صفحة جزء
( ادعوا ربكم تضرعا وخفية ) الظاهر أن الدعاء هو مناجاة الله بندائه لطلب أشياء ولدفع أشياء ، وقال الزجاج : المعنى اعبدوا وانتصب ( تضرعا وخفية ) على الحال ، أي : متضرعين ومخفين ، أو ذوي تضرع واختفاء في دعائكم وفي الحديث الصحيح : إنكم لستم تدعون أصم ولا غائبا إنكم تدعون سميعا قريبا وكان الصحابة حين أخبرهم الرسول بذلك قد جهروا بالذكر أمر تعالى بالدعاء مقرونا بالتذلل والاستكانة والاختفاء إذ ذاك أدعى للإجابة وأبعد عن الرياء ، والدعاء خفية أفضل من الجهر ولذلك أثنى الله على زكريا - عليه السلام - فقال : ( إذ نادى ربه نداء خفيا ) وفي الحديث : خير الذكر الخفي وقواعد الشريعة مقررة أن السر فيما لم يفترض من أعمال البر أعظم أجرا من الجهر . قال الحسن : أدركنا أقواما ما كان على الأرض عمل يقدرون أن يكون سرا فيكون جهرا أبدا ولقد كان المسلمون يجتهدون في الدعاء ولا يسمع لهم صوت إن [ ص: 311 ] هو إلا الهمس بينهم وبين ربهم . انتهى ولو عاش الحسن إلى هذا الزمان العجيب الذي ظهر فيه ناس يتسمون بالمشايخ يلبسون ثياب شهرة عند العامة بالصلاح ويتركون الاكتساب ويرتبون لهم أذكارا لم ترد في الشريعة يجهرون بها في المساجد ويجمعون لهم خداما يجلبون الناس إليهم لاستخدامهم ونتش أموالهم ويذيعون عنهم كرامات ويرون لهم منامات يدونونها في أسفار ويحضون على ترك العلم والاشتغال بالسنة ويرون الوصول إلى الله بأمور يقررونها من خلوات وأذكار لم يأت بها كتاب منزل ولا نبي مرسل ، ويتعاظمون على الناس بالانفراد على سجادة ونصب أيديهم للتقبيل وقلة الكلام وإطراق الرءوس وتعيين خادم يقول : الشيخ مشغول في الخلوة ، رسم الشيخ ، قال الشيخ رأى الشيخ ، الشيخ نظر إليك ، الشيخ كان البارحة يذكرك إلى نحو من هذه الألفاظ التي يخشون بها على العامة ويجلبون بها عقول الجهلة هذا إن سلم الشيخ وخادمه من الاعتقاد الذي غلب الآن على متصوفة هذا الزمان من القول بالحلول ، أو القول بالوحدة فإذ ذاك يكون منسلخا عن شريعة الإسلام بالكلية والتعجب لمثل هؤلاء كيف ترتب لهم الرواتب وتبنى لهم الربط وتوقف عليها الأوقاف ويخدمهم الناس في عروهم عن سائر الفضائل ولكن الناس أقرب إلى أشباههم منهم إلى غير أشباههم ، وقد أطلنا في هذا رجاء أن يقف عليه مسلم فينتفع به ، وقرأ أبو بكر بكسر ضمة الخاء ، وهما لغتان ويظهر ذلك من كلام أبي علي ولا يتأتى إلا على ادعاء القلب وهو خلاف الأصل ونقل ابن سيده في المحكم أن فرقة قرأت ( وخيفة ) من الخوف ، أي : ادعوه باستكانة وخوف . وقال أبو حاتم قرأها الأعمش فيما زعموا .

( إنه لا يحب المعتدين ) وقرأ ابن أبي عبلة : " إن الله " جعل مكان المضمر المظهر ، وهذا اللفظ عام يدخل فيه أولا الدعاء على غير هذين الوجهين من عدم التضرع وعدم الخفية بأن يدعوه وهو ملتبس بالكبر والزهو ، أو أن ذلك دأبه في المواعيد والمدارس فصار ذلك له صنعة وعادة فلا يلحقه تضرع ولا تذلل وبأن يدعوه بالجهر البليغ والصياح ، كدعاء الناس عند الاجتماع في المشاهد والمزارات ، وقال العلماء : الاعتداء في الدعاء على وجوه منها : الجهر الكثير والصياح ، وأن يدعو أن يكون له منزلة نبي ، وأن يدعو بمحال ونحوه من الشطط ، وأن يدعو طالب معصية ، وقال ابن جريج والكلبي : الاعتداء رفع الصوت بالدعاء وعنه الصياح في الدعاء مكروه وبدعة ، وقيل : هو الإسهاب في الدعاء قال القرطبي ، وقد ذكر وجوها من الاعتداء في الدعاء قال : ومنها أن يدعو بما ليس في الكتاب العزيز ولا في السنة فيتخير ألفاظا مقفاة وكلمات مسجعة ، وقد وجدها في كراريس لهؤلاء يعني المشايخ لا معول عليها فيجعلها شعاره يترك ما دعا به رسول الله ، وكل هذا يمنع من استجابة الدعاء ، وقال ابن جبير : الاعتداء في الدعاء أن يدعو على المؤمنين بالخزي والشرك واللعنة ، وفي سنن ابن ماجه أن عبد الله بن مغفل سمع ابنه يقول : اللهم إني أسألك القصر الأبيض عن يمين الجنة إذا دخلتها فقال : أي بني سل الله الجنة وعذ به من النار فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : سيكون قوم يعتدون في الدعاء . زاد ابن عطية والزمخشري في هذا الحديث وحسب المرء أن يقول اللهم إني أسألك الجنة وما قرب إليها من قول وعمل وأعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول وعمل ، ثم قرأ ( إنه لا يحب المعتدين ) .

التالي السابق


الخدمات العلمية