صفحة جزء
( ولقد آتينا موسى الكتاب وقفينا من بعده بالرسل وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون وقالوا قلوبنا غلف بل لعنهم الله بكفرهم فقليلا ما يؤمنون ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل الله بغيا أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده فباءوا بغضب على غضب وللكافرين عذاب مهين وإذا قيل لهم آمنوا بما أنزل الله قالوا نؤمن بما أنزل علينا ويكفرون بما وراءه وهو الحق مصدقا لما معهم قل فلم تقتلون أنبياء الله من قبل إن كنتم مؤمنين ولقد جاءكم موسى بالبينات ثم اتخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا ما آتيناكم بقوة واسمعوا قالوا سمعنا وعصينا وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم قل بئسما يأمركم به إيمانكم إن كنتم مؤمنين قل إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين ولن يتمنوه أبدا بما قدمت أيديهم والله عليم بالظالمين ولتجدنهم أحرص الناس على حياة ومن الذين أشركوا يود أحدهم لو يعمر ألف سنة وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر والله بصير بما يعملون )

قفوت الأثر : اتبعته ، والأصل أن يجيء الإنسان تابعا لقفا الذي اتبعه ، ثم توسع فيه حتى صار لمطلق الاتباع ، وإن بعد زمان المتبوع ، من زمان التابع . وقال أمية :

[ ص: 297 ]

قالت لأخت له قصيه عن جنب وكيف تقفو ولا سهل ولا جدد الرسل

: جمع رسول ، ولا ينقاس فعل في فعول بمعنى مفعول . وتسكين عينه لغة أهل الحجاز ، والتحريك لغة بني تميم . عيسى : اسم أعجمي علم لا يصرف للعجمة والعلمية ، ووزنه عند سيبويه : فعلى ، والياء فيه ملحقة ببنات الأربعة ، بمنزلة ياء معزى ، يعني بالياء الألف ، سماها ياء لكتابتهم إياها ياء . قال أبو علي : وليست للتأنيث ، كالتي في ذكرى ، بدلالة صرفهم له في النكرة . وذهب الحافظ أبو عمرو عثمان بن سعيد الداني ، صاحب التصانيف في القراءات ، وعثمان بن سعيد الصيرفي وغيره ، إلى أن وزنه فعلل ، ورد ذلك الأستاذ أبو الحسن بن الباذش بأن الياء والواو لا يكونان أصلا في بنات الأربع . قال بعض أصحابنا : وهذه الأسماء أعجمية ، وكل أعجمي استعملته العرب ، فالنحويون يتكلمون على أحكامه في التصريف على الحد الذي يتكلمون في العربي ، فعيسى من هذا الباب . انتهى كلامه . ومن زعم أنه مشتق من العيس : وهو بياض يخالطه شقرة ، فغير مصيب ؛ لأن الاشتقاق العربي لا يدخل الأسماء الأعجمية . مريم ، باللسان السرياني معناه : الخادم ، وسميت به أم عيسى ، فصار علما ، فامتنع الصرف للتأنيث والعلمية . ومريم ، باللسان العربي من النساء ، كالزير من الرجال ، وبه فسر قول رؤبة :


قلت لزير لم تصله مريمه



والزير : الذي يكثر خلطة النساء وزيارتهن ، والياء فيه مبدلة من واو ، كالريح ، إذ هما من الزور والروح ، فصار هذا اللفظ مشتركا بالنسبة إلى اللسانين . ووزن مريم عند النحويين مفعل ؛ لأن فعيلا ، بفتح الفاء ، لم يثبت في الأبنية ، كما ثبت نحو عثير وعلبب ، قاله الزمخشري وغيره : وقد أثبت بعض الناس فعيلا ، وجعل منه ضهيدا ، اسم موضع ، ومدين ، إذا جعلنا ميمه أصلية ، وضهياء مقصورة مصروفة ، وهي المرأة التي لا تحيض ، وقيل : التي لا ثدي لها . قال أبو عمرو الشيباني : ضهياة وضهياءة ، بالقصر والمد . قال الزجاج : اشتقاقها من ضأهأت : أي شابهت ، لأنها أشبهت الرجل . وقال ابن جني : أما ضهيد وعثير فمصنوعان ، فلا يجعلان دليلا على إثبات فعيل . انتهى . وصحة حرف العلة في مريم على خلاف القياس نحو مزيد . البين : الواضح ، بان : وضح وظهر . أيد : فعل تأييدا ، أو أيد : أفعل إئيادا ، وكلاهما من الأيد ، وهو القوة . وقد أبدلوا في أفعل من يائه جيما ، قالوا : أجد ، أي قوي ، كما أبدلوا ياء يد ، قالوا : لا أفعل ذلك جدى الدهر ، يريدون يد الدهر ، وهو إبدال لا يطرد . والأصل في آيد أأيد ، وصححت العين كما صححت في أغيلت ، وهو تصحيح شاذ إلا في فعل التعجب ، فتقول : ما أبين ! وما أطول ! ورآه أبو زيد مقيسا ، ولو أعل على حد أقتت وأحدت ، فألقيت حركة العين على الفاء ، وحذفت العين ، لوجب أن تنقلب الفاء واوا لتحركها وانفتاح ما قبلها ، كما انقلبت في أوادم جمع آدم على أفاعل ، ثم تنقلب الواو ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها . فلما أدى القياس إلى إعلال الفاء والعين ، رفض وصححت العين . الروح من الحيوان : اسم للجزء الذي تحصل به الحياة ، قاله الراغب ، واختلف الناس فيه وفي النفس ، أهما من المشترك أم من المتباين ؟ وفي ماهية النفس والروح ، وقد صنف في ذلك . القدس : الطهارة ، وقيل : البركة ، وقد تقدم الكلام على ذلك عند الكلام على قوله تعالى : ( ونقدس لك ) ، الرسول ، فعول بمعنى المفعول ، أي المرسل ، وهو قليل ، ومنه : الحلوب ، والركوب ، بمعنى المحلوب والمركوب . تهوى : تحب وتختار ، ماضيه على فعل ، ومصدره الهوى . غلف : جمع أغلف ، كأحمر وحمر ، وهو الذي لا يفقه ، أو جمع غلاف ، وهو الغشاء ، فيكون أصله التثقيل ، فخفف . اللعن : الطرد والإبعاد ، يقال : شأو لعين ، أي بعيد ، وقال الشماخ :


ذعرت به القطا ونفيت عنه     مقام الذئب كالرجل اللعين



المعرفة : العلم المتعلق بالمفردات ، ويسبقه الجهل ، بخلاف أصل العلم فإنه يتعلق بالنسب ، وقد لا يسبقه [ ص: 298 ] الجهل ، ولذلك لم يوصف الله تعالى بالمعرفة ، ووصف بالعلم . بئس : فعل جعل للذم ، وأصله فعل ، وله ولنعم باب معقود في النحو . البغي : الظلم ، وأصله الفساد ، من قولهم : بغى الجرح : فسد ، قاله الأصمعي ، وقيل : أصله شدة الطلب ، ومنه ما نبغي ، وقول الراجز :


أنشد والباغي يحب الوجدان     قلائصا مختلفات الألوان



ومنه سميت الزانية بغيا ، لشدة طلبها للزنا . الإهانة : الإذلال ، وهان هوانا : لم يحفل به ، وهو معنى الذل ، وهو كون الإنسان لا يؤبه به ، ولا يلتفت إليه . وراء : من الظروف المتوسطة التصرف ، وتكون بمعنى قدام ، وبمعنى : خلف ، وهو الأشهر فيه . الخالص : الذي لا يشوبه شيء ، يقال : خلص يخلص خلوصا . تمنى : تفعل من المنية ، وهو الشيء المشتهى ، وقد يكون المتمنى باللسان بمعنى : التلاوة ، ومنه : تمنى على زيد منه حاجة ، وجد : مشترك بين الإصابة والعلم والغنى والحرج ويختلف بالمصادر : كالوجدان والوجد والموجدة . الحرص : شدة الطلب . الود : المحبة للشيء والإيثار له ، وفعله : ود وهو على فعل يفعل ، وحكى الكسائي : وددت ، فعلى هذا يجوز كسر الواو ، إذ يكون فعل يفعل ، وفك الإدغام في قوله :


ما في قلوبهم لنا من مودة



ضرورة . عمر : التضعيف فيه للنقل ، إذ هو من عمر الرجل : أي طال عمره ، وعمره الله : أطال عمره ، والعمر : مدة البقاء . الألف : عشر من المئين ، وقد يتجاوز فيه فيدل على الشيء الكثير ، وهو من الألفة ، إذ هو ما لف أنواع الأعداد ، إذ العشرات ما لف الآحاد ، والمئون ما لف العشرات ، والألف ما لف المئين . الزحزحة : الإزالة والتنحية عن المقر . بصير : فعيل من بصر به إذا رآه ، ( فبصرت به عن جنب ) ، ثم يتجوز به فيطلق على بصر القلب ، وهو العلم . بصير بكذا : أي عالم به .

( ولقد آتينا موسى الكتاب ) : تقدم الكلام في هذه اللام ، ويحتمل أن تكون للتأكيد ، وأن تكون جواب قسم . ومناسبة هذا لما قبله أن إيتاء موسى الكتاب هو نعمة لهم ، إذ فيه أحكامهم وشرائعهم . ثم قابلوا تلك النعمة بالكفران ، وذلك جرى على ما سبق من عادتهم ، إذ قد أمروا بأشياء ونهوا عن أشياء ، فخالفوا أمر الله ونهيه ، فناسب ذكر هذه الآية ما قبلها . والإيتاء : الإعطاء ، فيحتمل أن يراد به : الإنزال ؛ لأنه أنزله عليه جملة واحدة ، ويحتمل أن يراد آتيناه : أفهمناه ما انطوى عليه من الحدود والأحكام والأنباء والقصص وغير ذلك مما فيه ، فيكون على حذف مضاف : آتينا موسى علم الكتاب ، أو فهم الكتاب . وموسى : هو نبي الله موسى بن عمران ، صلى الله على نبينا وعليه وسلم . والكتاب هنا : التوراة ، في قول الجمهور ، والألف واللام فيه للعهد ، إذ قرن بموسى وانتصابه على أنه مفعول ثان لآتينا . وقد تقدم أنه مفعول أول عند السهيلي ، وموسى هو الثاني عنده .

( وقفينا ) : هذه الياء أصلها الواو ، إلا أنها متى وقعت رابعة أبدلت ياء ، كما تقول : غزيت من الغزو ، والتضعيف الذي في قفينا ليس للتعدية ، إذ لو كان للتعدية لكان يتعدى إلى اثنين ، لأن قفوت يتعدى إلى واحد . تقول : قفوت زيدا ، أي تبعته ، فلو جاء على التعدية لكان : وقفيناه من بعده الرسل ، وكونه لم يجئ كذلك في القرآن ، يبعد أن تكون الباء زائدة في المفعول الأول ، ويكون المفعول الثاني جاء محذوفا . ألا ترى إلى قوله : ( ثم قفينا على آثارهم برسلنا وقفينا بعيسى ابن مريم ) ، ولكنه ضمن معنى جئنا ، كأنه قال : وجئنا من بعده بالرسل ، يقفو بعضهم بعضا ، ومن في : ( من بعده ) : لابتداء الغاية ، وهو ظاهر ؛ لأنه يحكى أن موسى لم يمت حتى نبئ يوشع .

( بالرسل ) : أرسل الله على أثر موسى رسلا وهم : يوشع ، وشمويل ، وشمعون ، وداود ، وسليمان ، وشعيا ، وأرميا ، وعزير ، وحزقيل ، وإلياس ، واليسع ، ويونس ، وزكريا ، ويحيى ، وغيرهم . والباء في بالرسل متعلق بقفينا ، والألف واللام يحتمل أن تكون للجنس الخاص ، ويحتمل أن تكون للعهد ، [ ص: 299 ] لما استفيد من القرآن وغيره أن هؤلاء بعثوا من بعده ، ويحتمل أن تكون التقفية معنوية ، وهي كونهم يتبعونه في العمل بالتوراة وأحكامها ، ويأمرون باتباعها والبقاء على التزامها . وقرأ الجمهور : بالرسل بضم السين . وقرأ الحسن ويحيى بن يعمر : بتسكينها ، وقد تقدم أنهما لغتان ، ووافقهما أبو عمرو إن أضيف إلى ضمير جمع نحو رسلهم ورسلكم ورسلنا ، استثقل توالي أربع متحركات ، فسكن تخفيفا .

( وآتينا عيسى ابن مريم ) : أضاف عيسى إلى أمه ردا على اليهود فيما أضافوه إليه .

( البينات ) : وهي الحجج الواضحة الدالة على نبوته ، فيشمل كل معجزة أوتيها عيسى - عليه السلام - وهذا هو الظاهر . وقيل : الإنجيل . وقيل : الحجج التي أقامها الله على اليهود . وقيل : إبراء الأكمه والأبرص ، والإخبار بالمغيبات ، وإحياء الموتى ، وهم أربعة : سام بن نوح ، والعازر ، وابن العجوز ، وبنت العشار ، ومن الطير : الخفاش ، فقيل : لم يكن من قبل عيسى ، بل هو صورة ، والله نفخ فيه الروح . وقيل : كان قبله ، فوضع عيسى على مثاله . قالوا : وإنما اختص هذا النوع من الطير لأنه ليس شيء من الطير أشد خلقا منه ؛ لأنه لحم كله . وأجمل الله ذكر الرسل ، وفصل ذكر عيسى ؛ لأن من قبله كانوا متبعين شريعة موسى ، وأما عيسى فنسخ شرعه كثيرا من شرع موسى .

( وأيدناه ) : قرأ الجمهور على وزن فعلناه . وقرأ مجاهد ، والأعرج ، وحميد ، وابن محيصن ، وحسين ، عن أبي عمرو : أأيدناه ، على وزن : أفعلناه . وتقدم الكلام على ذلك في المفردات ، وفرق بعضهم بينهما فقال : أما المد فمعناه القوة ، وأما القصر فالتأييد والنصر ، والأصح أنهما بمعنى قويناه ، وكلاهما من الأيد ، وهو القوة .

التالي السابق


الخدمات العلمية