صفحة جزء
( واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة ) هذا الخطاب ظاهره العموم باتقاء الفتنة التي لا تختص بالظالم بل تعم الصالح والطالح ، وكذلك روي عن ابن عباس قال : أمر المؤمنين أن لا يقروا المنكر بين أظهرهم فيعمهم الله بالعذاب ، ففي البخاري والترمذي أن الناس إذا رأوا الظالم ولم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعذاب من عنده ، وفي مسلم من حديث زينب بنت جحش سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهلك وفينا الصالحون ؟ قال : [ ص: 483 ] نعم إذا كثر الخبث ; وقيل : الخطاب للصحابة ; وقيل : لأهل بدر ; وقيل : لعلي وعمار وطلحة والزبير ; وقيل : لرجلين من قريش ، قاله أبو صالح عن ابن عباس ولم يسمهما ، والفتنة هنا القتال في وقعة الجمل ، أو الضلالة ، أو عدم إنكار المنكر ، أو بالأموال والأولاد ، أو بظهور البدع ، أو العقوبة ، أقوال ، وقال الزبير بن العوام يوم الجمل : ما علمت أنا أردنا بهذه الآية إلا اليوم ، وما كنت أظنها إلا فيمن خوطب بها في ذلك الوقت ، والجملة من قوله : لا تصيبن ، خبرية صفة لقوله : فتنة ، أي : غير مصيبة الظالم خاصة ، إلا أن دخول نون التوكيد على المنفي بلا مختلف فيه ، فالجمهور لا يجيزونه ويحملون ما جاء منه على الضرورة ، أو الندور ، والذي نختاره الجواز ، وإليه ذهب بعض النحويين ، وإذا كان قد جاء لحاقها الفعل مبنيا بلا مع الفصل ، نحو قوله :


فلا ذا نعيم يتركن لنعيمه وإن قال قرظني وخذ رشوة أبى     ولا ذا بئيس يتركن لبؤسه
فينفعه شكوى إليه إن اشتكى

[ ص: 484 ] فلأن يلحقه مع غير الفصل أولى ، نحو : لا تصيبن ، وزعم الزمخشري أن الجملة صفة وهي نهي قال : وكذلك إذا جعلته صفة على إرادة القول ، كأنه قيل : واتقوا فتنة مقولا فيها لا تصيبن ، ونظيره قوله :


حتى إذا جن الظلام واختلط     جاءوا بمذق هل رأيت الذئب قط



أي : بمذق مقول فيه هذا القول ; لأن فيه لون الزرقة التي هي معنى الذئب ، انتهى . وتحريره أن الجملة معمولة لصفة محذوفة ، وزعم الفراء أن الجملة جواب للأمر ، نحو قولك : انزل عن الدابة لا تطرحنك ، أي : إن تنزل عنها لا تطرحنك ، قال : ومنه ( لا يحطمنكم سليمان ) ، أي : إن تدخلوا لا يحطمنكم ، فدخلت النون لما فيها من معنى الجزاء ، انتهى ، وهذا المثال بقوله : ( ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم ) ليس نظير ( واتقوا فتنة ) ; لأنه ينتظم من المثال ، والآية شرط وجزاء كما قدر ، ولا ينتظم ذلك هناك ، ألا ترى أنه لا يصح تقدير : إن تتقوا فتنة لا تصيب الذين ظلموا منكم خاصة ; لأنه يترتب إذ ذاك على الشرط ، مقتضاه من جهة المعنى ، وأخذ الزمخشري قول الفراء ، وزاده فسادا وخبط فيه ، فقال : وقوله : لا تصيبن ، لا يخلو من أن يكون جوابا للأمر ، أو نهيا بعد أمر ، أو صفة لـ ( فتنة ) ، فإذا كان جوابا ، فالمعنى إن أصابتكم لا تصب الظالمين منكم خاصة ، ولكنها تعمكم ، انتهى تقرير هذا القول ، فانظر كيف قدر أن يكون جوابا للأمر الذي هو اتقوا ، ثم قدر أداة الشرط داخلة على غير مضارع ( اتقوا ) ، فقال : فالمعنى إن أصابتكم يعني الفتنة ، وانظر كيف قدر الفراء في : انزل عن الدابة لا تطرحنك ، وفي قوله : ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم ، فأدخل أداة الشرط على مضارع فعل الأمر ، وهكذا يقدر ما كان جوابا للأمر ، وزعم بعضهم أن قوله : لا تصيبن ، جواب قسم محذوف ; وقيل : لا نافية ، وشبه النفي بالموجب فدخلت النون ، كما دخلت في لتضربن ، التقدير : والله لا تصيبن ، فعلى القول الأول بأنها صفة ، أو جواب أمر ، أو جواب قسم تكون النون قد دخلت في المنفي بلا ، وذهب بعض النحويين إلى أنها جواب قسم محذوف ، والجملة موجبة فدخلت النون في محلها ومطلت اللام فصارت لا ، والمعنى : لتصيبن ، ويؤيد هذا قراءة ابن مسعود وعلي وزيد بن ثابت والباقر والربيع بن أنس وأبي العالية : لتصيبن ، وفي ذلك وعيد للظالمين فقط ، وعلى هذا التوجيه خرج ابن جني أيضا قراءة الجماعة : لا تصيبن ، وكون اللام مطلت فحدثت عنها الألف إشباعا ; لأن الإشباع بابه الشعر ، وقال ابن جني في قراءة ابن مسعود ومن معه يحتمل أن يراد بهذه القراءة : لا تصيبن ، فحذفت الألف تخفيفا واكتفاء بالحركة ، كما قالوا : أم والله . قال المهدوي : كما حذفت من ما وهي أخت لا في قوله : أم والله لأفعلن وشبهه ، انتهى ، وليست للنفي ، وحكى النقاش عن ابن مسعود أنه : قرأ فتنة أن تصيب ، وعن الزبير : لتصيبن ، وخرج المبرد والفراء والزجاج قراءة : لا تصيبن ، على أن تكون ناهية وتم الكلام عند قوله : واتقوا فتنة ، وهو خطاب عام للمؤمنين ، تم الكلام عنده ، ثم ابتدئ نهي الظلمة خاصة عن التعرض للظلم فتصيبهم الفتنة خاصة ، وأخرج النهي على جهة إسناده للفتنة ، فهو نهي محول كما قالوا : لا أرينك هاهنا ، أي : لا تكن هنا فيقع مني رؤيتك ، والمراد هنا لا يتعرض الظالم للفتنة فتقع إصابتها له خاصة ، وقال الزمخشري : في تقدير هذا الوجه ، وإذا كانت نهيا بعد أمر ، فكأنه قيل واحذروا ذنبا أو عقابا ، ثم قيل : لا تتعرضوا للظلم فيصيب العقاب أو أثر الذنب من ظلم منكم خاصة ، [ ص: 485 ] وقال الأخفش : لا تصيبن ، هو على معنى الدعاء ، انتهى ، والذي دعاه إلى هذا - والله أعلم - استبعاد دخول نون التوكيد في المنفي بلا ، واعتياض تقريره نهيا ، فعدل إلى جعله دعاء فيصير المعنى لا أصابت الفتنة الظالمين خاصة ، واستلزمت الدعاء على غير الظالمين ، فصار التقدير : لا أصابت ظالما ولا غير ظالم ، فكأنه واتقوا فتنة لا أوقعها الله بأحد ، فتلخص في تخريج قوله : لا تصيبن - أقوال الدعاء والنهي على تقديرين وجواب أمر على تقديرين وصفة - . قال الزمخشري : ( فإن قلت ) : كيف جاز أن تدخل النون المؤكدة في جواب الأمر ، ( قلت ) : لأن فيه معنى التمني ، إذا قلت : انزل عن الدابة لا تطرحك ، فلذلك جاز لا تطرحنك ، ولا تصيبن ، ولا يحطمنكم ، انتهى ، وإذا قلت - : لا تطرحك وجعلته جوابا لقولك انزل وليس فيه نهي بل نفي محض - جواب الأمر نفي بلا ، وجزمه على الجواب على الخلاف الذي في جواب الأمر ، والستة معه هل ثم شرط محذوف دل عليه الأمر وما ذكر معه معنى الشرط ، وإذا فرعنا على مذهب الجمهور في أن الفعل المنفي بلا لا تدخل عليه النون للتوكيد ، لم يجز : انزل عن الدابة لا تطرحنك ، وقال الزمخشري : ( فإن قلت ) : ما معنى من في قوله : ( الذين ظلموا منكم خاصة ) ، ( قلت ) : التبعيض على الوجه الأول ، فالتبيين على الثاني ; لأن المعنى لا تصيبكم خاصة على ظلمكم ; لأن الظلم منكم أقبح من سائر الناس ، انتهى ، ويعني بالأول : أن يكون جوابا بعد أمر ، وبالثاني : أن يكون نهيا بعد أمر ، وخاصة أصله أن يكون نعتا لمصدر محذوف ، أي : إصابة خاصة ، وهي حال من الفاعل المستكن في لا تصيبن ، ويحتمل أن يكون حالا من الذين ظلموا ، أي : مخصوصين بها بل تعمهم وغيرهم ، وقال ابن عطية : ويحتمل أن تكون خاصة حالا من الضمير في ظلموا ، ولا أتعقل هذا الوجه .

( واعلموا أن الله شديد العقاب ) هذا وعيد شديد مناسب لقوله : لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة ; إذ فيه حث على لزوم الاستقامة خوفا من عقاب الله ، لا يقال : كيف يوصل الرحيم الكريم الفتنة والعذاب لمن لم يذنب ، ( قلت ) : لأنه تصرف بحكم الملك ، كما قد ينزل الفقر والمرض بعبده ابتداء فيحسن ذلك منه ، أو لأنه علم اشتمال ذلك على مزيد ثواب لمن أوقع به ذلك .

التالي السابق


الخدمات العلمية