صفحة جزء
وإما ينزغنك من الشيطان نزع فاستعذ بالله إنه سميع عليم ، أي : ينخسنك بأن يحملك بوسوسته على ما لا يليق ، فاطلب العياذة بالله منه وهي اللواذ والاستجارة ، قيل : لما نزلت خذ العفو الآية ، قال رسول الله : كيف والغضب ، فنزلت ، ومناسبتها لما قبلها ظاهرة ، وفاعل ينزغنك هو نزغ على حد قولهم جد جده ، أو على إطلاق المصدر ، والمراد به نازغ ، وختم بهاتين الصفتين ; لأن الاستعاذة تكون بالنسيان ، وتجدي إلا باستحضار معناها ، فالمعنى سميع للأقوال عليم بما في الضمائر ، قال ابن عطية : الآية وصية من الله تعالى لنبيه تعم أمته رجلا رجلا ، ونزغ الشيطان عام في الغضب وتحسين المعاصي واكتساب الغوائل وغير ذلك ، وفي مصنف أبي عيسى الترمذي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : إن للملك لمة وإن للشيطان لمة وبهذه الآية تعلق ابن القاسم في قوله : إن الاستعاذة عند القراءة أعوذ بالله السميع [ ص: 449 ] العليم من الشيطان الرجيم ، انتهى . واستنباط ذلك من الآية ضعيف ; لأن قوله : إنه سميع عليم جرى مجرى التعليل لطلب الاستجارة بالله ، أي : لا تستعذ بغيره ، فإنه هو السميع لما تقول ، أو السميع لما تقوله الكفار فيك حين يرومون إغضابك ، العليم بقصدك في الاستعاذة ، أو العليم بما انطوت عليه ضمائرهم من الكيد لك ، فهو ينصرك عليهم ويجيرك منهم .

إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون النزغ من الشيطان أخف من مس الطائف من الشيطان ; لأن النزغ أدنى حركة ، والمس الإصابة ، والطائف ما يطوف به ويدور عليه ، فهو أبلغ لا محالة ، فحال المتقين تزيد في ذلك على حال الرسول ، وانظر لحسن هذا البيان حيث جاء الكلام للرسول كان الشرط بلفظ إن المحتملة للوقوع ولعدمه ، وحيث كان الكلام للمتقين كان المجيء بإذا الموضوعة للتحقيق ، أو للترجيح ، وعلى هذا فالنزغ يمكن أن يقع ويمكن أن لا يقع ، والمس واقع لا محالة ، أو يرجح وقوعه ، وهو إلصاق البشرة ، وهو هنا استعارة ، وفي تلك الجملة أمر هو صلى الله عليه وسلم بالاستعاذة ، وهنا جاءت الجملة خبرية في ضمنها الشرط ، وجاء الخبر تذكروا فدل على تمكن مس الطائف حتى حصل نسيان فتذكروا ما نسوه ، والمعنى : تذكروا ما أمر به تعالى وما نهى عنه ، وبنفس التذكر حصل إبصارهم فاجأهم إبصار الحق والسداد ، فاتبعوه وطروا عنهم مس الشيطان الطائف ، واتقوا قيل : عامة في كل ما يتقى ; وقيل : الشرك والمعاصي ; وقيل : عقاب الله ، وقرأ النحويان وابن كثير : طيف ، فاحتمل أن يكون مصدرا من طاف يطيف طيفا ، أنشد أبو عبيدة :


أنى ألم بك الخيال يطيف ومطافه لك ذكرة وشعوف



واحتمل أن يكون مخففا من طيف كميت وميت ، أو كلين من لين ; لأن طاف المشددة يحتمل أن يكون من طاف يطيف ، ويحتمل أن يكون من طاف يطوف ، وقرأ باقي السبعة : طائف ، اسم فاعل من طاف ، وقرأ ابن جبير ( طيف ) بالتشديد ، وهو فيعل ، وإلى أن الطيف مصدر مال الفارسي ، جعل الطيف كالخطرة والطائف كالخاطر ، وقال الكسائي : الطيف اللمم والطائف ما طاف حول الإنسان . قال ابن عطية : وكيف هذا وقد قال الأعشى :


وتصبح عن غب السرى وكأنها     ألم بها من طائف الجن أولق



انتهى ، ولا يتعجب من تفسير الكسائي الطائف بأنه ما طاف حول الإنسان بهذا البيت ; لأنه يصح [ ص: 450 ] فيه معنى ما قاله الكسائي ; لأنه إن كان تعجبه وإنكاره من حيث خصص الإنسان ، والذي قاله الأعشى تشبيه لأنه قال : كأنها ، وإن كان تعجبه من حيث فسر بأنه ما طاف حول الإنسان ، فطائف الجن يصح أن يقال : طاف حول الإنسان ، وشبه هو الناقة في سرعتها ونشاطها وقطعها الفيافي عجلة بحالتها إذا ألم بها أولق من طائف الجن ، وقال أبو زيد : طاف أقبل وأدبر يطوف طوفا وطوافا ، وأطاف استدار القوم وأتاهم من نواحيهم ، وطاف الخيال ألم يطيف طيفا ، وزعم السهيلي أنه لم يقل اسم فاعل من طاف الخيال قال : لأنه تخيل لا حقيقة ، وأما فطاف عليها طائف من ربك فلا يقال فيه طيف ; لأنه اسم فاعل حقيقة ، انتهى ، وقال حسان :


جنية أرقني طيفها     تذهب صبحا وترى في المنام



وقال ابن عباس : هما بمعنى النزع ، وقال السدي : الطيف الجنون ، والطائف الغضب ، وقال أبو عمرو : هما بمعنى الوسوسة ; وقيل : هما بمعنى اللمم والخيال ; وقيل : الطيف النخيل ، والطائف الشيطان ، وقال مجاهد : الطيف الغضب ويسمى الجنون والغضب والوسوسة طيفا ; لأنه لمة من الشيطان ، وقال عبد الله بن الزبير والسدي : إذا زلوا تابوا ، وقال مجاهد : إذا هموا بذنب ذكروا الله فتركوه ، وقال ابن جبير : إذا غضب كظم غيظه ، وقال مقاتل : إذا أصابه نزغ تذكر وعرف أنها معصية نزع عنها مخافة الله تعالى ، وقال أبو روق : ابتهلوا ، وقال ابن بحر : عاذوا بذكر الله ; وقيل : تفكروا فأبصروا ، وهذه كلها أقوال متقاربة ، وسب عصام بن المصطلق الشامي الحسين بن علي رضي الله عنه سبا مبالغا وأباه ; إذ كان مبغضا لأبيه ، فقال الحسين بن علي : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم خذ العفو وأمر بالعرف ، إلى قوله : فإذا هم مبصرون ، ثم قال : خفض عليك ، أستغفر الله لي ولك ، ودعا له في حكاية فيها طول ، ظهر فيها من مكارم أخلاقه وسعة صدره وحوالة الأشياء على القدر ما صير عصاما أشد الناس حبا له ولأبيه ، وذلك باستعماله هذه الآية الكريمة وأخذ بها ، ومبصرون هنا من البصيرة لا من البصر ، وقرأ ابن الزبير : من الشيطان تأملوا ، وفي مصحف أبي : إذا طاف من الشيطان طائف تأملوا فإذا هم مبصرون ، وينبغي أن يحمل هذا وقراءة ابن الزبير على أن ذلك من باب التفسير ، لا على أنه قرآن لمخالفته سواد ما أجمع المسلمون عليه من ألفاظ القرآن .

وإخوانهم يمدونهم في الغي ثم لا يقصرون الضمير في وإخوانهم عائد على الجاهلين ، أو على ما دل عليه قوله : إن الذين اتقوا ، وهم غير المتقين ; لأن الشيء قد يدل على مقابله فيضمر ذلك المقابل لدلالة مقابله عليه ، وعنى بالإخوان على هذا التقدير : الشياطين ، كأنه قيل : والشياطين الذين هم إخوان الجاهلين ، أو غير المتقين يمدون الجاهلين ، أو غير المتقين في الغي ، فالواو في يمدونهم ضمير الإخوان ، فيكون الخبر جاريا على من هو له ، والضمير المجرور والمنصوب للكفار ، وهذا قول قتادة ، وقال ابن عطية : ويحتمل أن يعودا جميعا على الشياطين ، ويكون المعنى : وإخوان الشياطين في الغي بخلاف الإخوة في الله يمدون الشياطين ، أي : بطاعتهم لهم وقبولهم منهم ، ولا يترتب هذا التأويل على أن يتعلق في الغي بالإمداد ; لأن الإنس لا يعودون الشياطين ، انتهى ، ويمكن أن يتعلق في الغي على هذا التأويل بقوله : يمدونهم على أن تكون في للسببية ، أي : يمدونهم بسبب غوايتهم ، نحو : دخلت امرأة النار في هرة ، أي : بسبب هرة ، ويحتمل أن يكون في الغي حالا فيتعلق بمحذوف ، أي : كائنين ومستقرين في الغي ، فيبقى في الغي في موضعه لا يكون متعلقا بقوله : وإخوانهم ، وقد جوز ذلك ابن عطية ، وعندي في ذلك نظر ، فلو قلت : مطعمك زيد لحما ، تريد : مطعمك لحما زيد ، فتفصل بين المبتدأ ومعموله بالخبر لكان في جوازه نظر [ ص: 451 ] لأنك فصلت بين العامل والمعمول بأجنبي لهما معا ، وإن كان ليس أجنبيا لأحدهما الذي هو المبتدأ ، ويحتمل أن يختلف الضمير فيكون في وإخوانهم عائد على الشياطين الدال عليهم الشيطان ، أو على الشيطان نفسه باعتبار أنه يراد به الجنس ، نحو قوله : أولياؤهم الطاغوت ، المعنى الطواغيت ، ويكون في يمدونهم عائد على الكفار ، والواو في يمدونهم عائدة على الشياطين ، وإخوان الشياطين يمدونهم الشياطين ، ويكون الخبر جرى على غير من هو له ; لأن الإمداد مسند إلى الشياطين لا لإخوانهم ، وهذا نظير قوله :


قوم إذا الخيل جالوا في كواثيها

وهذا الاحتمال هو قول الجمهور ، وعليه فسر الطبري ، وقال الزمخشري : هو أوجه ; لأن إخوانهم في مقابلة الذين اتقوا ، وقرأ نافع : يمدونهم مضارع أمد ، وباقي السبعة يمدونهم من مد ، وتقدم الكلام على ذلك في قوله : ويمدهم في طغيانهم يعمهون ، وقرأ الجحدري : يمادونهم ، من ماد على وزن فاعل ، وقرأ الجمهور : لا يقصرون من أقصر ، أي : كف . قال الشاعر :


لعمرك ما قلبي إلى أهله بحر     ولا مقصر يوما فيأتيني بقر



أي ، ولا هو نازع عما هو فيه ، وقرأ ابن أبي عبلة وعيسى بن عمر ، ثم لا يقصرون من قصر ، أي : ثم لا ينقصون من إمدادهم وغوايتهم ، وقد أبعد الزجاج في دعواه أن قوله : وإخوانهم ، الآية متصل بقوله : ولا يستطيعون لهم نصرا ولا أنفسهم ينصرون ، ولا حاجة إلى تكلف ذلك ، بل هو كلام متناسق أخذ بعضه بعنق بعض ، لما بين حال المتقين مع الشياطين بين حال غير المتقين معهم ، وأن أولئك ينفس ما يمسهم من الشيطان ماس أقلعوا على الفور ، وهؤلاء في إمداد من الغي وعدم نزوع عنه .

التالي السابق


الخدمات العلمية