صفحة جزء
أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء لما حضهم على التفكر في حال الرسول صلى الله عليه وسلم ، وكان مفرعا على تقرير دليل التوحيد ، أعقب بما يدل على التوحيد ووجود الصانع الحكيم ، والملكوت الملك العظيم ، وتقدم شرح ذلك في قوله : وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض ولم يقتصر على ذكر النظر في الملكوت ، بل نبه على أن كل فرد فرد من الموجودات محل للنظر والاعتبار والاستدلال على الصانع الحكيم ووحدانيته ، كما قال الشاعر :


وفي كل شيء له آية تدل على أنه الواحد

وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم ( وأن ) معطوف على ( ما ) في قوله : وما خلق ، وبخوا على انتفاء نظرهم في ملكوت السماوات والأرض وهي أعظم المصنوعات وأدلتها على عظمة الصانع ، ثم عطف عليه شيئا عاما ، وهو قوله : وما خلق الله من شيء فاندرج السماوات والأرض في ما خلق ، ثم عطف عليه شيئا يخص أنفسهم ، وهو انتفاء نظرهم وتفكرهم في أن أجلهم قد اقترب ، فيبادرهم الموت على حالة الغفلة عن النظر في ما ذكر فيئول أمرهم إلى الخسار وعذاب النار ، نبههم على الفكر في اقتراب الأجل لعلهم يبادرون إليه ، وإلى طلب الحق وما يخلصهم من عذاب الله قبل مقانصة الأجل ، وأجلهم وقت موتهم ، وقال الزمخشري : يجوز أن يراد باقتراب الأجل اقتراب الساعة ، وأن هي المخففة من الثقيلة ، واسمها محذوف ضمير الشأن ، وخبرها عسى وما تعلقت به ، وقد وقع خبر الجملة غير الخبرية في مثل هذه الآية ، وفي مثل : والخامسة أن غضب الله عليها فـ غضب الله عليها جملة دعاء ، وهي غير خبرية ، فلو كانت أن مشددة لم تقع عسى ولا جملة الدعاء لها ، لا يجوز : علمت أن زيدا عسى أن يخرج ، ولا علمت أن زيدا لعنه الله ، وأنت تريد الدعاء ، وأجاز أبو البقاء أن تكون أن هي المخففة من الثقيلة ، وأن تكون مصدرية يعني أن تكون الموضوعة على حرفين ، وهي الناصبة للفعل المضارع ، وليس بشيء ; لأنهم نصوا على أنها توصل بفعل متصرف مطلقا ، يعنون ماضيا ومضارعا وأمرا ، فشرطوا فيه التصرف ، وعسى فعل جامد فلا يجوز أن يكون صلة لأن ، وعسى هنا تامة ، وأن يكون فاعل بها ، نحو : قولك عسى [ ص: 433 ] أن تقوم ، واسم يكون ، قال الحوفي : أجلهم ، وقد اقترب الخبر ، وقال الزمخشري وغيره : اسم يكون ضمير الشأن ، فيكون قد اقترب أجلهم في موضع نصب ، في موضع خبر يكون ، وأجلهم فاعل باقترب ، وما أجازه الحوفي فيه خلاف ، فإذا قلت كان يقوم زيد فمن النحويين من زعم أن زيدا هو الاسم ، ويقوم في موضع نصب على الخبر ، ومنهم من منع ذلك ويجعل في ذلك ضمير الشأن ، والجواز اختيار ابن مالك ، والمنع اختيار ابن عصفور ، وقد ذكرنا هذه المسألة مستوفاة التقسيم والدلائل في شرحنا لكتاب التسهيل .

فبأي حديث بعده يؤمنون معنى هذه الجملة وما قبلها : توقيفهم وتوبيخهم على أنه لم يقع منهم نظر ولا تدبر في شيء من ملكوت السماوات والأرض ، ولا في مخلوقات الله تعالى ، ولا في اقتراب آجالهم ، ثم قال : فبأي حديث ، أو أمر يقع إيمانهم وتصديقهم ; إذ لم يقع بأمر فيه نجاتهم ودخولهم الجنة ، ونحوه قول الشاعر :

فعن أي نفس بعد نفسي أقاتل

والمعنى : إذا لم أقاتل عن نفسي فكيف أقاتل عن غيرها ؟ ولذلك إذا لم يؤمنوا بهذا الحديث الذي هو الصدق المحض وفيه نجاتهم وخلاصهم ، فكيف يصدقون بحديث غيره ؟ والمعنى : أنه ليس من طباعهم التصديق بما فيه خلاصهم ، والضمير في بعده للقرآن ، أو الرسول وقصته وأمره ، أو الأجل ; إذ لا عمل بعد الموت ، أقوال ثلاثة . قال الزمخشري : ( فإن قلت ) : بم يتعلق قوله : فبأي حديث بعده يؤمنون ، ( قلت ) : بقوله : عسى أن يكون قد اقترب أجلهم ، كأنه قيل : لعل أجلهم قد اقترب فما لهم لا يبادرون إلى الإيمان بالقرآن قبل الفوت ؟ ما ينتظرون بعد وضوح الحق ؟ وبأي حديث أحق منه يريدون أن يؤمنوا ؟

من يضلل الله فلا هادي له نفى نفيا عاما أن يكون هاد لمن أضله الله ، فتضمن اليأس من إيمانهم والمقت بهم .

ويذرهم في طغيانهم يعمهون قرأ الحسن وقتادة وأبو عبد الرحمن وأبو جعفر والأعرج وشيبة والحرميان وابن عامر ( ونذرهم ) بالنون ورفع الراء ، وأبو عمرو وعاصم بالياء ورفع الراء ، وهو استئناف إخبار قطع الفعل ، أو أضمر قبله ونحن ، فيكون جملة اسمية ، وقرأ ابن مصرف والأعمش والأخوان وأبو عمرو فيما ذكر أبو حاتم بالياء والجزم ، وروى خارجة عن نافع بالنون والجزم ، وخرج سكون الراء على وجهين : أحدهما : أنه سكن لتوالي الحركات ، كقراءة : وما يشعركم ، وينصركم ، فهو مرفوع ، والآخر أنه مجزوم عطفا على محل : فلا هادي له ، فإنه في موضع جزم ، فصار مثل قوله : فهو خير لكم ويكفر ، في قراءة من قرأ بالجزم في راء ونكفر . ومثل قول الشاعر :


أنى سلكت فإنني لك كاشح     وعلى انتقاصك في الحياة وازدد

يسألونك عن الساعة أيان مرساها الضمير في يسألونك لقريش ، قالوا : يا محمد ، إنا قرابتك فأخبرنا بوقت الساعة ، وقال ابن عباس : الضمير لليهود ، قال حسل بن أبي بشير وشمويل بن [ ص: 434 ] زيدان : إن كنت نبيا فأخبرنا بوقت الساعة ، فإنا نعرفها فإن صدقت آمنا بك ، فنزلت ، ومناسبتها لما قبلها أنه لما ذكر التوحيد والنبوة والقضاء والقدر أتبع ذلك بذكر المعاد ، وأيضا فلما تقدم قوله : وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم ، وكان ذلك باعثا على المبادرة إلى التوبة أتى بالسؤال عن الساعة ليعلم أن وقتها مكتوم عن الخلق ، فيكون ذلك سببا للمسارعة إلى التوبة ، والساعة : القيامة ، موت من كان حينئذ حيا ، وبعث الجميع فيقع عليه اسم الساعة واسم القيامة ، والساعة من الأسماء الغالبة كالنجم للثريا ، وقرأ الجمهور : أيان ، بفتح الهمزة ، والسلمي بكسرها حيث وقعت ، وتقدم أنها لغة قومه سليم ، ومرساها مصدر ، أي : متى إرساؤها ، وإثباتها : إقرارها ، والرسو : ثبات الشيء الثقيل ، ومنه رسا الجبل ، وأرسيت السفينة ، والمرسا المكان الذي ترسو فيه ، وقال الزمخشري : مرساها إرساؤها أو وقت إرسائها ، أي : إثباتها وإقرارها ، انتهى ، وتقديره أو وقت إرسائها ليس بجيد ؛ لأن أيان اسم استفهام عن الوقت فلا يصح أن يكون خبرا عن الوقت إلا بمجاز ; لأنه يكون التقدير : في أي وقت وقت إرسائها ؟ وأيان مرساها مبتدأ ، وحكى ابن عطية عن المبرد أن مرساها مرتفع بإضمار فعل ، ولا حاجة إلى هذا الإضمار ، وأيان مرساها جملة استفهامية في موضع البدل من الساعة ، والبدل على نية تكرار العامل ، وذلك العامل معلق عن العمل ؛ لأن الجملة فيها استفهام ، ولما علق الفعل وهو يتعدى بعن صارت الجملة في موضع نصب على إسقاط حرف الجر ، فهو بدل في الجملة على موضع عن الساعة ; لأن موضع المجرور نصب ، ونظيره في البدل قولهم : عرفت زيدا أبو من هو ؟ على أحسن المذاهب في تخريج هذه المسألة ، أعني : فيكون الجملة الاستفهامية تكون في موضع البدل .

التالي السابق


الخدمات العلمية