صفحة جزء
قوله تعالى : وقل الحق من ربكم .

أمر الله جل وعلا نبيه صلى الله عليه وسلم في هذه الآية الكريمة أن يقول للناس : الحق من ربكم ، وفي إعرابه وجهان ، أحدهما : أن " الحق " مبتدأ ، والجار والمجرور خبره ، أي : الحق الذي جئتكم به في هذا القرآن العظيم ، المتضمن لدين الإسلام كائن مبدؤه من ربكم جل وعلا ، فليس من وحي الشيطان ، ولا من افتراء الكهنة ، ولا من أساطير الأولين ، ولا غير ذلك . بل هو من خالقكم جل وعلا ، الذي تلزمكم طاعته وتوحيده ، ولا يأتي من لدنه إلا الحق الشامل للصدق في الأخبار ، والعدل في الأحكام ، فلا حق إلا منه جل وعلا .

الوجه الثاني : أنه خبر مبتدأ محذوف ، أي : هذا الذي جئتكم به الحق .

وهذا الذي ذكره تعالى في هذه الآية الكريمة ذكره أيضا في مواضع أخر ، كقوله في سورة " البقرة " : الحق من ربك فلا تكونن من الممترين [ 2 \ 147 ] ، وقولـه في " آل عمران " : الحق من ربك فلا تكن من الممترين [ 3 \ 60 ] ، إلى غير ذلك من الآيات . قوله تعالى : فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ، ظاهر هذه الآية الكريمة بحسب الوضع اللغوي التخيير بين الكفر والإيمان ولكن المراد من الآية الكريمة ليس هو التخيير ، وإنما المراد بها التهديد والتخويف . والتهديد بمثل هذه الصيغة التي ظاهرها التخيير أسلوب من أساليب اللغة العربية ، والدليل من القرآن العظيم على أن المراد في الآية التهديد والتخويف أنه أتبع ذلك بقوله : إنا أعتدنا للظالمين نارا أحاط بهم سرادقها وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه بئس الشراب وساءت مرتفقا ، وهذا أصرح دليل على أن المراد التهديد والتخويف ، إذ لو كان التخيير على بابه لما توعد فاعل أحد الطرفين المخير بينهما بهذا العذاب الأليم ، وهذا واضح كما ترى .

وقولـه في هذه الآية الكريمة أعتدنا [ 18 \ 29 ] ، أصله من الاعتاد ، والتاء فيه [ ص: 267 ] أصلية وليست مبدلة من دال على الأصح ; ومنه العتاد بمعنى العدة للشيء ، ومعنى " أعتدنا " : أرصدنا وأعددنا ، والمراد بالظالمين هنا : الكفار ; بدليل قوله قبله ومن شاء فليكفر ، وقد قدمنا كثرة إطلاق الظلم على الكفر في القرآن . كقوله : إن الشرك لظلم عظيم [ 31 \ 13 ] ، وقولـه تعالى : والكافرون هم الظالمون [ 2 \ 254 ] ، وقولـه تعالى : ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك فإن فعلت فإنك إذا من الظالمين [ 10 \ 106 ] ، ونحو ذلك من الآيات .

وقد قدمنا أن الظلم في لغة العرب : وضع الشيء في غير محله ، ومن أعظم ذلك وضع العبادة في مخلوق ، وقد جاء في القرآن إطلاق الظلم على النقص في قوله : ولم تظلم منه شيئا [ 18 \ 33 ] ، وأصل معنى مادة الظلم هو ما ذكرنا من وضع الشيء في غير موضعه ، ولأجل ذلك قيل الذي يضرب اللبن قبل أن يروب : ظالم لوضعه ضرب لبنه في غير موضعه ; لأن ضربه قبل أن يروب يضيع زبده ، ومن هذا المعنى قول الشاعر :


وقائلة ظلمت لكم سقائي وهل يخفى على العكد الظليم

فقوله " ظلمت لكم سقائي " ، أي : ضربته لكم قبل أن يروب ، ومنه قول الآخر في سقاء له ظلمه بنحو ذلك :


وصاحب صدق لم تربني شكاته     ظلمت وفي ظلمي له عامدا أجر

وفي لغز الحريري في مقاماته في الذي يضرب لبنه قبل أن يروب ، قال : أيجوز أن يكون الحاكم ظالما ؟ قال : نعم ، إذا كان عالما . ومن ذلك أيضا قولهم للأرض التي حفر فيها وليست محل حفر في السابق : أرض مظلومة ، ومنه قول نابغة ذبيان :


إلا الأواري لأيا ما أبينها     والنؤي كالحوض بالمظلومة الجلد

وما زعمه بعضهم من أن " المظلومة " في البيت هي التي ظلمها المطر بتخلفه عنها وقت إبانه المعتاد غير صواب . والصواب : هو ما ذكرنا إن شاء الله تعالى ، ولأجل ما ذكرنا قالوا للتراب المخرج من القبر عند حفره ظليم بمعنى مظلوم ; لأنه حفر في غير محل الحفر المعتاد ، ومنه قول الشاعر يصف رجلا مات ودفن :


فأصبح في غبراء بعد إشاحة     على العيش مرود عليها ظليمها

وقولـه : أحاط بهم أي : أحدق بهم من كل جانب ، وقولـه : سرادقها [ 18 \ 29 ] ، أصل السرادق واحد السرادقات التي تمد فوق صحن الدار ، وكل بيت من [ ص: 268 ] كرسف فهو سرادق . والكرسف : القطن ، ومنه قول رؤبة أو الكذاب الحرمازي :


يا حكم بن المنذر بن الجارود     سرادق المجد عليك ممدود

وبيت مسردق : أي مجعول له سرادق ، ومنه قول سلامة بن جندل يذكر أبريويز وقتله للنعمان بن المنذر تحت أرجل الفيلة :


هو المدخل النعمان بيتا سماؤه     صدور الفيول بعد بيت مسردق

هذا هو أصل معنى السرادق في اللغة . ويطلق أيضا في اللغة على الحجرة التي حول الفسطاط .

وأما المراد بالسرادق في الآية الكريمة ففيه للعلماء أقوال مرجعها إلى شيء واحد ، وهو إحداق النار بهم من كل جانب ، فمن العلماء من يقول " سرادقها " : أي : سورها ، قاله ابن الأعرابي وغيره . ومنهم من يقول " سرادقها " : سور من نار ، وهو مروي عن ابن عباس . ومنهم من يقول " سرادقها " : عنق يخرج من النار فيحيط بالكفار كالحظيرة ، قاله الكلبي : ومنهم من يقول : هو دخان يحيط بهم . وهو المذكور في " المرسلات " في قوله تعالى : انطلقوا إلى ظل ذي ثلاث شعب لا ظليل ولا يغني من اللهب [ 77 \ 30 - 31 ] ، و " الواقعة " في قوله : وظل من يحموم لا بارد ولا كريم [ 56 \ 43 - 44 ] .

ومنهم من يقول : هو البحر المحيط بالدنيا . وروى يعلى بن أمية عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " البحر هو جهنم ثم تلا " نارا أحاط بهم سرادقها " ثم قال والله لا أدخلها أبدا ما دمت حيا ولا تصيبني منها قطرة " ذكره الماوردي . وروى ابن المبارك من حديث أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لسرادق النار أربعة جدر كثف كل جدار مسيرة أربعين سنة " وأخرجه أبو عيسى الترمذي وقال فيه : حديث حسن صحيح غريب . انتهى من القرطبي . وهذا الحديث رواه أيضا الإمام أحمد وابن جرير وأبو يعلى وابن أبي حاتم وابن حبان ، وأبو الشيخ ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه وابن أبي الدنيا . قاله صاحب الدر المنثور وتبعه الشوكاني . وحديث يعلى بن أمية رواه أيضا ابن جرير في تفسيره . قال الشوكاني : ورواه أحمد والبخاري وابن أبي حاتم والحاكم وصححه ، ورواه صاحب الدر المنثور عن البخاري في تاريخه ، وأحمد وابن أبي الدنيا وابن جرير والحاكم وصححه ، وابن مردويه والبيهقي . وعلى كل حال ، فمعنى الآية الكريمة : أن النار محيطة بهم من كل [ ص: 269 ] جانب ، كما قال تعالى : لهم من جهنم مهاد ومن فوقهم غواش [ 7 \ 41 ] ، وقال : لهم من فوقهم ظلل من النار ومن تحتهم ظلل [ 39 \ 16 ] ، وقال : لو يعلم الذين كفروا حين لا يكفون عن وجوههم النار ولا عن ظهورهم ولا هم ينصرون [ 21 \ 39 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .

وقولـه في هذه الآية الكريمة : وإن يستغيثوا ، يعني إن يطلبوا الغوث مما هم فيه من الكرب يغاثوا ، يؤتوا بغوث هو ماء كالمهل . والمهل في اللغة : يطلق على ما أذيب من جواهر الأرض ، كذائب الحديد والنحاس ، والرصاص ونحو ذلك .

ويطلق أيضا على دردي الزيت وهو عكره . والمراد بالمهل في الآية : ما أذيب من جواهر الأرض . وقيل : دردي الزيت . وقيل : هو نوع من القطران . وقيل السم .

فإن قيل : أي إغاثة في ماء كالمهل مع أنه من أشد العذاب ، وكيف قال الله تعالى : يغاثوا بماء كالمهل [ 18 \ 29 ] .

فالجواب أن هذا من أساليب اللغة العربية التي نزل بها القرآن . ونظيره من كلام العرب قول بشر بن أبي حازم :


غضبت تميم أن تقتل عامر     يوم النسار فأعتبوا بالصيلم

فمعنى قوله " أعتبوا بالصيلم " : أي : أرضوا بالسيف . يعني ليس لهم منا إرضاء إلا بالسيف . وقول عمرو بن معدي كرب :


وخيل قد دلفت لها بخيل     تحية بينهم ضرب وجيع

يعني لا تحية لهم إلا الضرب الوجيع . وإذا كانوا لا يغاثون إلا بماء كالمهل علم من ذلك أنهم لا إغاثة لهم البتة . والياء في قوله " يستغيثوا " والألف في قوله " يغاثوا " كلتاهما مبدلة من واو ; لأن مادة الاستغاثة من الأجوف الواوي العين ، ولكن العين أعلت للساكن الصحيح قبلها ، على حد قوله في الخلاصة :

لساكن صح انقل التحريك من ذي لين آت عين فعل كأبن وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : يشوي الوجوه ، أي : يحرقها حتى تسقط فروة الوجه ، أعاذنا الله والمسلمين منها وعن النبي صلى الله عليه وسلم في تفسير هذه الآية الكريمة أنه قال : " كالمهل يشوي الوجوه " ، هو كعكر الزيت فإذا قرب إليه سقطت فروة وجهه ، قال [ ص: 270 ] ابن حجر رحمه الله في ) الكافي الشاف ، في تخريج أحاديث الكشاف ( : أخرجه الترمذي من طريق رشدين بن سعد ، عن عمرو بن الحارث ، عن دراج ، عن أبي الهيثم ، عن أبي سعيد ، واستغربه وقال : لا يعرف إلا من حديث رشدين بن سعد ، وتعقب قوله بأن أحمد وأبا يعلى أخرجاه من طريق ابن لهيعة عن دراج ، وبأن ابن حبان والحاكم أخرجاه من طريق وهب عن عمرو بن الحارث .

وقولـه في هذه الآية الكريمة : بئس الشراب المخصوص بالذم فيه محذوف ، تقديره : بئس الشراب ذلك الماء الذي يغاثون به . والضمير الفاعل في قوله " ساءت " عائد إلى النار .

والمرتفق : مكان الارتفاق . وأصله أن يتكئ الإنسان معتمدا على مرفقه ، وللعلماء في المراد بالمرتفق في الآية أقوال متقاربة في المعنى . قيل مرتفقا . أي : منزلا ، وهو مروي عن ابن عباس . وقيل مقرا ، وهو مروي عن عطاء . وقيل مجلسا وهو مروي عن العتبي . وقال مجاهد : مرتفقا أي : مجتمعا . فهو عنده مكان الارتفاق بمعنى مرافقة بعضهم لبعض في النار .

وحاصل معنى الأقوال أن النار بئس المستقر هي ، وبئس المقام هي . ويدل لهذا قوله تعالى : إنها ساءت مستقرا ومقاما [ 25 \ 66 ] ، وكون أصل الارتفاق هو الاتكاء على المرفق ، معروف في كلام العرب ، ومنه قول أبي ذؤيب الهذلي :


نام الخلي وبت الليل مرتفقا     كأن عيني فيها الصاب مذبوح

ويروى " وبت الليل مشتجرا " وعليه فلا شاهد في البيت ، ومنه قول أعشى باهلة :


قد بت مرتفقا للنجم أرقبه     حيران ذا حذر لو ينفع الحذر

وقول الراجز :


قالت له وارتفقت ألا فتى     يسوق بالقوم غزالات الضحا

وهذا الذي ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة من صفات هذا الشراب ، الذي يسقى به أهل النار ، جاء نحوه في آيات كثيرة ، كقوله تعالى : لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون [ 6 \ 70 ] ، وقولـه تعالى : وسقوا ماء حميما فقطع أمعاءهم [ 47 \ 15 ] ، وقولـه تعالى : تسقى من عين آنية [ 88 \ 5 ] ، وقولـه تعالى : يطوفون بينها وبين حميم آن [ 55 \ 44 ] ، والحميم الآني : من الماء المتناهي في الحرارة .

[ ص: 271 ] وقولـه تعالى : ويسقى من ماء صديد يتجرعه ولا يكاد يسيغه الآية [ 14 \ 16 - 17 ] ، وقولـه تعالى : ثم إن لهم عليها لشوبا من حميم [ 37 \ 67 ] ، وقولـه تعالى : فشاربون عليه من الحميم فشاربون شرب الهيم [ 56 \ 54 ، 55 ] .

وقولـه تعالى : لا يذوقون فيها بردا ولا شرابا إلا حميما وغساقا الآية [ 78 \ 24 - 25 ] ، وقولـه تعالى : هذا فليذوقوه حميم وغساق وآخر من شكله أزواج [ 38 \ 57 - 58 ] ، إلى غير ذلك من الآيات ، وقد قدمنا طرقا من هذا في سورة " يونس " .

التالي السابق


الخدمات العلمية