صفحة جزء
( قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما لونها ) لما تعرفوا سن هذه ، شرعوا في تعرف لونها ، وذلك كله يدل على نقص فطرهم وعقولهم ، إذ قد تقدم أمر الله لهم بذبح بقرة ، وأمر المبلغ عن الله ، الناصح لهم ، المشفق عليهم ، بقوله : ( فافعلوا ما تؤمرون ) ، ومع ذلك لم يرتدعوا عن السؤال عن لونها ، والقول في : ( ادع لنا ربك ) ، وفي جزم : ( يبين ) ، وفي الجملة المستفهم بها والمحذوف بعده سبق نظيره في الآية قبله ، فأغنى عن ذكره .

( قال إنه يقول إنها بقرة صفراء ) : قال الجمهور : هو اللون المعروف : ولذلك أكد بالفقوع والسرور ، فهي صفراء حتى القرن والظلف ، وقال الحسن وأبو عبيدة : عنى به هنا السواد ، قال الشاعر :


وصفراء ليست بمصفرة ولكن سوداء مثل الحمم



وقال سعيد بن جبير : صفراء القرن والظلف خاصة .

( فاقع ) : أي شديد الصفرة ، قاله ابن عباس والحسن ، أو الخالص الصفرة ، قاله قطرب ، أو الصافي ، قاله أبو العالية وقتادة .

( لونها ) : ذكروا في إعرابه وجوها : أحدها : أنه فاعل مرفوع بـ " فاقع " ، و " فاقع " صفة للبقرة . الثاني : أنه مبتدأ وخبره " فاقع " . والثالث : أنه مبتدأ ، و ( تسر الناظرين ) خبر . وأنث على أحد معنيين : أحدهما : لكونه أضيف إلى مؤنث ، كما قالوا : ذهبت بعض أصابعه . والثاني : أنه يراد به المؤنث ، إذ هو الصفرة ، فكأنه قال : صفرتها تسر الناظرين ، فحمل على المعنى كقولهم : جاءته كتابي فاحتقرها ، على معنى الصحيفة ، والوجه الإعراب الأول ؛ لأن إعراب " لونها " مبتدأ ، و " فاقع " خبرا مقدما لا يجيزه الكوفيون ، أو " تسر الناظرين " خبره فيه تأنيث الخبر ، ويحتاج إلى تأويل ، كما قررناه . وكون " لونها " فاعلا بـ " فاقع " جار على نظم الكلام ، ولا يحتاج إلى تقديم ولا تأخير ولا تأويل ، ولم يؤنث فاقعا وإن كان صفة لمؤنث ؛ لأنه رفع السببي ، وهو مذكر فصار نحو : جاءتني امرأة حسن أبوها ، ولا يصح هنا أن يكون تابعا لـ " صفراء " على سبيل التوكيد ؛ لأنه يلزم المطابقة إذ ذاك للمتبوع . ألا ترى أنك تقول : أسود حالك ، وسوداء حالكة ، ولا يجوز سوداء حالك ؟ فأما قوله :


وإني لأسقي الشرب صفراء فاقعا     كأن ذكي المسك فيها يفتق



فبابه الشعر ، إذا كان وجه الكلام صفراء فاقعة ، وجاء ( صفراء فاقع لونها ) ، ولم يكتف بقوله : صفراء فاقعة ؛ لأنه أراد تأكيد نسبة الصفرة ، فحكم عليها أنها صفراء ، ثم حكم على اللون أنه شديد الصفرة ، فابتدأ أولا بوصف البقرة بالصفرة ، ثم أكد ذلك بوصف اللون بها ، فكأنه قال : هي صفراء ، ولونها شديد الصفرة . [ ص: 253 ] فقد اختلفت جهتا تعلق الصفرة لفظا ، إذ تعلقت أولا بالذات ، ثم ثانيا بالعرض الذي هو اللون ، واختلف المتعلق أيضا ؛ لأن مطلق الصفرة مخالف لشديد الصفرة ، ومع هذا الاختلاف الظاهر فلا يحتاج ذلك إلى التوكيد . قال الزمخشري : فإن قلت ، فهلا قيل : صفراء فاقعة ؟ وأي فائدة في ذلك اللون ؟ قلت : الفائدة فيه التوكيد ؛ لأن اللون اسم للهيئة ، وهي الصفرة ، فكأنه قيل : شديد الصفرة صفرتها ، فهو من قولك : جد جده ، وجنونك جنون اهـ كلامه . وقال وهب : إذا نظرت إليها خيل إليك أن شعاع الشمس يخرج من جلدها .

( تسر الناظرين ) : أي تبهج الناظرين إليها من سمنها ومنظرها ولونها . وهذه الجملة صفة للبقرة ، وقد تقدم قول من جعلها خبرا ، كقوله : لونها ، وفيه تكلف قد ذكرناه . وجاء هذا الوصف بالفعل ، ولم يجئ باسم الفاعل ؛ لأن الفعل يشعر بالحدوث والتجدد . ولما كان لونها من الأشياء الثابتة التي لا تتجدد ، جاء الوصف به بالاسم لا بالفعل ، وتأخر هذا الوصف عن الوصف قبله ؛ لأنه ناشئ عن الوصف قبله ، أو كالناشئ ؛ لأن اللون إذا كان بهجا جميلا ، دهشت فيه الأبصار ، وعجبت من حسنه البصائر ، وجاء بوصف الجمع في الناظرين ، ليوضح أن أعين الناس طامحة إليها ، متلذذة فيها بالنظر . فليست مما تعجب شخصا دون شخص ، ولذلك أدخل الألف واللام التي تدل على الاستغراق ، أي هي بصدد من نظر إليها سر بها ، وإن كان النظر هنا من نظر القلب ، وهو الفكر ، فيكون السرور قد حصل من التفكر في بدائع صنع الله ، من تحسين لونها وتكميل خلقها . والضمير في تسر عائد على البقرة ، على تقدير أن تسر صفة ، وإن كان خبرا ، فهو عائد على اللون الذي تسر خبر عنه . وقد تقدم توجيه التأنيث ، ولذلك من قرأ يسر بالياء ، فهو عائد على اللون ، فيحتمل أن يكون لونها مبتدأ ، ويسر خبرا ، ويكون فاقع صفة تابعة لـ " صفراء " على حد هذا البيت الذي أنشدناه وهو :


وإني لأسقي الشرب صفراء فاقعا



على قلة ذلك ، ويحتمل أن يكون لونها فاعلا بـ " فاقع " ويسر إخبارا مستأنفا . وجمهور المفسرين يشيرون إلى أن الصفرة من الألوان السارة ، ولهذا كان علي كرم الله وجهه ، يرغب في النعال الصفر . وقال ابن عباس : الصفرة تبسط النفس وتذهب الهم ، وكان ابن عباس أيضا يحض على لبس النعال الصفر . ونهى ابن الزبير ويحيى بن أبي كثير عن لباس النعال السود ، لأنها تهم .

( قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي ) قال أبو عبد الله محمد بن أبي الفضل المرسي في ري الظمآن : وجه الاشتباه عليهم ، أن كل بقرة لا تصلح عندهم أن تكون آية ، لما علموا من ناقة صالح وما كان فيها من العجائب ، فظنوا أن الحيوان لا يكون آية إلا إذا كان على ذلك الأسلوب ، وذلك لما نبئوا أنها آية ، سألوا عن ماهيتها وكيفيتها ، ولذلك لم يسألوا موسى عن ذلك ، بل سألوه أن يسأل الله لهم عن ذلك ، إذ الله تعالى هو العالم بالآيات ، وإنما سألوا عن التعيين ، وإن كان اللفظ مقتضاه الإطلاق ، لأنهم لو عملوا بمطلقه لم يحصل التقصي عن الأمر بيقين . انتهى كلامه . وقال غيره : لما لم يمكن التماثل من كل وجه ، وحصل الاشتباه ساغ لهم السؤال ، فأخبروا بسنها ، فوجدوا مثلها في السن كثيرا ، فسألوا عن اللون ، فأخبروا بذلك ، فلم يزل اللبس بذلك ، فسألوا عن العمل ، فأخبروا بذلك ، وعن بعض أوصافها الخاص بها ، فزال اللبس بتبيين السن واللون والعمل وبعض الأوصاف ، إذ وجود بقر كثير على هذه الأوصاف يندر ، فهذا هو السبب الذي جرأهم على تكرار السؤال : ( قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي ) ، تقدم الكلام على هذه الجملة .

( إن البقر تشابه علينا ) : هذا تعليل لتكرار هذا السؤال إلى أن الحامل على استقصاء أوصاف هذه البقرة ، وهو تشابهها علينا ، فإنه كثير من البقر يماثلها في السن واللون . وقرأ عكرمة ويحيى بن يعمر : إن الباقر ، وقد تقدم أنه اسم جمع ، قال الشاعر :

[ ص: 254 ]

ما لي رأيتك بعد عهدك موحشا     خلقا كحوض الباقر المتهدم



وقرأ الجمهور : تشابه ، جعلوه فعلا ماضيا على وزن تفاعل ، مسندا لضمير البقر ، على أن البقر مذكر . وقرأ الحسن : تشابه ، بضم الهاء ، جعله مضارعا محذوف التاء ، وماضيه تشابه ، وفيه ضمير يعود على البقر ، على أن البقر مؤنث . وقرأ الأعرج : كذلك ، إلا أنه شدد الشين ، جعله مضارعا وماضيه تشابه ، أصله : تتشابه ، فأدغم ، وفيه ضمير يعود على البقر . وروي أيضا عن الحسن ، وقرأ محمد المعيطي ، المعروف بذي الشامة : تشبه علينا . وقرأ مجاهد : تشبه ، جعله ماضيا على تفعل . وقرأ ابن مسعود : يشابه ، بالياء وتشديد الشين ، جعله مضارعا من تفاعل ، ولكنه أدغم التاء في الشين . وقرئ : متشبه ، اسم فاعل من تشبه . وقرأ بعضهم : يتشابه ، مضارع تشابه ، وفيه ضمير يعود على البقر . وقرأ أبي : تشابهت . وقرأ الأعمش : متشابه ومتشابهة . وقرأ ابن أبي إسحاق : تشابهت ، بتشديد الشين مع كونه فعلا ماضيا ، وبتاء التأنيث آخره . فهذه اثنتا عشرة قراءة . وتوجيه هذه القراءات ظاهر ، إلا قراءة ابن أبي إسحاق تشابهت ، فقال بعض الناس : لا وجه لها . وتبيين ما قاله : إن تشديد الشين إنما يكون بإدغام التاء فيه ، والماضي لا يكون فيه تاءان ، فتبقى إحداهما وتدغم الأخرى . ويمكن أن توجه هذه القراءة على أن أصله : اشابهت ، والتاء هي تاء البقرة ، وأصله أن البقرة اشابهت علينا ، ويقوي ذلك لحاق تاء التأنيث في آخر الفعل ، أو اشابهت أصله : تشابهت ، فأدغمت التاء في الشين واجتلبت همزة الوصل . فحين أدرج ابن أبي إسحاق القراءة ، صار اللفظ : أن البقرة اشابهت ، فظن السامع أن تاء البقرة هي تاء في الفعل ، إذ النطق واحد ، فتوهم أنه قرأ : تشابهت ، وهذا لا يظن بابن أبي إسحاق ، فإنه رأس في علم النحو ، وممن أخذ النحو عن أصحاب أبي الأسود الدؤلي مستنبط علم النحو . وقد كان ابن أبي إسحاق يزري على العرب وعلى من يستشهد بكلامهم ، كالفرزدق ، إذا جاء في شعرهم ما ليس بالمشهور في كلام العرب ، فكيف يقرأ قراءة لا وجه لها ، وإن البقر تعليل للسؤال ، كما تقول : أكرم زيدا إنه عالم ، فالحامل لهم على السؤال هو حصول تشابه البقر عليهم .

( وإنا إن شاء الله لمهتدون ) : أي لمهتدون إلى عين البقرة المأمور بذبحها ، أو إلى ما خفي من أمر القاتل ، أو إلى الحكمة التي من أجلها أمرنا بذبح البقرة . وفي تعليق هدايتهم بمشيئة الله إنابة وانقياد ودلالة على ندمهم على ترك موافقة الأمر . وقد جاء في الحديث : " ولو لم يستثنوا لما بينت لهم آخر الأبد " . وجواب هذا الشرط محذوف يدل عليه مضمون الجملة ، أي إن شاء الله اهتدينا ، وإذا حذف الجواب كان فعل الشرط ماضيا في اللفظ ومنفيا بلم ، وقياس الشرط الذي حذف جوابه أن يتأخر عن الدليل على الجواب ، فكان الترتيب أن يقال في الكلام : إن زيدا لقائم إن شاء الله ، أي : إن شاء الله فهو قائم ، لكنه توسط هنا بين اسم إن وخبرها ، ليحصل توافق رءوس الآي ، وللاهتمام بتعليق الهداية بمشيئة الله ، وجاء خبر إن اسما ؛ لأنه أدل على الثبوت وعلى أن الهداية حاصلة لهم ، وأكد بحرفي التأكيد إن واللام ، ولم يأتوا بهذا الشرط إلا على سبيل الأدب مع الله تعالى ، إذ أخبروا بثبوت الهداية لهم . وأكدوا تلك النسبة ، ولو كان تعليقا محضا لما احتيج إلى تأكيد ، ولكنه على قول القائل : أنا صانع كذا إن شاء الله ، وهو متلبس بالصنع ، فذكر إن شاء الله على طريق الأدب . قال الماتريدي : إن قوم موسى ، مع غلظ أفهامهم وقلة عقولهم ، كانوا أعرف بالله وأكمل توحيدا من المعتزلة ، لأنهم قالوا : ( وإنا إن شاء الله لمهتدون ) ، والمعتزلة يقولون : قد شاء الله أن يهتدوا ، وهم شاءوا أن لا يهتدوا ، فغلبت مشيئتهم مشيئة الله تعالى ، حيث كان الأمر على : ما شاءوا لا كما شاء الله تعالى ، فتكون الآية حجة لنا على المعتزلة . انتهى كلامه .

التالي السابق


الخدمات العلمية