صفحة جزء
( أن لا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا ) الظاهر أن ( أن ) تفسيرية ، و ( لا ) ناهية ; [ ص: 250 ] لأن ( أتل ) فعل بمعنى القول ، وما بعد ( أن ) جملة ، فاجتمع في أن شرطا التفسيرية وهي أن يتقدمها معنى القول وأن يكون بعدها جملة ، وذلك بخلاف أي فإنها حرف تفسير يكون قبلها مفرد وجملة يكون فيها معنى القول وغيرها ، وبعدها مفرد وجملة ، وجعلها تفسيرية هو اختيار الزمخشري ، ( فإن قلت ) : إذا جعلت أن مفسرة لفعل التلاوة وهو معلق بـ ( ما حرم ربكم ) وجب أن يكون ما بعده منهيا عنه محرما كله ، كالشرك ، وما بعده مما دخل عليه حرف النهي ، فما يصنع بالأوامر ؟ ( قلت ) : لما وردت هذه الأوامر مع النواهي وتقدمهن جميعا فعل التحريم واشتركن في الدخول تحت حكمه ، علم أن التحريم راجع إلى أضدادها ، وهي الإشارة إلى الوالدين وبخس الكيل والميزان وترك العدل في القول ونكث عهد الله . انتهى . وكون هذه الأشياء اشتركت في الدخول تحت حكم التحريم ، وكون التحريم راجعا إلى أضداد الأوامر بعيد جدا وألغاز في المعاني ولا ضرورة تدعو إلى ذلك ، وأما عطف هذه الأوامر فيحتمل وجهين ، أحدهما أنها معطوفة على المناهي قبلها ، فيلزم انسحاب التحريم عليها حيث كانت في حيز أن التفسيرية ، بل هي معطوفة على قوله : ( تعالوا أتل ما حرم ) ، أمرهم أولا بأمر يترتب عليه ذكر مناه ، ثم أمرهم ثانيا بأوامر ، وهذا معنى واضح ، والثاني أن تكون الأوامر معطوفة على المناهي وداخلة تحت أن التفسيرية ، ويصح ذلك على تقدير محذوف تكون أن مفسرة له وللمنطوق قبله الذي دل عليه حذفه ، والتقدير : وما أمركم به ، فحذف وما أمركم به لدلالة ما حرم عليه ; لأن معنى ( ما حرم ربكم عليكم ) ما نهاكم ربكم عنه ، فالمعنى قل تعالوا أتل ما نهاكم ربكم عنه ، وإذا كان التقدير هكذا صح أن تكون أن تفسيرية لفعل النهي الدال عليه التحريم وفعل الأمر المحذوف ، ألا ترى أنه يجوز أن تقول : أمرتك أن لا تكرم جاهلا وأكرم عالما ، إذ يجوز عطف الأمر على النهي والنهي على الأمر ، كما قال امرؤ القيس :


يقولون لا تهلك أسى وتجمل



وهذا لا نعلم فيه خلافا ، بخلاف الجمل المتباينة بالخبر والاستفهام والإنشاء ، فإن في جواز العطف فيها خلافا ، وقد جوزوا في ( أن ) أن تكون مصدرية لا تفسيرية في موضع رفع وفي موضع نصب . فأما الرفع فعلى إضمار مبتدأ دل عليه المعنى ، والتقدير : المتلو ( أن لا تشركوا ) . وأما النصب فمن وجوه ، أحدها : أن يكون منصوبا بقوله : ( عليكم ) ، ويكون من باب الإغراء ، وتم الكلام عند قوله : ( أتل ما حرم ربكم ) ، أي : التزموا انتفاء الإشراك ، وهذا بعيد لتفكيك الكلام عن ظاهره . الثاني : أن يكون مفعولا من أجله ، أي : ( أتل ما حرم ربكم عليكم ) [ ص: 251 ] ( أن لا تشركوا ) ، وهذا بعيد لأن ما جاء بعده أمر معطوف بالواو ، ومناه هي معطوفة بالواو ، فلا يناسب أن يكون تبيينا لما حرم ، أما الأوامر فمن حيث المعنى ، وأما المناهي فمن حيث العطف . الثالث : أن يكون مفعولا بفعل محذوف ، تقديره : أوصيكم أن لا تشركوا ; لأن قوله : ( وبالوالدين إحسانا ) محمول على أوصيكم ( وبالوالدين إحسانا ) ، وهذا بعيد لأن الإضمار على خلاف الأصل . وهذه الأوجه الثلاثة " لا " فيها باقية على أصل وضعها من النفي ، وهو مراد . الرابع : أن يكون في موضع نصب على البدل من ( ما حرم ) أو من الضمير المحذوف من ( ما حرم ) ، إذ تقديره ما حرمه ، وهذان الوجهان " لا " فيهما زائدة كهي في قوله : ( ما منعك أن لا تسجد إذ أمرتك ) ، وهذا ضعيف لانحصار عموم المحرم في الإشراك ، إذ ما بعده من الأمر ليس داخلا من المحرم ، ولا بعد الأمر مما فيه لا يمكن ادعاء زيادة لا فيه لظهور " أن لا " فيها للنهي . وقال الزمخشري : ( فإن قلت ) : هلا قلت هي التي تنصب الفعل ، وجعلت ( أن لا تشركوا ) بدلا من ( ما حرم ) ، ( قلت ) : وجب أن يكون لا تشركوا ولا تقربوا ولا تقتلوا ولا تتبعوا السبل نواهي لانعطاف الأوامر عليها ، وهي قوله : ( وبالوالدين إحسانا ) ; لأن التقدير : وأحسنوا ( وبالوالدين إحسانا ) ، " وأوفوا " ، " وإذا قلتم فاعدلوا " ، " وبعهد الله أوفوا " . انتهى . ولا يتعين أن تكون جميع الأوامر معطوفة على جميع ما دخل عليه " لا " ; لأنا بينا جواز عطف ( وبالوالدين إحسانا ) على ( تعالوا ) ، وما بعده معطوف عليه ، ولا يكون قوله : ( وبالوالدين إحسانا ) معطوفا على ( أن تشركوا ) ، و ( أن لا تشركوا ) شامل لمن أشرك بالله الأصنام كقوم إبراهيم ، ومن أشرك بالله الجن ، ومن أشرك بنين وبنات . وقال ابن الجوزي : قيل ادعاء شريك لله . وقيل : طاعة غير الله في معصية الله . وتقدم تفسير ( وبالوالدين إحسانا ) في سورة البقرة .

التالي السابق


الخدمات العلمية