صفحة جزء
قوله تعالى : ويوم نسير الجبال وترى الأرض بارزة وحشرناهم فلم نغادر منهم أحدا .

قوله : ويوم [ 18 \ 47 ] ، منصوب باذكر مقدرا . أو بفعل القول المحذوف قبل قوله : ولقد جئتمونا فرادى [ 6 \ 94 ] ، أي : قلنا لهم يوم نسير الجبال : لقد جئتمونا فرادى ، وقول من زعم أن العامل فيه " خير " يعني والباقيات الصالحات خير يوم نسير الجبال بعيد جدا كما ترى .

وما ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة : من أن يوم القيامة يختل فيه نظام هذا العام الدنيوي ، فتسير جباله ، وتبقى أرضه بارزة لا حجر فيها ولا شجر ، ولا بناء ولا وادي ولا علم ، ذكره في مواضع أخر كثيرة ، فذكر أنه يوم القيامة يحمل الأرض والجبال من أماكنهما ، ويدكهما دكة واحدة ، وذلك في قوله : فإذا نفخ في الصور نفخة واحدة وحملت الأرض والجبال فدكتا دكة واحدة فيومئذ وقعت الواقعة . . الآية [ 69 \ 13 - 15 ] .

وما ذكره من تسيير الجبال في هذه الآية الكريمة ذكره أيضا في مواضع أخر ، كقوله : يوم تمور السماء مورا وتسير الجبال سيرا [ 52 \ 9 - 10 ] ، وقولـه : وسيرت الجبال فكانت سرابا [ 78 \ 20 ] ، وقولـه : وإذا الجبال سيرت [ 81 \ 3 ] ، وقولـه : وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب الآية [ 27 \ 88 ] .

ثم ذكر في مواضع أخر أنه جل وعلا يفتتها حتى تذهب صلابتها الحجرية وتلين ، فتكون في عدم صلابتها ولينها كالعهن المنفوش ، وكالرمل المتهايل ، كقوله تعالى : يوم تكون السماء كالمهل وتكون الجبال كالعهن [ 70 \ 8 - 9 ] ، وقولـه تعالى : يوم يكون الناس كالفراش المبثوث وتكون الجبال كالعهن المنفوش [ 101 \ 4 - 5 ] ، والعهن : الصوف ، وقولـه تعالى : يوم ترجف الأرض والجبال وكانت الجبال كثيبا مهيلا [ 73 \ 14 ] ، وقولـه تعالى : وبست الجبال بسا [ 56 \ 5 ] ، أي : فتتت حتى صارت كالبسيسة ، وهي دقيق ملتوت بسمن ، على أشهر التفسيرات .

ثم ذكر جل وعلا أنه يجعلها هباء وسرابا . قال : وبست الجبال بسا فكانت هباء منبثا [ 56 \ 5 ، 6 ] ، وقال : وسيرت الجبال فكانت سرابا [ 78 \ 20 ] .

وبين في موضع آخر أن السراب عبارة عن لا شيء ; وهو قوله : [ ص: 283 ] والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة ، إلى قوله : لم يجده شيئا [ 24 \ 39 ] .

وقولـه : ويوم نسير الجبال ، قرأه ابن عامر وابن كثير وأبو عمرو : " تسير الجبال " بالتاء المثناة الفوقية وفتح الياء المشددة من قوله : " تسير " مبنيا للمفعول ، و الجبال بالرفع نائب فاعل تسير والفاعل المحذوف ضمير يعود إلى الله جل وعلا ، وقرأه باقي السبعة " نسير " بالنون وكسر الياء المشددة مبنيا للفاعل ، و " الجبال " منصوب مفعول به ، والنون في قوله " نسير " للتعظيم .

وقولـه في هذه الآية الكريمة : وترى الأرض بارزة ، البروز : الظهور ، أي : ترى الأرض ظاهرة منكشفة لذهاب الجبال والظراب والآكام ، والشجر والعمارات التي كانت عليها . وهذا المعنى الذي ذكره هنا بينه أيضا في غير هذا الموضع . كقوله تعالى : ويسألونك عن الجبال فقل ينسفها ربي نسفا فيذرها قاعا صفصفا لا ترى فيها عوجا ولا أمتا [ 20 \ 105 - 106 ] ، وأقوال العلماء في معنى ذلك راجعة إلى شيء واحد ، وهو أنها أرض مستوية لا نبات فيها ، ولا بناء ولا ارتفاع ولا انحدار . وقول من قال : إن معنى وترى الأرض بارزة ، أي : بارزا ما كان في بطنها من الأموات والكنوز بعيد جدا كما ترى ، وبروز ما في بطنها من الأموات والكنوز دلت عليه آيات أخر ، كقوله تعالى : وإذا الأرض مدت وألقت ما فيها وتخلت [ 84 \ 3 - 4 ] ، وقولـه تعالى : أفلا يعلم إذا بعثر ما في القبور وحصل ما في الصدور [ 100 \ 9 ] ، وقولـه : وأخرجت الأرض أثقالها [ 99 \ 2 ] ، وقولـه : وإذا القبور بعثرت [ 82 \ 4 ] .

وقولـه في هذه الآية الكريمة : وحشرناهم ، أي : جمعناهم للحساب والجزاء ، وهذا الجمع المعبر عنه بالحشر هنا جاء مذكورا في آيات أخر ، كقوله تعالى : قل إن الأولين والآخرين لمجموعون إلى ميقات يوم معلوم [ 56 \ 49 - 50 ] ، وقولـه تعالى : الله لا إله إلا هو ليجمعنكم إلى يوم القيامة [ 4 \ 87 ] ، وقولـه تعالى : يوم يجمعكم ليوم الجمع ذلك يوم التغابن [ 64 \ 9 ] ، وقولـه تعالى : ذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود [ 11 \ 103 ] ، وقولـه : ويوم نحشرهم جميعا الآية [ 6 \ 22 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .

وبين في موضع آخر أن هذا الحشر المذكور شامل للعقلاء وغيرهم من أجناس المخلوقات ، وهو قوله تعالى : [ ص: 284 ] وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ما فرطنا في الكتاب من شيء ثم إلى ربهم يحشرون [ 6 \ 38 ] .

وقولـه في هذه الآية الكريمة : فلم نغادر منهم أحدا [ 18 \ 47 ] ، أي : لم نترك ، والمغادرة : الترك ، ومنه الغدر ; لأنه ترك الوفاء والأمانة ، وسمي الغدير من الماء غديرا ; لأن السيل ذهب وتركه ، ومن المغادرة بمعنى الترك قول عنترة في مطلع معلقته :


هل غادر الشعراء من متردم أم هل عرفت الدار بعد توهم

وقوله أيضا :


غادرته متعفرا أوصاله     والقوم بين مجرح ومجدل

وما ذكره في هذه الآية الكريمة من أنه حشرهم ولم يترك منهم أحدا جاء مبينا في مواضع أخر ، كقوله : ويوم نحشرهم جميعا الآية [ 6 \ 22 ] ، ونحوها من الآيات ; لأن حشرهم جميعا هو معنى أنه لم يغادر منهم أحدا .

التالي السابق


الخدمات العلمية