صفحة جزء
( قال أنظرني إلى يوم يبعثون قال إنك من المنظرين ) هذا يدل على إقراره بالبعث وعلمه بأن آدم سيكون له ذرية ونسل يعمرون الأرض ، ثم يموتون وإن منهم من ينظر فيكون طلبه الإنظار بأن يغويهم ويوسوس إليهم ، فالضمير في يبعثون عائد على ما دل عليه المعنى إذ ليس في اللفظ ما يعود عليه ، وحكمة استنظاره وإن كان ذلك سببا للغواية والفتنة ، إن في ذلك ابتلاء العباد بمخالفته وطواعيته وما يترتب على ذلك من إعظام الثواب بالمخالفة وإدامة العقاب بالطواعية وأجابه تعالى بأنه من المنظرين ، أي : من المؤخرين ولم يأت هنا بغاية للانتظار وجاء مغيبا في الحجر وفي ص بقوله : ( إلى يوم الوقت المعلوم ) ويأتي تفسيره في الحجر إن شاء الله ، ومعنى من المنظرين من الطائفة التي تأخرت أعمارها كثيرا حتى جاءت آجالها على اختلاف أوقاتها فقد شمل تلك الطائفة إنظار وإن لم يكونوا أحياء مدة الدهر ، وقيل من المنظرين جمع كثير مثل قوم يونس .

( قال فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم ) الظاهر أن الباء للقسم وما مصدرية ولذلك تلقيت الآية بقوله : لأقعدن ، قال [ ص: 275 ] الزمخشري وإنما أقسم بالإغواء ؛ لأنه كان تكليفا من أحسن أفعال الله لكونه تعريضا لسعادة الأبد ، فكان جديرا أن يقسم به . انتهى . وقيل : الباء للسبب ، أي : بسبب إغوائك إياي وعبر ابن عطية عنها بأن يراد بها معنى المجازاة قال : كما تقول فبإكرامك لي يا زيد لأكرمنك قال ، وهذا أليق بالقصة ، قال الزمخشري ، فإن قلت : بم تعلقت الباء فإن تعليقها بلأقعدن تصد عنه لام القسم لا تقول والله بزيد لأمرن قلت تعلقت بفعل القسم المحذوف ، تقديره : ( فبما أغويتني ) أقسم بالله ( لأقعدن ) ، أي : بسبب إغوائك أقسم . انتهى . وما ذكره من أن اللام تصد عن تعلق الباء بلأقعدن ليس حكما مجمعا عليه ، بل في ذلك خلاف ، وقيل : ما استفهامية كأنه استفهم عن السبب الذي أغواه وقال بأي شيء أغويتني ، ثم ابتدأه مقسما فقال : لأقعدن لهم ، وضعف بإثبات الألف في ما الاستفهامية ، وذلك شاذ ، أو ضرورة نحو قولهم عما تسأل ، فهذا شاذ ، والضرورة كقوله :


على ما قام يشتمني لئيم

ومعنى ( أغويتني ) أضللتني . قاله ابن عباس والأكثرون ، أو لعنتني . قاله الحسن ، أو أهلكتني . قاله ابن الأنباري ، أو خيبتني . قاله بعضهم ، وقيل : ألقيتني غاويا ، وقيل : سميتني غاويا لتكبري عن السجود لمن أنا خير منه ، وقيل : جعلتني في الغي وهو العذاب ، وقيل : قضيت علي من الأفعال الذميمة ، وقيل : أدخلت علي داء الكبر ، وقال الزمخشري : فبسبب إغوائك إياي لأقعدن لهم ، وهو تكليفه إياه ما وقع به في الغي كما ثبتت الملائكة مع كونهم أفضل منه ومن آدم نفسا ومناصب . وعن الأصم أمرتني بالسجود فحملني الأنف على معصيتك ، والمعنى : فبسبب وقوعي في الغي لأجتهدن في إغوائهم حتى يفسدوا بسببي كما فسدت بسببهم . انتهى . وهو والأصم فسرا على مذهب الاعتزال في نفي نسبة الإغواء حقيقة ، وهو الإضلال إلى الله وكذلك من فسر ( أغويتني ) معنى ألفيتني غاويا وهو فرار من ذلك ، وقوله في الملائكة إنهم أفضل من آدم نفسا ومناصب هو مذهب المعتزلة ، وقال محمد بن كعب القرظي : قاتل الله القدرية ، لإبليس أعلم بالله منهم ، يريد في أنه علم أن الله يهدي ويضل ، وجاء رجل من كبار الفقهاء يرمى بالقدر فجلس إلى طاوس في المسجد الحرام فقال له طاوس : تقوم ، أو تقام فقام الرجل فقيل له : أتقول : هذا الرجل فقيه ، فقال : إبليس أفقه منه قال : رب بما أغويتني ، وهذا يقول أنا أغوي نفسي ، وجعل الزمخشري هذه الحكاية من تكاذيب المجبرة وذكرها ، ثم قال كلاما قبيحا يوقف عليه في كتابه وعبر بالقعود عن الثبوت في المكان ، والثابت فيه قالوا : وانتصب " صراطك " على إسقاط على . قاله الزجاج ، وشبهه بقول العرب ضرب زيد الظهر والبطن ، أي : على الظهر والبطن وإسقاط حرف الجر لا ينقاس في مثل هذا . لا يقال قعدت الخشبة تريد قعدت على الخشبة قالوا : أي : على الظرف كما قال الشاعر فيه :


كما عسل الطريق الثعلب

وهذا أيضا تخريج فيه ضعف ؛ لأن صراطك ظرف مكان مختص ، وكذلك الطريق فلا يتعدى إليه الفعل إلا بواسطة في ، وما جاء خلاف ذلك شاذ ، أو ضرورة وعلى الضرورة أنشدوا :


كما عسل الطريق الثعلب

وما ذهب إليه أبو الحسين بن الطراوة من أن الصراط والطريق ظرف مبهم لا مختص ، رده عليه أهل العربية ، والأولى أن يضمن لأقعدن معنى ما يتعدى بنفسه فينتصب الصراط على أنه مفعول به ، والتقدير : لألزمن بقعودي صراطك المستقيم ، وهذا الصراط هو دين الإسلام وهو الموصل إلى الجنة ، ويضعف ما روي عن ابن مسعود وعون بن عبد الله أنه طريق مكة خصوصا على العقبة المعروفة بعقبة الشيطان يضل الناس عن الحج ، ومعنى قعوده أنه يعترض لهم على طريق الإسلام كما يعترض العدو على الطريق ليقطعه على السابلة وفي الحديث : إن الشيطان قعد لابن آدم بأطرقه نهاه [ ص: 276 ] عن الإسلام ، وقال : أتترك دين آبائك ، فعصاه وأسلم فنهاه عن الهجرة ، وقال : تدع أهلك وبلدك فعصاه فهاجر فنهاه عن الجهاد ، وقال : تقتل وتترك ولدك ، فعصاه فجاهد ، فله الجنة .

التالي السابق


الخدمات العلمية