صفحة جزء
( قال إنه يقول إنها بقرة ) الكلام على هذا كالكلام على نظيره .

[ ص: 255 ] ( لا ذلول تثير الأرض ولا تسقي الحرث ) ، لا ذلول صفة للبقرة ، على أنه من الوصف بالمفرد ، ومن قال هو من الوصف بالجملة ، وأن التقدير : لا هي ذلول ، فبعيد عن الصواب . وتثير الأرض : صفة لذلول ، وهي صلة داخلة في حيز النفي ، والمقصود نفي إثارتها الأرض ، أي لا تثير فتذل ، فهو من باب :


على لاحب لا يهتدى بمناره



اللفظ نفي الذل ، والمقصود نفي الإثارة ، فينتفي كونها ذلولا ولا تسقي الحرث نفي معادل لقوله : لا ذلول . والجملة صفة ، والصفتان منفيتان من حيث المعنى ، كما أن " لا تسقي " منفي من حيث المعنى أيضا . ومعنى الكلام : أنها لم تذلل بالعمل ، لا في حرث ، ولا في سقي ، ولهذا نفي عنها إثارة الأرض وسقيها . وقال الحسن : كانت تلك البقرة وحشية ، ولهذا وصفت بأنها لا تثير الأرض بالحرث ، ولا يسنى عليها فتسقي . وقد ذهب قوم إلى أن قوله : ( تثير الأرض ) ، فعل مثبت لفظا ومعنى ، وأنه أثبت للبقرة أنها تثير الأرض وتحرثها ، ونفى عنها سقي الحرث . ورد هذا القول من حيث المعنى ؛ لأن ما كان يحرث لا ينتفي كونه ذلولا .

وقال بعض المفسرين : معنى تثير الأرض بغير الحرث بطرا ومرحا ، ومن عادة البقر إذا بطرت تضرب بقرنها وأظلافها ، فتثير تراب الأرض ، وينعقد عليه الغبار ، فيكون هذا المعنى من تمام قوله : ( لا ذلول ) ؛ لأن وصفها بالمرح والبطر دليل على أنها لا ذلول . قال الزمخشري : لا ذلول ، صفة لبقرة بمعنى : بقرة غير ذلول ، يعني : لم تذلل للحرث وإثارة الأرض ، ولا هي من النواضح التي يسنى عليها بسقي الحروث . ولا الأولى للنفي ، والثانية مزيدة لتوكيد الأولى ؛ لأن المعنى : لا ذلول تثير وتسقي ، على أن الفعلين صفتان لـ " ذلول " كأنه قيل : لا ذلول مثيرة وساقية . انتهى كلامه . ووافقه على جعل لا الثانية مزيدة صاحب المنتخب ، وما ذهبا إليه ليس بشيء ؛ لأن قوله : لا ذلول صفة منفية بلا ، وإذا كان الوصف قد نفي بلا ، لزم تكرار لا النافية لما دخلت عليه ، تقول مررت برجل لا كريم ولا شجاع ، وقال تعالى : ( ذي ثلاث شعب لا ظليل ولا يغني من اللهب ) ( وظل من يحموم لا بارد ولا كريم ) ( لا فارض ولا بكر ) ، ولا يجوز أن تأتي بغير تكرار ؛ لأن المستفاد منها النفي ، إلا إن ورد في ضرورة الشعر ، وإذا آل تقديرهما إلى لا ذلول مثيرة وساقية ، كان غير جائز لما ذكرناه من وجوب تكرار لا النافية ، وعلى ما قدراه كان نظير : جاءني رجل لا كريم ، وذلك لا يجوز إلا إن ورد في شعر ، كما نبهنا عليه . قال ابن عطية : ولا يجوز أن تكون هذه الجملة في موضع الحال لأنها من نكرة . انتهى كلامه .

والجملة التي أشار إليها هي قوله : تثير الأرض ، والنكرة هي قوله : لا ذلول ، أو قوله : بقرة ، فإن عنى بالنكرة بقرة ، فقد وصفت ، والحال من النكرة الموصوفة جائزة جوازا حسنا ، وإن عنى بالنكرة لا ذلول ، فهو قول الجمهور ممن لم يحصل مذهب سيبويه ، ولا أمعن النظر في كتابه ، بل قد أجاز سيبويه في كتابه ، في مواضع ، مجيء الحال من النكرة ، وإن لم توصف ، وإن كان الإتباع هو الوجه والأحسن ، قال سيبويه في باب ما لا يكون الاسم فيه إلا نكرة : وقد يجوز نصبه على نصب : هذا رجل منطلقا ، يريد على الحال من النكرة ، ثم قال : وهو قول عيسى ، ثم قال : وزعم الخليل أن هذا جائز ، ونصبه كنصبه في المعرفة جعله حالا ، ولم يجعله صفة ، ومثل ذلك : مررت برجل قائما ، إذا جعلت المرور به في حال قيام ، وقد يجوز على هذا : فيها رجل قائما ، ومثل ذلك : عليه مائة بيضاء ، والرفع الوجه ، وعليه مائة دينا ، الرفع الوجه ، وزعم يونس أن ناسا من العرب يقولون : مررت بماء قعدة رجل ، والوجه الجر ، وكذلك قال سيبويه في باب ما ينتصب لأنه قبيح أن يكون صفة فقال : راقود خلا وعليك نحي سمنا ، وقال في باب نعم ، فإذا قلت لي عسل ملء جرة ، وعليه دين شعر كلبين ، فالوجه الرفع ؛ لأنه صفة ، والنصب يجوز كنصبه : عليه مائة بيضاء ، فهذه نصوص سيبويه ، ولو كان ذلك غير جائز ، كما قال ابن عطية ، لما قاسه سيبويه ؛ لأن غير الجائز لا يقال به فضلا عن أن يقاس ، وإن كان الإتباع للنكرة [ ص: 256 ] أحسن ، وإنما امتنعت في هذه المسألة ؛ لأن ما ذهب إليه أبو محمد هو قول الضعفاء في صناعة الإعراب ، الذين لم يطلعوا على كلام الإمام .

وأجاز بعض المعربين أن يكون : تثير الأرض ، في موضع الحال من الضمير المستكن في " ذلول " ، تقديره : لا تذل في حال إثارتها ، والوجه ما بدأنا به أولا ، وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي : لا ذلول ، بالفتح . قال الزمخشري بمعنى لا ذلول هناك ، أي حيث هي ، وهو نفي لذلها ، ولأن توصف به فيقال : هي ذلول ، ونحوه قولك : مررت بقوم لا بخيل ولا جبان ، أي فيهم ، أو حيث هم . انتهى كلامه . فعلى ما قدره يكون الخبر محذوفا ، ويكون قوله : تثير الأرض ، صفة لاسم لا ، وهي منفية من حيث المعنى ، ولذلك عطف عليها جملة منفية ، وهو قوله : ولا تسقي الحرث . وإذا تقرر هذا ، فلا يجوز أن تكون ( تثير الأرض ولا تسقي الحرث ) خبرا ؛ لأنه كان يتنافر هذا التركيب مع ما قبله ؛ لأن قوله : ( يقول إنها بقرة ) يبقى كلاما منفلتا مما بعده ، إذ لا تحصل به الإفادة إلا على تقدير أن تكون هذه الجملة معترضة بين الصفة والموصوف ، ويكون محط الخبر هو قوله : ( مسلمة لا شية فيها ) ، لأنها صفة في اللفظ ، وهي الخبر في المعنى ، ويكون ذلك الاعتراض من حيث المعنى نافيا ذلة هذه البقرة ، إذ هي فرد من أفراد الجنس المنفي بلا الذي بني معها ، ولا يجوز أن تقع هذه الجملة ، أعني لا ذلول ، على قراءة السلمي ، في موضع الصفة على تقدير أن تثير وما بعدها الخبر ؛ لأنه ليس فيها عائد على الموصوف الذي هو بقرة ، إذ العائد الذي في تثير وفي تسقي ضمير اسم لا ، ولا يتخيل أن قوله : ( لا ذلول تثير الأرض ولا تسقي الحرث ) على تقدير أن تثير وما بعده خبر يكون دالا على نفي " ذلول " مع الخبر عن الوجود ؛ لأن ذلك كان يكون غير مطابق لما عليه الوجود ، وإنما المعنى نفي ذلك بالنسبة إلى أرضهم وإلى حرثها ; والألف واللام للعهد . فكما يتعقل انتفاء " ذلول " مع اعتقاد كون تثير وما بعده صفة ، لأنك قيدت الخبر بتقديركه حيث هي ، فصلح هذا النفي ، كذلك يتعقل انتفاء " ذلول " مع الخبر عنه ، حيث اعتقد أن متعلق الخبرين مخصوص ، وهو الأرض والحرث ، وكما تقدر ما من ذلول مثيرة ولا ساقية حيث تلك البقرة ، كذلك تقدر ما من ذلول تثير أرضهم ولا تسقي حرثهم . فكلاهما نفي قد تخصص ، إما بالخبر المحذوف ، وإما بتعلق الخبر المثبت .

وقد انتفى وصف البقرة بـ " ذلول " وما بعدها ، إما بكون الجملة صفة والرابط الخبر المحذوف ، وإما بكون الجملة اعتراضية بين الصفة والموصوف ، إذ لم تشتمل على رابط يربطها بما قبلها ، إذا جعلت تثير خبرا لا يقال : إن الرابط هنا هو العموم ، إذ البقرة فرد من أفراد اسم الجنس ؛ لأن الرابط بالعموم إنما قيل به في نحو : زيد نعم الرجل ، على خلاف في ذلك ، ولعل الأصح خلافه . وباب نعم باب شاذ لا يقاس عليه ، لو قلت زيد لا رجل في الدار ، ومررت برجل لا عاقل في الدار ، وأنت تعني الخبر والصفة وتجعل الرابط العموم ، لأنك إذا نفيت لا رجل في الدار ، انتفى زيد فيها ، وإذا قلت : لا عاقل في الدار ، انتفى العقل عن المرور به ، لم يجز ذلك ، فلذلك اخترنا في هذه القراءة على تقدير كون تثير وتسقي خبرا لـ " لا ذلول " ، أن تكون الجملة اعتراضية بين الصفة والموصوف ، وتدل على نفي الإثارة ونفي السقي ، من حيث المعنى ، لا من حيث كون الجملتين صفة للبقرة . وأما تمثيل الزمخشري بذلك ، بمررت بقوم لا بخيل ولا جبان فيهم ، أو حيث هم ، فتمثيل صحيح ؛ لأن الجملة الواقعة صفة لقوم ليس الرابط فيها العموم ، إنما الرابط هذا الضمير ، وكذلك ما قرره هو الرابط فيه الضمير ، إذ قدره لا ذلول هناك ، أي حيث هي ، فهذا الضمير عائد على البقرة ، وحصل به الربط كما حصل في تمثيله بقوله : فيهم ، أو : حيث هم ، فتحصل من هذا الذي قررناه أن قوله تعالى : ( لا ذلول ) في قراءة السلمي يتخرج على وجهين : أحدهما : أن تكون معترضة ، وذلك على تقدير حذف خبر ، والثاني : أن تكون معترضة ، وذلك على تقدير أن تكون خبر لا تثير الأرض [ ص: 257 ] ولا تسقي الحرث . وكانت قراءة الجمهور أولى ؛ لأن الوصف بالمفرد أولى من الوصف بالجملة ، ولأن في قراءة أبي عبد الرحمن ، على أحد تخريجيها ، تكون قد بدأت بالوصف بالجملة وقدمته على الوصف بالمفرد ، وذلك مخصوص بالضرورة عند بعض أصحابنا ؛ لأن لا ذلول المنفي معها جملة ومسلمة مفرد ، فقد قدمت الوصف بالجملة على الوصف بالمفرد ، والمفعول الثاني لتسقي محذوف ؛ لأن سقى يتعدى إلى اثنين . وقرأ بعضهم : تسقي بضم التاء من أسقى ، وهما بمعنى واحد . وقد قرئ : نسقيكم بفتح النون وضمها . مسلمة من العيوب ، قاله ابن عباس وقتادة وأبو العالية ومقاتل ، أو من الشيات والألوان ، قاله مجاهد وابن زيد ، أو من العمل في الحرث والسقي وسائر أنواع الاستعمال ، قاله الحسن وابن قتيبة . والمعنى : أن أهلها أعفوها من ذلك ، كما قال الآخر :


أو معبر الظهر ينبي عن وليته     ما حج ربه في الدنيا ولا اعتمرا



أو من الحرام ، لا غصب فيها ولا سرقة ولا غيرهما ، بل هي مطهرة من ذلك ، أو مسلمة القوائم والخلق ، قاله عطاء الخراساني ، أو مسلمة من جميع ما تقدم ذكره ، لتكون خالية من العيوب ، بريئة من الغصوب ، مكملة الخلق ، شديدة الأسر ، كاملة المعاني ، صالحة لأن تظهر فيها آية الله تعالى ومعجزة رسوله .

قال أبو محمد بن عطية : ومسلمة ، بناء مبالغة من السلامة ، وقاله غيره ، فقال : هي من صيغ المبالغة ؛ لأن وزنها مفعلة من السلامة ، وليس كما ذكر ؛ لأن التضعيف الذي في " مسلمة " ليس لأجل المبالغة ، بل هو تضعيف النقل والتعدية ، يقال : سلم كذا ، ثم إذا عديته بالتضعيف ، فالتضعيف هنا كهو في قوله : فرحت زيدا ، إذ أصله : فرح زيد ، وكذلك هذا أصله : سلم زيدا ، ثم يضعف فيصير يتعدى . فليس إذن هنا مبالغة بل هو المرادف للبناء المتعدي بالهمزة . شية فيها : أي لا بياض ، قاله السدي ، أو : لا وضح ، وهو الجمع بين لونين من سواد وبياض ، أو لا عيب فيها ، أو : لا لون يخالف لونها من سواد أو بياض ، أو : لا سواد في الوجه والقوائم ، وهو الشية في البقر ، يقال ثور موشى ، إذا كان في وجهه وقوائمه سواد . وقيل : " شية فيها " ، تفسير لقوله : " مسلمة " ، أي خلصت صفرتها عن أخلاط سائر الألوان ، قاله ابن زيد . قال ابن عطية : والثور الأشيه ، الذي ظهر بلقه ، يقال : فرس أبلق ، وكبش أخرج ، وتيس أبرق ، وكلب أبقع ، وثور أشيه . كل ذلك بمعنى البلقة . انتهى . وليس الأشيه مأخوذا من الشية لاختلاف المادتين .

التالي السابق


الخدمات العلمية