صفحة جزء
وما جعله الله إلا بشرى ولتطمئن به قلوبكم وما النصر إلا من عند الله إن الله عزيز حكيم تقدم تفسير نظير هذه الآية ، والمعنى : إلا بشرى لكم ، وأثبت في آل عمران ; لأن القصة فيها مسهبة وهنا موجزة ، فناسب هنا الحذف ، وهنا قدم وأخر هناك على سبيل التفنن والاتساع في الكلام ، وهنا جاء إن الله عزيز حكيم مراعاة لأواخر الآي ، وهناك ليست آخر آية لتعلق ( يقطع ) بما قبله ، فناسب أن يأتي ( العزيز الحكيم ) على سبيل الصفة ، وكلاهما مشعر بالعلية ، كما تقول : أكرم زيدا العالم ، وأكرم زيدا إنه عالم ، والضمير في وما جعله عائد على الإمداد المنسبك من أني ممدكم ، أو على المدد ، أو على الوعد الدال عليه يعدكم إحدى الطائفتين ، أو على الألف ، أو على الاستجابة ، أو على الإرداف ، أو على الخبر بالإمداد ، أو على جبريل ، أقوال محتملة مقولة أظهرها الأول ، ولم يذكر الزمخشري غيره .

إذ يغشيكم النعاس أمنة منه وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به ويذهب عنكم رجز الشيطان وليربط على قلوبكم ويثبت به الأقدام قال [ ص: 467 ]
الزمخشري : بدل ثان من إذ يعدكم ، أو منصوب بالنصر ، أو بما في عند الله من معنى الفعل ، أو بما جعله الله ، أو بإضمار اذكر ، انتهى . أما كونه بدلا ثانيا من إذ يعدكم فوافقه عليه ابن عطية ، فإن العامل في إذ هو العامل في قوله : وإذ يعدكم بتقدير تكراره ; لأن الاشتراك في العامل الأول نفسه لا يكون إلا بحرف عطف ، وإنما القصد أن يعدد نعمه على المؤمنين في يوم بدر ، فقال : واذكروا إذ فعلنا بكم كذا ، اذكروا إذ فعلنا كذا ، وأما كونه منصوبا بالنصر ففيه ضعف من وجوه : أحدها : أنه مصدر فيه أل ، وفي إعماله خلاف ذهب الكوفيون إلى أنه لا يجوز إعماله ، الثاني : أنه موصول ، وقد فصل بينه وبين معموله بالخبر الذي هو إلا من عند الله ، وذلك إعمال لا يجوز ، لا يقال ضرب زيد شديد عمرا ، الثالث : أنه يلزم من ذلك إعمال ما قبل إلا في ما بعدها من غير أن يكون ذلك المفعول مستثنى أو مستثنى منه أو صفة له ، وإذ ليس واحدا من هذه الثلاثة ، فلا يجوز : ما قام إلا زيد يوم الجمعة ، وقد أجاز ذلك الكسائي والأخفش ، وأما كونه منصوبا بما في عند الله من معنى الفعل فيضعفه المعنى ; لأنه يصير استقرار النصر مقيدا بالظرف ، والنصر من عند الله مطلقا في وقت غشي النعاس وغيره ، وأما كونه منصوبا بما جعله الله فقد سبقه إليه الحوفي ، وهو ضعيف أيضا لطول الفصل ، ولكونه معمول ما قبل إلا ، وليس أحد تلك الثلاثة ، وقال الطبري : العامل في إذ قوله : ولتطمئن . قال ابن عطية : وهذا مع احتماله فيه ضعف ، وقال أبو البقاء : ويجوز أن يكون ظرفا لما دل عليه عزيز حكيم ، وقد سبقه إلى قريب من هذا ابن عطية ، فقال : ولو جعل العامل في إذ شيئا قرنها بما قبلها لكان الأولى في ذلك أن يعمل في إذ ( حكيم ) ; لأن إلقاء النعاس عليهم وجعله أمنة حكمة من الله عز وجل ، انتهى ، والأجود من هذه الأقوال أن يكون بدلا ، وقرأ مجاهد وابن محيصن وأبو عمرو وابن كثير : يغشاكم النعاس ، مضارع غشي والنعاس رفع به ، وقرأ الأعرج وابن نصاح وأبو حفص ونافع : يغشيكم ، مضارع أغشى ، وقرأ عروة بن الزبير ومجاهد والحسن وعكرمة وأبو رجاء وابن عامر والكوفيون : يغشيكم مضارع : غشى ، والنعاس في هاتين القراءتين منصوب ، والفاعل ضمير الله ، وناسبت قراءة نافع قوله : يغشى طائفة منكم ، وقراءة الباقين وينزل حيث لم يختلف الفاعل ، ومعنى يغشيكم يعطيكم به ، وهو استعارة ، جعل ما غلب عليهم من النعاس غشيانا لهم ، وتقدم شرح النعاس وأمنة في آل عمران ، والضمير في منه عائد على الله ، وانتصب أمنة ، قيل على المصدر ، أي : فأمنتم أمنة ، والأظهر أنه انتصب على أنه مفعول له في قراءة يغشيكم لاتحاد الفاعل ; لأن المغشي والمؤمن هو الله تعالى ، وأما على قراءة : يغشاكم ، فالفاعل مختلف ; إذ فاعل يغشاكم هو النعاس والمؤمن هو الله ، وفي جواز مجيء المفعول له مع اختلاف الفاعل خلاف ، وقال الزمخشري : ( فإن قلت ) : أما وجب أن يكون فاعل الفعل المعلل والعلة واحدا ؟ قلت بلى ، ولكن لما كان معنى يغشاكم النعاس : تتغشون ، انتصب أمنة على أن النعاس والأمنة لهم ، والمعنى : إذ تتغشون أمنة [ ص: 468 ] بمعنى أمنا ، أي : لأمنكم ، ومنه صفة لها ، أي : أمنة حاصلة لكم من الله تعالى ، ( فإن قلت ) : هل يجوز أن ينتصب على أن الأمنة للنعاس الذي هو يغشاكم ، أي : يغشاكم النعاس لأمنه ، على أن إسناد الأمن إلى النعاس إسناد مجازي ، وهو لأصحاب النعاس على الحقيقة ، أو على أنه أمانكم في وقته كان من حق النعاس في ذلك الوقت المخوف أن لا يقدم على غشيانكم ، وإنما غشاكم أمنة حاصلة من الله تعالى لولاها لم يغشكم على طريقة التمثيل والتخييل ، ( قلت ) لا تتعدى فصاحة القرآن عن احتماله ، وله فيه نظائر ، ولقد ألم به من قال :


يهاب النوم أن يغشى عيونا تهابك فهو نفار شرود



وقرئ أمنة بسكون الميم ، ونظير أمن أمنة حيي حياة ، ونحو أمن أمنة رحم رحمة ، والمعنى : أن ما كان بهم من الخوف كان يمنعهم من النوم ، فلما طامن الله تعالى قلوبهم أمنهم وأقروا ، وعن ابن عباس : النعاس في القتال أمنة من الله تعالى ، وفي الصلاة وسوسة من الشيطان ، انتهى ، وعن ابن مسعود شبيه هذا الكلام ، وقال : النعاس عند حضور القتال علامة أمن من العدو ، وهو من الله تعالى ، وهو في الصلاة من الشيطان ، قال ابن عطية : وهذا إنما طريقة الوحي ، فهو لا محالة يسندها ، انتهى ، والذي قرأ أمنة بسكون الميم هو ابن محيصن ، ورويت عن النخعي ويحيى بن يعمر ، وغشيان النوم إياهم قيل : حال التقاء الصفين ومضى مثل هذا في يوم أحد في آل عمران ; وقيل : الليلة التي كان القتال في غدها امتن عليهم بالنوم مع الأمر المهم الذي يرونه في غد ليستريحوا تلك الليلة وينشطوا في غدها للقتال ويزول رعبهم ، ويقال : الأمن منيم والخوف مسهر ، والأولى أن يكون ترتيب هذه الجمل في الزمان كترتيبها في التلاوة ، فيكون إنزال المطر تأخر عن غشيان النعاس ، وعن ابن نجيح أن المطر كان قبل النعاس ، واختاره ابن عطية قال : ونزول الماء كان قبل تغشية النعاس ولم يترتب كذلك في الآية ; إذ القصد منها تعديد النعم فقط ، وقرأ طلحة : وينزل ، بالتشديد ، وقرأ الجمهور : ماء ، بالمد ، وقرأ الشعبي : ما ، بغير همز ، حكاه ابن جني ، صاحب اللوامح في شواذ القراءات ، وخرجاه على أن ما بمعنى الذي ، قال صاحب اللوامح : وصلته حرف الجر الذي هو ليطهركم ، والعائد عليه هو ، ومعناه الذي هو ليطهركم به ، انتهى ، وظاهر هذا التخريج فاسد ; لأن لام كي لا تكون صلة ، ومن حيث جعل الضمائر هو ، وقال : معناه الذي هو ليطهركم ، ولا تكون لام كي هي الصلة ، بل الصلة هو ، ولام الجر والمجرور ، وقال ابن جني ما موصولة وصلتها حرف الجر بما جره ، فكأنه قال ما للطهور ، انتهى . وهذا فيه ما قلنا من مجيء لام كي صلة ، ويمكن تخريج هذه القراءة على وجه آخر ، وهو أن ما ليس موصولا بمعنى الذي ، وأنه بمعنى ماء المحدود ، وذلك أنهم حكوا أن العرب حذفت هذه الهمزة ، فقالوا : ما يا هذا ، بحذف الهمزة وتنوين الميم ، فيمكن أن تخرج على هذا ، إلا أنهم أجروا الوصل مجرى الوقف فحذفوا التنوين ; لأنك إذا وقفت على شربت ما قلت : شربت ما ، بحذف التنوين وإبقاء الألف ، إما ألف الوصل الذي هي بدل من الواو وهي عين الكلمة ، وإما الألف التي هي بدل من التنوين حالة النصب ، وقرأ ابن المسيب : ليطهركم ، بسكون الطاء ، ومعنى ليطهركم من الجنابات ، وكان المؤمنون لحق أكثرهم في سفرهم الجنابات وعدموا الماء وكانت بينهم وبين ماء بدر مسافة طويلة من رمل دهس لين تسوخ فيه الأرجل ، وكان المشركون قد سبقوهم إلى ماء بدر ; وقيل : بل المؤمنون سبقوا إلى الماء ببدر ، وكان نزول المطر قبل ذلك ، والمروي عن ابن عباس وغيره أن الكفار يوم بدر سبقوا المؤمنين إلى ماء بدر ، فنزلوا عليه وبقي المؤمنون لا ماء لهم فوجست نفوسهم وعطشوا وأجنبوا وصلوا كذلك ، فقال بعضهم في نفوسهم بإلقاء الشيطان إليهم : نزعم أنا أولياء الله وفينا رسول الله وحالنا هذه ، والمشركون [ ص: 469 ] على الماء ؟ فأنزل الله المطر ليلة بدر السابعة عشر من رمضان حتى سالت الأودية ، فشرب الناس وتطهروا وسقوا الظهر وتلبدت السبخة التي كانت بينهم وبين المشركين ، حتى ثبتت فيها أقدام المسلمين وقت القتال وكانت قبل المطر تسوخ فيها الأرجل ، فلما نزل تلبدت ، قالوا : فهذا معنى قوله : ليطهركم به ، أي : من الجنابات ، ويذهب عنكم رجز الشيطان ، أي : عذابه لكم بوسواسه ، والرجز العذاب ; وقيل : رجزه كيده ووسوسته ; وقيل : الجنابة من الاحتلام فإنها من الشيطان ، وورد ما احتلم نبي قط ، إنما الاحتلام يكون من الشيطان ، وقرأ عيسى بن عمرو يذهب بجزم الباء ، وقرأ ابن محيصن رجز بضم الراء ، وأبو العالية رجس بالسين ، ومعنى الربط على القلب هو اجتماع الرأي والتشجيع على لقاء العدو والصبر على مكافحة العدو ، والربط الشد ، هو حقيقة في الأجسام ، فاستعير منها لما حصل في القلب من الشدة والطمأنينة بعد التزلزل ، ومقتضى ذلك الربط ، قال ابن عباس : الصبر ، وقال مقاتل : الإيمان ; وقيل : نزول المطر ، وهو الظاهر ; لأن قوله : ليطهركم وما بعده تعليل لإنزال المطر ، والظاهر أن تثبيت الأقدام هو حقيقة ; لأن المكان الذي وقع فيه اللقاء كان رملا تغوص فيه الأرجل فلبده المطر حتى ثبتت عليه الأقدام ، والضمير في به عائد على المطر ; وقيل : التثبيت للأقدام معنوي والمراد به كونه لا يفر وقت القتال ، والضمير في به عائد على المصدر الدال عليه وليربط وانظر إلى فصاحة مجيء هذه التعليلات ، بدأ أولا منها بالتعليل الظاهر ، وهو تطهيرهم من الجنابة ، وهو فعل جسماني ، أعني اغتسالهم من الجنابة ، وعطف عليه بغير لام العلة ما هو من لازم التطهير ، وهو إذهاب رجز الشيطان ; حيث وسوس إليهم بكونهم يصلون ولم يغتسلوا من الجنابة ، ثم عطف بلام العلة ما ليس بفعل جسماني ، وهو فعل محله القلب ، وهو التشجيع والاطمئنان والصبر على اللقاء ، وعطف عليه بغير لام العلة ما هو من لازمه ، وهو كونهم لا يفرون وقت الحرب ، فحين ذكر التعليل الظاهر الجسماني والتعليل الباطن القلبي ظهر حرف التعليل ، وحين ذكر لازمها لم يؤكد بلام التعليل وبدأ أولا بالتطهير ; لأنه الآكد والأسبق في الفعل ، ولأنه الذي تؤدى به أفضل العبادات وتحيا به القلوب .

التالي السابق


الخدمات العلمية