صفحة جزء
( فإن كذبوك فقل ربكم ذو رحمة واسعة ولا يرد بأسه عن القوم المجرمين ) الظاهر عود الضمير على أقرب مذكور وهم اليهود ، وقاله مجاهد [ ص: 246 ] والسدي ، أي : ( فإن كذبوك ) فيما أخبرت به أنه تعالى حرمه عليهم ، وقالوا : لم يحرمه الله وإنما حرمه إسرائيل قبل ، متعجبا من قولهم ومعظما لافترائهم مع علمهم بما قلت ، ( فقل ربكم ذو رحمة واسعة ) حيث لم يعاجلكم بالعقوبة مع شدة هذا الجرم ، كما تقول عند رؤية معصية عظيمة : ما أحلم الله ! وأنت تريد لإمهاله العاصي . وقيل : الضمير للمشركين الذين كان الكلام معهم في قوله : ( نبئوني ) وقوله : ( أم كنتم شهداء ) ، أي : ( فإن كذبوك ) في النبوة والرسالة وتبليغ أحكام الله . وقال الزمخشري : ( فإن كذبوك ) في ذلك وزعموا أن الله واسع المغفرة وأنه لا يؤاخذنا بالبغي ويخلف الوعيد جودا وكرما ، فقل لهم ( ربكم ذو رحمة واسعة ) لأهل طاعته ، ( ولا يرد بأسه ) مع سعة رحمته ( عن القوم المجرمين ) ، فلا تغتر برجاء رحمته عن خوف نقمته . انتهى . وهو على طريقة الاعتزال . و ( القوم المجرمين ) عام يندرج فيه مكذبو الرسل وغيرهم من المجرمين ، ويحتمل أن يكون من وقوع الظاهر موقع المضمر ، أي : (ولا يرد بأسه ) عنكم ، وجاء معمول ( قل ) الأول جملة اسمية لأنها أبلغ في الإخبار من الجملة الفعلية ، فناسبت الأبلغية في الله - تعالى - بالرحمة الواسعة ، وجاءت الجملة الثانية فعلية ولم تأت اسمية فيكون التركيب : وذو بأس ، لئلا يتعادل الإخبار عن الوصفين ، وباب الرحمة واسع فلا تعادل . وقال الماتريدي : ( فإن كذبوك ) فيما تدعوهم إليه من التصديق والتوحيد ، ( فقل ربكم ذو رحمة واسعة ) إذا رجعتم عن التكذيب . انتهى . وقيل : ( ذو رحمة ) لا يهلك أحدا وقت المعصية ولكن يؤخر ( ولا يرد بأسه ) إذا نزل .

( سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء ) هذا إخبار بمستقبل ، وقد وقع ، وفيه إخبار بمغيب معجزة للرسول ، فكان كما أخبر به تعالى ، وهذا القول منهم ورد حين بطل احتجاجهم وثبت الرد عليهم ، فعدلوا إلى أمر حق وهو أنه لو أراد الله أن لا يقع من ذلك شيء ، وأوردوا ذلك على سبيل الحوالة على المشيئة والمقادير مغالطة وحيدة عن الحق وإلحادا لا اعتقادا صحيحا ، وقالوا ذلك اعتقادا صحيحا حين قارفوا تلك الأشياء استمساكا بأن ما شاء الله هو الكائن ، كما يقول الواقع في معصية - إذا بين له وجهها - : هذا قدر الله لا مهرب ولا مفر من قدر الله ، أو قالوا ذلك وهو حق على سبيل الاحتجاج على تلك الأشياء ، أي : لو لم يرد الله ما نحن عليه لم يقع ولحال بيننا وبينه . وقال الزمخشري : يعنون بكفرهم وتمردهم أن شركهم وشرك آبائهم وتحريمهم ما أحل الله بمشيئة الله وإرادته ، ولولا مشيئته لم يكن شيء من ذلك ، كمذهب المجبرة بعينه . انتهى . وهو على طريقة الاعتزال . وقال الماتريدي : يحتمل أن تكون المشيئة بمعنى الرضا أو بمعنى الأمر والدعاء ; لأنهم قالوا : إن الله أمرنا بذلك ، ويحتمل أن قالوه استهزاء وسخرية . انتهى . ولا تعلق للمعتزلة بذلك مع هذه الاحتمالات . قال ابن عطية : وتعلقت المعتزلة بهذه الآية فقالوا : إن الله قد ذم لهم هذه المقالة ، وإنما ذمها لأن كفرهم ليس بمشيئة الله بل هو خلق لهم ، قال : وليس الأمر على ما قالوا ، وإنما ذم الله ظن المشركين أن ما شاء الله لا يقع عليه عقاب ، وأما أنه ذم قولهم : لولا المشيئة لم نكفر ، فلا . انتهى . و ( الذين أشركوا ) مشركو قريش أو مشركو العرب ، قولان ، ( ولا آباؤنا ) معطوف على الضمير المرفوع ، وأغنى الفصل بلا بين حرف العطف والمعطوف على الفصل بين المتعاطفين بضمير منفصل يلي الضمير المتصل أو بغيره . وعلى هذا مذهب البصريين ، لا يجيزون ذلك بغير فصل إلا في الشعر ، ومذهب الكوفيين جواز ذلك وهو عندهم فصيح في الكلام . وجاء في سورة النحل ( وقال الذين أشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء نحن ولا آباؤنا ولا حرمنا من دونه من شيء ) فقال : من دونه مرتين ، وقال نحن فأكد الضمير ; لأن لفظ العبادة يصح أن ينسب إلى إفراد الله بها ، وهذا ليس بمستنكر ، بل المستنكر عبادة شيء غير الله أو شيء مع الله ، فناسب هنا ذكر من دونه مع [ ص: 247 ] العبادة ، وأما لفظ ( ما أشركنا ) فالإشراك يدل على إثبات شريك ، فلا يتركب مع هذا الفعل لفظ ( من دونه ) ، لو كان التركيب في غير القرآن ( ما أشركنا ) من دونه ، لم يصح معناه ، وأما ( من دونه ) الثانية فالإشراك يدل على تحريم أشياء وتحليل أشياء ، فلم يحتج إلى لفظ ( من دونه ) ، وأما لفظ العبادة فلا يدل على تحريم شيء كما دل عليه لفظ " أشرك " فقيد بقوله : من دونه ، ولما حذف من دونه هنا ناسب أن يحذف نحن ليطرد التركيب في التخفيف .

( كذلك كذب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا ) أي : مثل ذلك التكذيب المشار إليه في قوله : ( فإن كذبوك ) فقد كذبت الأمم السالفة ، فمتعلق التكذيب هو غير قولهم : ( لو شاء الله ما أشركنا ) الآية ، أي : بنحو هذه الشبهة من ظنهم أن ترك الله لهم دليل على رضاه بحالهم ، وحتى ذاقوا بأسنا غاية لامتداد التكذيب إلى وقت العذاب ; لأنه إذا حل العذاب لم يبق تكذيب ، وجعلت المعتزلة التكذيب راجعا إلى قوله ( ولو شاء الله ) الجملة التي هي محكية بالقول ، وقالوا : كذبهم الله في قولهم ، ويؤيده قراءة بعض الشواذ : كذب . وقال الزمخشري : أي جاءوا بالتكذيب المطلق لأن الله - عز وجل - ركب في العقول وأنزل في الكتب ما دل على غناه وبراءته من مشيئة القبائح وإرادتها ، والرسل أخبرت بذلك ، فمن علق وجوه القبائح من الكفر والمعاصي بمشيئة الله وإرادته ، فقد كذب التكذيب كله وهو تكذيب الله وكتبه ورسله ، ونبذ أدلة العقل والسمع وراء ظهره . انتهى . وهو على طريقة الاعتزال .

( قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون ) استفهام على معنى التهكم بهم وهو إنكار ، أي : ليس عندكم من علم تحتجون به فتظهرونه لنا ، ما تتبعون في دعاواكم إلا الظن الكاذب الفاسد ، وما أنتم إلا تكذبون أو تقدرون وتحزرون . وقرأ النخعي وابن وثاب : إن يتبعون بالياء . قال ابن عطية : وهذه قراءة شاذة يضعفها قوله ( إن أنتم ) ; لأنه يكون من باب الالتفات .

( قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين ) بين ( قل ) والفاء محذوف قدره الزمخشري : فإن كان الأمر كما زعمتم أن ما أنتم عليه بمشيئة الله فلله الحجة البالغة عليكم وعلى رد مذهبكم ، ( فلو شاء لهداكم أجمعين ) منكم ومن مخالفيكم ، فإن تعليقكم دينكم بمشيئة الله يقتضي أن تعلقوا دين من يخالفكم أيضا بمشيئته ، فتوالوهم ولا تعادوهم وتوقروهم ولا تخالفوهم ; لأن المشيئة تجمع بين ما أنتم عليه وبين ما هم عليه . انتهى . وهذا تفسير للآية على ما تقرر قبل في الآيات السابقة من مذهب الاعتزال ، والذي قدره الزمخشري من شرط محذوف و ( فلله الحجة البالغة ) في جوابه بعيد ، والأولى تقديره : أنتم لا حجة لكم ، أي : على إشراككم ولا على تحريمكم من قبل أنفسكم غير مستندين إلى وحي ، ولا على افترائكم على الله أنه حرم ما حرمتم ، ( فلله الحجة البالغة ) في الاحتجاج الغالبة كل حجة ، حيث خلق عقولا يفكر بها وأسماعا يسمع بها وأبصارا يبصر بها ، وكل هذه مدارك للتوحيد ولاتباع ما جاءت به الرسل عن الله . قال أبو نصر القشيري : ( الحجة البالغة ) تبيين للتوحيد وإبداء الرسل بالمعجزات فألزم أمره كل مكلف ، فأما علمه وإرادته فغيب لا يطلع عليه العبد ، ويكفي في التكليف أن يكون العبد لو أراد أن يفعل ما أمر به مكنه ، وخلاف المعلوم مقدور فلا يلتحق بما يكون محالا في نفسه . انتهى . وفي آخر كلامه نظر . قال الكرماني : ( فلو شاء لهداكم ) هداية إلجاء واضطرار . انتهى . وهذه نزعة اعتزالية . وقال أبو نصر بن القشيري : هذا تصريح بأن الكفر واقع بمشيئة الله تعالى . وقال البغوي : هذا يدل أنه لم يشأ إيمان الكافر .

( قل هلم شهداءكم الذين يشهدون أن الله حرم هذا فإن شهدوا فلا تشهد معهم ) بين تعالى كذبهم على الله وافتراءهم في [ ص: 248 ] تحريم ما حرموا منسوبا إلى الله - تعالى - فقال : ( نبئوني بعلم ) ، وقال : ( أم كنتم شهداء ) ، ولما انتفى هذان الوجهان انتقل إلى وجه ليس بهذين الوجهين وهو أن يستدعي منهم من يشهد لهم بتحريم الله ما حرموا ، و ( هلم ) هنا على لغة الحجاز ، وهي متعدية ، ولذلك انتصب المفعول به بعدها ، أي : أحضروا شهداءكم وقربوهم ، وإضافة الشهداء إليهم تدل على أنهم غيرهم ، وهذا أمر على سبيل التعجيز ، أي : لا يوجد من يشهد بذلك شهادة حق لأنها دعوى كاذبة ، ولهذا قال : ( فإن شهدوا فلا تشهد معهم ) أي : فإن فرض أنهم يشهدون فلا تشهد معهم ، أي : لا توافقهم لأنهم كذبة في شهادتهم ، كما أن الشهود لهم كذبة في دعواهم ، وأضاف الشهداء إليهم أي : الذين أعددتموهم شهودا لكم بما تشتهي أنفسكم ، ولذلك وصف بـ ( الذين يشهدون ) ، أي : هم مؤمنون بالشهادة لهم وبنصرة دعاواهم الكاذبة ، ولو قيل : ( هلم ) شهداء بالتنكير لفات المعنى الذي اقتضته الإضافة والوصف بالموصوف إذا كان المعنى هلم أناسا يشهدون بتحريم ذلك ، فكان الظاهر طلب شهداء بالحق ، وذلك ينافي معنى الآية . وقال الحسن : أحضروا شهداءكم من أنفسكم ، قال : ولا تجدون ، ولو حضروا لم تقبل شهادتهم لأنها كاذبة . وقال ابن عطية : فإن افترى أحد وزور شهادة أو خبر عن نبوة ، فتجنب أنت ذلك ولا تشهد معهم ، وفي قوله : ( فلا تشهد معهم ) قوة وصف شهادتهم بنهاية الزور . وقال أبو نصر القشيري : فإن شهد بعضهم لبعض فلا يصدق ، إذ الشهادة من كتاب أو على لسان نبي ، وليس معهم شيء من ذلك . قال الزمخشري : أمرهم باستحضارهم وهم شهداء بالباطل ليلزمهم الحجة ، ويلقمهم الحجر ، ويظهر للمشهود لهم بانقطاع الشهداء أنهم ليسوا على شيء لتساوي أقدام الشاهدين ، والمشهود لهم في أنهم يرجعون إلى ما يصح التمسك به ، وقوله : ( فلا تشهد معهم ) فلا تسلم لهم ما شهدوا به ولا تصدقهم ; لأنه إذا سلم لهم فكأنه شهد معهم مثل شهادتهم ، فكان واحدا منهم . انتهى ، وهو تكثير .

التالي السابق


الخدمات العلمية