ما حرم الله علينا وإنما اقتدينا بإسرائيل فيما حرم على نفسه ، ويتضمن إدحاض قولهم ورده عليهم . وقال التبريزي : " وإنا لصادقون " في إتمام جزائهم في الآخرة الذي سبق الوعيد ، فيكون التحريم من الجزاء المعجل لهم في الدنيا ، ولهم في الآخرة عذاب عظيم ، وقال الزمخشري : ( وإنا لصادقون ) فيما أوعدنا به العصاة لا نخلفه ، كما لا نخلف ما وعدناه أهل الطاعة ، فلما عصوا وبغوا ألحقنا بهم الوعيد وأحللنا بهم العقاب . انتهى . وهو على طريقة الاعتزال .

التالي السابق


الخدمات العلمية