صفحة جزء
فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى وليبلي المؤمنين منه بلاء حسنا إن الله سميع عليم لما رجع الصحابة من بدر ذكروا مفاخرهم ، فيقول القائل : قتلت وأسرت ، فنزلت . قال الزمخشري : والفاء جواب شرط محذوف ، تقديره : إن افتخرتم بقتلهم فأنتم لم تقتلوهم ولكن الله قتلهم ; لأنه هو الذي أنزل الملائكة وألقى الرعب في قلوبهم وشاء النصر والظفر وقوى قلوبكم وأذهب عنها الفزع والجزع ، انتهى ، وليست الفاء جواب شرط محذوف كما زعم ، وإنما هي للربط بين الجمل ; لأنه لما قال : فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان كان امتثال ما أمروا به سببا للقتل ، فقيل : فلم تقتلوهم ، أي : لستم مستبدين بالقتل ; لأن الأقدار عليه والخالق له إنما هو الله ليس للقاتل فيها شيء ، لكنه أجرى على يده [ ص: 477 ] فنفي عنهم إيجاد القتل وأثبت لله ، وفي ذلك رد على من زعم أن أفعال العباد خلق لهم ، ومجيء لكن هنا أحسن مجيء لكونها بين نفي وإثبات ، فالمثبت لله هو المنفي عنهم ، وهو حقيقة القتل ، ومن زعم أن أفعال العباد مخلوقة لهم أول الكلام على معنى فلم يتسببوا لقتلكم إياهم ولكن الله قتلهم ; لأنه هو الذي أنزل الملائكة إلى آخر كلامه ، وعطف الجملة المنفية بما على الجملة المنفية بلم ; لأن لم نفي للماضي وإن كان بصورة المضارع ; لأن لنفي الماضي طريقين : إحداهما : أن تدخل ما على لفظه ، والأخرى : أن تنفيه بلم فتأتي بالمضارع ، والأصل هو الأول ; لأن النفي ينبغي أن يكون على حسب الإيجاب ، وفي الجملة مبالغة من وجهين : أحدهما ، أن النفي جاء على حسب الإيجاب لفظا ; الثاني : أن نفى ما صرح بإثباته ، وهو قوله : وما رميت إذ رميت ولم يصرح في قوله : فلم تقتلوهم بقوله : إذ قتلتموهم ، وإنما بولغ في هذا ; لأن الرمي كان أمرا خارقا للعادة معجزا آية من آيات الله على أي وجه فسر الرمي ; لأنهم اختلفوا فيه ، فقال ابن عباس : قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر قبضة من تراب ، فقال : شاهت الوجوه ، أي : قبحت ، فلم يبق مشرك إلا دخل في عينيه وفيه ومنخريه منها شيء ، وقال حكيم بن حزام فسمعنا صوتا من السماء ، كأنه صوت حصاة وقعت في طست ، فرمى رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الرمية فانهزموا ، وقال أنس : رمى ثلاث حصيات يوم بدر : واحدة في ميمنة القوم ، وواحدة في ميسرتهم ، وثالثة بين أظهرهم ، وقال : شاهت الوجوه ، فانهزموا ; وقيل : الرمي هنا رمي رسول الله صلى الله عليه وسلم بحربة على أبي بن خلف يوم أحد ، قال ابن عطية : وهذا ضعيف ; لأن الآية نزلت عقب بدر ، وعلى هذا القول تكون أجنبية مما قبلها وبعدها ، وذلك بعيد ; وقيل : المراد السهم الذي رمى به رسول الله صلى الله عليه وسلم في حصن خيبر ، فسار في الهواء حتى أصاب ابن أبي الحقيق ، وهذا فاسد ، والصحيح في صورة قتل ابن أبي الحقيق غير هذا ، وقوله : وما رميت نفي و إذ رميت إثبات فاحتيج إلى تأويل ، وهو أن يغاير بين الرميين ، فالمنفي الإصابة والظفر ، والمثبت الإرسال ; وقيل : المنفي إزهاق الروح ، والمثبت أثر الرمي وهو الجرح ، وهذان القولان متقاربان ; وقيل : ما استبددت بالرمي إذ أرسلت التراب ; لأن الاستبداد به هو فعل الله حقيقة ، وإرسال التراب منسوب إليه كسبا كان المعنى ، وما رميت الرمي الكافي ; إذ رميت ، ونحوه قول العباس بن مرداس :


وقد كنت في الحرب ذا تدرأ فلم أعط شيئا ولم أمنع



أي : لم أعط شيئا مرضيا . وقيل : متعلق المنفي الرعب ، ومتعلق المثبت الحصيات ، أي : وما رميت الرعب في قلوبهم إذ رميت الحصيات ، وقال الزمخشري : يعني أن الرمية التي رميتها لم ترمها أنت على الحقيقة ; لأنك لو رميتها لما بلغ أثرها إلا ما يبلغه رمي البشر ، ولكنها كانت رمية الله حيث أثرت ذلك الأثر العظيم ، فأثبت الرمي لرسول الله صلى الله عليه وسلم لأن صورة الرمي وجدت منه ، ونفاها عنه لأن أثرها الذي لا يطيقه البشر فعل الله ، فكان الله تعالى هو فاعل الرمي حقيقة ، وكأنها لم توجد من الرسول أصلا ، انتهى ، وهو راجع لمعنى القولين أولا ، وتقدم خلاف الفراء في لكن وما بعدها عند قوله : ولكن الشياطين كفروا وليبلي المؤمنين منه بلاء حسنا قال السدي : ينصرهم وينعم عليهم ، يقال : أبلاه إذا أنعم عليه ، وبلاه إذا امتحنه ، والبلاء يستعمل للخير والشر ، ووصفه بحسن يدل على النصر والعزة ، قال الزمخشري : وليعطيهم عطاء جميلا ، كما قال :


فأبلاهما خير البلاء الذي يبلو

انتهى ، والبلاء الحسن قيل : بالنصر والغنيمة ; وقيل : بالشهادة لمن استشهد يوم بدر ، وهم أربعة عشر رجلا منهم عبيدة بن الحارث بن عبد المطلب ، ومهجع مولى عمر ، ومعاذ وعمرو ابنا عفراء أنه [ ص: 478 ] قال : لولا أن المفسرين اتفقوا على حمل البلاء هنا على النعمة لكان يحتمل المحنة للتكليف بما بعده من الجهاد حتى يقال : إن الذي فعله تعالى يوم بدر كان السبب في حصول تكليف شاق عليهم فيما بعد ذلك من الغزوات ، انتهى . وسياق الكلام ينفي أن يراد بالبلاء المحنة ; لأنه قال : وليبلي المؤمنين منه بلاء حسنا فعل ذلك ، أي : قتل الكفار ورميهم ، ونسبة ذلك إلى الله ، وكان ذلك سبب هزيمتهم والنصر عليهم وجعلهم نهبة للمؤمنين ، وهذا ليس محنة بل منحة إن الله سميع عليم لما كانوا قد أقبلوا على المفاخر بقتل من قتلوا وأسر من أسروا ، أو كان ربما قد لا يخلص العمل من بعض المقاتلين إما لقتال حمية ، وإما لدفع عن نفس ، أو إما ختمت بهاتين الصفتين ، فقيل : إن الله سميع عليم لكلامكم وما تفخرون به عليم بما انطوت عليه الضمائر ، ومن يقاتل لتكون كلمة الله هي العليا . ذلكم وأن الله موهن كيد الكافرين قال : ذلكم إشارة إلى البلاء الحسن ، ومحله الرفع وأن الله موهن معطوف على وليبلي يعني أن الغرض إبلاء المؤمنين وتوهين كيد الكافرين ، انتهى ، وقال ابن عطية : ذلكم إشارة إلى ما تقدم من قتل الله ورميه إياهم ، وموضع ذلك من الإعراب رفع ، قال سيبويه : التقدير : الأمر ذلكم ، وقال بعض النحويين : يجوز أن يكون في موضع نصب بتقدير : فعل ذلك ، ( وأن ) معطوف على ذلكم ، ويحتمل أن يكون خبر مبتدأ مقدر تقديره : وحتم وسابق وثابت ، ونحو هذا ، انتهى ، وقال الحوفي : ذلكم رفع بالابتداء والخبر محذوف ، والتقدير : ذلكم الأمر ، ويجوز أن يكون ذلكم الخبر والأمر الابتداء ، ويجوز أن يكون في موضع نصب ، تقديره : فعلنا ذلكم ، والإشارة إلى القتل وإلى إبلاء المؤمنين بلاء حسنا ، وفي فتح أن وجهان النصب والرفع عطفا على ذلكم على حسب التقديرين ، أو على إضمار فعل ، تقديره : واعلموا أن الله موهن ، انتهى ، وقرأ الحرميان وأبو عمرو : موهن ، من وهن ، والتعدية بالتضعيف فيما عينه حرف حلق غير الهمزة قليل ، نحو : ضعفت ووهنت ، وبابه أن يعدى بالهمزة ، نحو : أذهلته وأوهنته وألحمته ، وقرأ باقي السبعة والحسن وأبو رجاء والأعمش وابن محيصن من أوهن ، وأضافه حفص .

التالي السابق


الخدمات العلمية