صفحة جزء
القول الثالث : في المراد بالإحصار أنه ما كان من المرض ونحوه خاصة ، دون ما كان من العدو .

وقد قدمنا أنه المنقول عن أكثر أهل اللغة ، وإنما جاز التحلل من إحصار العدو عند من قال بهذا القول ; لأنه من إلغاء الفارق وأخذ حكم المسكوت عنه من المنطوق به ، فإحصار العدو عندهم ملحق بإحصار المرض بنفي الفارق .

ولا يخفى سقوط هذا القول لما قدمنا من أن الآية الكريمة نزلت في إحصار العدو عام الحديبية ، وأن صورة سبب النزول قطعية الدخول ، كما عليه الجمهور وهو الحق .

قال مقيده عفا الله عنه : الذي يظهر لنا رجحانه بالدليل من الأقوال المذكورة هو ما ذهب إليه مالك والشافعي وأحمد في أشهر الروايتين عنه أن المراد بالإحصار في الآية إحصار العدو ، وأن من أصابه مرض أو نحوه لا يحل إلا بعمرة ; لأن هذا هو الذي نزلت فيه الآية ودل عليه قوله تعالى : ( فإذا أمنتم ) [ 2 \ 196 ] .

ولا سيما على قول من قال من العلماء : إن الرخصة لا تتعدى محلها ، وهو قول جماعة من أهل العلم .

وأما حديث عكرمة الذي رواه عن الحجاج بن عمرو ، وابن عباس ، وأبي هريرة - رضي الله عنهم - فلا تنهض به حجة ; لتعين حمله على ما إذا اشترط ذلك عند الإحرام ; بدليل ما قدمنا من حديث عائشة عند الشيخين ، وحديث ابن عباس عند مسلم ، وأصحاب السنن ، وغيرهم من أنه صلى الله عليه وسلم قال لضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب : " حجي واشترطي " ولو كان التحلل جائزا دون شرط كما يفهم من حديث الحجاج بن عمرو لما كان للاشتراط فائدة ، وحديث عائشة وابن عباس بالاشتراط أصح من حديث عكرمة ، عن الحجاج بن عمرو ، والجمع بين الأدلة واجب إذا أمكن ، وإليه أشار في " مراقي السعود " بقوله : [ الرجز ] [ ص: 81 ]

والجمع واجب متى ما أمكنا إلا فللأخير نسخ بينا



وهو ممكن في الحديثين بحمل حديث الحجاج بن عمرو على ما إذا اشترط ذلك في الإحرام ، فيتفق مع الحديثين الثابتين في الصحيح ، فإن قيل : يمكن الجمع بين الأحاديث بغير هذا ، وهو حمل أحاديث الاشتراط على أنه يحل من غير أن تلزمه حجة أخرى ، وحمل حديث عكرمة ، عن الحجاج بن عمرو وغيره على أنه يحل ، وعليه حجة أخرى ، ويدل لهذا الجمع أن أحاديث الاشتراط ليس فيها ذكر حجة أخرى .

وحديث الحجاج بن عمرو ، قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم : " فقد حل وعليه حجة أخرى " .

فالجواب أن وجوب البدل بحجة أخرى أو عمرة أخرى لو كان يلزم ، لأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه أن يقضوا عمرتهم التي صدهم عنها المشركون .

قال البخاري في " صحيحه " في باب " من قال ليس على المحصر بدل " ما نصه : وقال مالك وغيره ينحر هديه ، ويحلق في أي موضع كان ، ولا قضاء عليه ; لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه بالحديبية نحروا وحلقوا وحلوا من كل شيء قبل الطواف ، وقبل أن يصل الهدي إلى البيت ، ثم لم يذكر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر أحدا أن يقضوا شيئا ، ولا يعودوا له والحديبية خارج من الحرم . انتهى منه بلفظه .

وقد قال مالك في " الموطأ " إنه بلغه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حل هو وأصحابه بالحديبية ، فنحروا الهدي ، وحلقوا رءوسهم ، وحلوا من كل شيء قبل أن يطوفوا بالبيت ، وقبل أن يصل إليه الهدي ، ثم لم يعلم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر أحدا من أصحابه ، ولا ممن كان معه أن يقضوا شيئا ، ولا يعودوا لشيء . انتهى بلفظه من [ الموطأ ] . ولا يعارض ما ذكرنا بما رواه الواقدي في المغازي من طريق الزهري ، ومن طريق أبي معشر وغيرهما ، قالوا : أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أصحابه أن يعتمروا فلم يتخلف منهم إلا من قتل بخيبر ، أو مات ، وخرج معه جماعة معتمرين ممن لم يشهدوا الحديبية ، وكانت عدتهم ألفين ; لأن الشافعي - رحمه الله - قال : والذي أعقله في أخبار أهل المغازي شبيه بما ذكرت ; لأنا علمنا من متواطئ أحاديثهم أنه كان معه عام الحديبية رجال معروفون ، ثم اعتمر عمرة القضية ، فتخلف بعضهم بالمدينة من غير ضرورة في نفس ولا مال ، ا ه .

فهذا الشافعي - رحمه الله - جزم بأنهم تخلف منهم رجال معروفون من غير ضرورة في نفس ولا مال . وقد تقرر في الأصول أن المثبت مقدم على النافي .

[ ص: 82 ] وقال ابن حجر في " الفتح " : ويمكن الجمع بين هذا إن صح وبين الذي قبله ، بأن الأمر كان على طريق الاستحباب ; لأن الشافعي جازم بأن جماعة تخلفوا بغير عذر .

وقال الشافعي في عمرة القضاء : إنما سميت عمرة القضاء والقضية للمقاضاة التي وقعت بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين قريش ، لا على أنهم وجب عليهم قضاء تلك العمرة ، ا ه .

وروى الواقدي نحو هذا من حديث ابن عمر قاله ابن حجر .

وقال البخاري في " صحيحه " في الباب المذكور ما نصه : " وقال روح ، عن شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - إنما البدل على من نقض حجه بالتلذذ ، فأما من حبسه عذر ، أو غير ذلك فإنه يحل ، ولا يرجع " . انتهى محل الغرض منه بلفظه .

وقد ورد عن ابن عباس نحو هذا بإسناد آخر أخرجه ابن جرير من طريق علي بن أبي طلحة عنه ، وفيه : فإن كانت حجة الإسلام فعليه قضاؤها ، وإن كانت غير الفريضة فلا قضاء عليه ، ا ه . فإذا علمت هذا وعلمت أن ابن عباس - رضي الله عنهما - ممن روى عنه عكرمة الحديث الذي روي عن الحجاج بن عمرو ، وأن راوي الحديث من أعلم الناس به ، ولا سيما إن كان ابن عباس الذي دعا له النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يعلمه التأويل ، وهو مصرح بأن معنى قوله صلى الله عليه وسلم في حديث الحجاج بن عمرو وعليه حجة أخرى ، محله فيما إذا كانت عليه حجة الإسلام ، تعلم أن الجمع الأول الذي ذكرنا هو المتعين ، واختاره النووي وغيره من علماء الشافعية ، وأن الجمع الأخير لا يصح ; لتعين حمل الحجة المذكورة على حجة الإسلام ، ا ه .

وأما على قول من قال : إنه لا إحصار إلا بالعدو خاصة ، وأن المحصر بمرض لا يحل حتى يبرأ ، ويطوف بالبيت وبالصفا والمروة ، ثم يحل من كل شيء حتى يحج عاما قابلا ، فيهدي أو يصوم ، إن لم يجد هديا كما ثبت في " صحيح البخاري " من حديث ابن عمر كما تقدم .

فهو من حيث أن المريض عندهم غير محصر ، فهو كمن أحرم وفاته وقوف عرفة يطوف ويسعى ويحج من قابل ، ويهدي أو يصوم إن لم يجد هديا ، ا ه .

التالي السابق


الخدمات العلمية