صفحة جزء
ولما سقط في أيديهم ورأوا أنهم قد ضلوا قالوا لئن لم يرحمنا ربنا ويغفر لنا لنكونن من الخاسرين ذكر بعض النحويين أن قول العرب : سقط في يده ، فعل لا يتصرف ، فلا يستعمل منه مضارع ، ولا اسم فاعل ، ولا مفعول ، وكان أصله متصرفا ، تقول : سقط الشيء ، إذا وقع من علو ، فهو في الأصل متصرف لازم ، وقال الجرجاني : سقط في يده مما دثر استعماله ، مثلما دثر استعمال قوله تعالى : فضربنا على آذانهم قال ابن عطية : وفي هذا الكلام ضعف ، والسقاط في كلام العرب : كثرة الخطأ والندم عليه ، ومنه قول ابن أبي كاهل :


كيف يرجون سقاطي بعدما بقع الرأس مشيب وصلع

وحكي عن أبي مروان بن سراج أحد أئمة اللغة بالأندلس أنه كان يقول : قول العرب : سقط في يده ، مما أعياني معناه ، وقال أبو عبيدة : يقال لمن ندم على أمر وعجز عنه : سقط في يده ، وقال الزجاج : معناه سقط الندم في أيديهم ، أي : في قلوبهم وأنفسهم ، كما يقال : حصل في أيديهم مكروه ، وإن كان محالا أن يكون في اليد ، تشبيها لما يحصل في القلب والنفس بما يحصل في اليد ويرى بالعين ، وقال ابن عطية : العرب تقول لمن كان ساعيا لوجه أو طالبا غاية ، فعرض له ما صده عن وجهه ووقفه موقف العجز وتيقن أنه عاجز : سقط في يد فلان ، وقد يعرض له الندم ، وقد لا يعرض ، قال : والوجه الذي يصل بين هذه الألفاظ وبين المعنى الذي ذكرناه هو أن السعي أو الصرف أو الدفاع سقط في يد المشار إليه فصار في يده لا يجاوزها ، ولا يكون له في الخارج أثر ، وقال الزمخشري : لما اشتد ندمهم وحسرتهم على عبادة العجل ; لأن من شأن من اشتد ندمه وحسرته أن يعض يده غما ، فتصير يده مسقوطا فيها ; لأن فاه قد وقع فيها ، وسقط مسند إلى : في أيديهم ، وهو من باب الكناية ، انتهى ، والصواب : وسقط مسند إلى ما : في أيديهم ، وحكى الواحدي عن بعضهم أنه مأخوذ من السقيط ، وهو ما يغشى الأرض بالغذوات شبه الثلج ، يقال منه : سقطت الأرض ، كما يقال : من الثلج ثلجت الأرض وثلجنا ، أي : أصابنا الثلج ، ومعنى سقط في يده والسقيط والسقط يذوب بأدنى حرارة ولا يبقى ، ومن وقع في يده السقيط لم يحصل منه على شيء ، فصار مثلا لكل من خسر في عاقبته ولم يحصل من بغيته على طائل وكانت الندامة آخر أمره ; وقيل : من عادة النادم أن يطأطئ رأسه ويضع ذقنه على يده معتمدا عليها ، ويصير على هيئة لو نزعت يده لسقط على وجهه ، كان اليد مسقوطا فيها ، ومعنى : ( في ) على ، أي : سقط على يده ، ومعنى : في أيديهم ، أي : على أيديهم ، كقوله : ولأصلبنكم في جذوع النخل ، انتهى . وكان متعلق سقط قوله : في أيديهم ; لأن اليد هي الآلة التي يؤخذ بها ويضبط : وسقط مبني للمفعول ، والذي أوقع موضع الفاعل هو الجار والمجرور ، كما تقول : جلس [ ص: 394 ] في الدار وضحك من زيد ; وقيل : سقط تتضمن مفعولا ، وهو هاهنا المصدر الذي هو الإسقاط ، كما يقال : ذهب بزيد ، انتهى ، وصوابه ، وهو هنا ضمير المصدر الذي هو السقوط ; لأن سقط ليس مصدره الإسقاط ، وليس نفس المصدر هو المفعول الذي لم يسم فاعله ، بل هو ضميره ، وقرأت فرقة منهم ابن السميقع : ( سقط في أيديهم ) مبنيا للفاعل ، قال الزمخشري : أي : وقع الغض فيها ، وقال الزجاج : سقط الندم في أيديهم ، قال ابن عطية : ويحتمل أن الخسران والخيبة سقط في أيديهم ، وقرأ ابن أبي عبلة : أسقط في أيديهم - رباعيا مبنيا للمفعول ، ورأوا أي : علموا : أنهم قد ضلوا ، قال القاضي : يجب أن يكون المؤخر مقدما ; لأن الندم والتحسر إنما يقعان بعد المعرفة ، فكأنه تعالى قال : ولما رأوا أنهم قد ضلوا وسقط في أيديهم لما نالهم من عظيم الحسرة ، انتهى ، ولا يحتاج إلى هذا التقدير ، بل يمكن تقدم الندم على تبين الضلال ; لأن الإنسان إذا شك في العمل الذي أقدم عليه أهو صواب أو خطأ حصل له الندم ، ثم بعد يتكامل النظر والفكر فيعلم أن ذلك خطأ ، قالوا لئن لم يرحمنا ربنا انقطاع إلى الله تعالى واعتراف بعظيم ما أقدموا عليه وهذا ، كما قال : آدم وحواء : وإن لم تغفر لنا وترحمنا ولما كان هذا الذنب - وهو اتخاذ غير الله إلها - أعظم الذنوب بدأوا بالرحمة التي وسعت كل شيء ، ومن نتاجها غفران الذنب ، وأما في قصة آدم فإنه جرت محاورة بينه تعالى وبينهما ، وعتاب على ما صدر منهما من أكل ثمر الشجرة بعد نهيه إياهما عن قربانها - فضلا عن أكل ثمرها - فبادرا إلى الغفران وأتبعاه بالرحمة ; إذ غفران ما وقع العتاب عليه أكد ما يطلب أولا ، وقرأ الأخوان والشعبي وابن وثاب والجحدري وابن مصرف والأعمش وأيوب بالخطاب في ( ترحمنا وتغفر ) ونداء ( ربنا ) ، وقرأ باقي السبعة ومجاهد والحسن والأعرج وأبو جعفر وشيبة بن نصاح وغيرهم : يرحمنا ربنا ويغفر لنا بالياء فيهما ورفع ربنا ، وفي مصحف أبي : قالوا ربنا لئن ترحمنا وتغفر لنا ، بتقديم المنادى وهو ربنا ، ويحتمل أن يكون القولان صدرا منهم جميعهم على التعاقب ، أو هذا من طائفة وهذا من طائفة ، فمن غلب عليه الخوف وقوي على المواجهة خاطب مستقيلا من ذنبه العظيم ، ومن غلب عليه الحياء أخرج كلامه مخرج المستحيي من الخطاب فأسند الفعل إلى الغائب ، وفي قولهم : ربنا استعطاف حسن ; إذ الرب هو المالك الناظر في أمر عبيده والمصلح منهم ما فسد .

التالي السابق


الخدمات العلمية