صفحة جزء
قوله تعالى : وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه .

قدمنا في سورة " البقرة " أن قوله تعالى : اسجدوا لآدم [ 2 \ 34 ] محتمل لأن يكون أمرهم بذلك قبل وجود آدم أمرا معلقا على وجوده . ومحتمل لأنه أمرهم بذلك تنجيزا بعد وجود آدم . وأنه جل وعلا بين في سورة " الحجر " وسورة " ص " أن أصل [ ص: 290 ] الأمر بالسجود متقدم على خلق آدم معلق عليه ، قال في " الحجر " : وإذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من صلصال من حمإ مسنون فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين [ 15 \ 28 - 29 ] وقال في " ص " : إذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من طين فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين [ 38 \ 71 - 72 ] ، ولا ينافي هذا أنه بعد وجود آدم جدد لهم الأمر بالسجود له تنجيزا .

وقولـه في هذه الآية الكريمة : فسجدوا محتمل لأن يكونوا سجدوا كلهم أو بعضهم ، ولكنه بين في مواضع أخر أنهم سجدوا كلهم ، كقوله : فسجد الملائكة كلهم أجمعون [ 15 ، 73 و 38 ] ونحوها من الآيات .

وقولـه في هذه الآية الكريمة ، كان من الجن ففسق عن أمر ربه [ 18 \ 50 ] ، ظاهر في أن سبب فسقه عن أمر ربه كونه من الجن ، وقد تقرر في الأصول في " مسلك النص " وفي " مسلك الإيماء والتنبيه " : أن الفاء من الحروف الدالة على التعليل ، كقولهم : سرق فقطعت يده ، أي : لأجل سرقته . وسها فسجد ، أي : لأجل سهوه ، ومن هذا القبيل قوله تعالى : والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما [ 5 \ 38 ] أي : لعلة سرقتهما . وكذلك قوله هنا كان من الجن ففسق [ 18 \ 50 ] أي : لعلة كينونته من الجن ; لأن هذا الوصف فرق بينه وبين الملائكة ; لأنهم امتثلوا الأمر وعصا هو ; ولأجل ظاهر هذه الآية الكريمة ذهبت جماعة من العلماء إلى أن إبليس ليس من الملائكة في الأصل بل من الجن ، وأنه كان يتعبد معهم ، فأطلق عليهم اسمهم لأنه تبع لهم ، كالحليف في القبيلة يطلق عليه اسمها . والخلاف في إبليس هل هو ملك في الأصل وقد مسخه الله شيطانا ، أو ليس في الأصل بملك ، وإنما شمله لفظ الملائكة لدخوله فيهم وتعبده معهم مشهور عند أهل العلم . وحجة من قال : إن أصله ليس من الملائكة أمران : أحدهما عصمة الملائكة من ارتكاب الكفر الذي ارتكبه إبليس . كما قال تعالى عنهم : لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون [ 66 \ 6 ] ، وقال تعالى : لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون [ 21 \ 27 ] ، والثاني : أن الله صرح في هذه الآية الكريمة بأنه من الجن ، والجن غير الملائكة . قالوا : وهو نص قرآني في محل النزاع . واحتج من قال : إنه ملك في الأصل بما تكرر في الآيات القرآنية من قوله : فسجد الملائكة كلهم أجمعون إلا إبليس [ 15 \ 30 - 31 ] ، قالوا : فإخراجه بالاستثناء من لفظ الملائكة دليل على أنه منهم . وقال [ ص: 291 ] بعضهم : والظواهر إذا كثرت صارت بمنزلة النص . ومن المعلوم أن الأصل في الاستثناء الاتصال لا الانقطاع ، قالوا : ولا حجة لمن خالفنا في قوله تعالى كان من الجن [ 18 \ 50 ] ; لأن الجن قبيلة من الملائكة ، خلقوا من بين الملائكة من نار السموم كما روي عن ابن عباس ، والعرب تعرف في لغتها إطلاق الجن على الملائكة ، ومنه قول الأعشى في سليمان بن داود :


وسخر من جن الملائك تسعة قياما لديه يعملون بلا أجر

قالوا : ومن إطلاق الجن على الملائكة قوله تعالى : وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا [ 37 \ 158 ] ، عند من يقول : بأن المراد بذلك قولهم : الملائكة بنات الله . سبحانه وتعالى عن كل ما لا يليق بكماله وجلاله علوا كبيرا ! وممن جزم بأنه ليس من الملائكة في الأصل لظاهر هذه الآية الكريمة : الحسن البصري ، وقصره الزمخشري في تفسيره ، وقال القرطبي في تفسير سورة " البقرة " : إن كونه من الملائكة هو قول الجمهور : ابن عباس ، وابن مسعود ، وابن جريج ، وابن المسيب ، وقتادة وغيرهم . وهو اختيار الشيخ أبي الحسن ، ورجحه الطبري ، وهو ظاهر قوله " إلا إبليس " اهـ . وما يذكره المفسرون عن جماعة من السلف كابن عباس وغيره : من أنه كان من أشراف الملائكة ، ومن خزان الجنة ، وأنه كان يدبر أمر السماء الدنيا ، وأنه كان اسمه عزازيل كله من الإسرائيليات التي لا معول عليها .

وأظهر الحجج في المسألة حجة من قال : إنه غير ملك . لأن قوله تعالى : إلا إبليس كان من الجن ففسق الآية [ 18 \ 50 ] ، وهو أظهر شيء في الموضوع من نصوص الوحي . والعلم عند الله تعالى .

وقولـه تعالى في هذه الآية الكريمة : ففسق عن أمر ربه ، أي : خرج عن طاعة أمر ربه ، والفسق في اللغة : الخروج ; ومنه قول رؤبة بن العجاج :


يهوين في نجد وغورا غائرا     فواسقا عن قصدها جوائرا

وهذا المعنى ظاهر لا إشكال فيه ، فلا حاجة لقول من قال : إن " عن " سببية ، كقوله : وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك [ 11 \ 53 ] ، أي : بسببه وأن المعنى : ففسق عن أمر ربه ، أي : بسبب أمره حيث لم يمتثله ، ولا غير ذلك من الأقوال .

وقولـه في هذه الآية الكريمة : أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو بئس للظالمين بدلا ، [ ص: 292 ] الهمزة فيه للإنكار والتوبيخ ، ولا شك أن فيها معنى الاستبعاد كما تقدم نظيره مرارا . أي : أبعد ما ظهر منه من الفسق والعصيان ، وشدة العداوة لكم ولأبويكم آدم وحواء تتخذونه وذريته أولياء من دون خالقكم جل وعلا بئس للظالمين بدلا من الله إبليس وذريته وقال للظالمين ; لأنهم اعتاضوا الباطل من الحق ، وجعلوا مكان ولايتهم لله ولايتهم لإبليس وذريته ، وهذا من أشنع الظلم الذي هو في اللغة : وضع الشيء في غير موضعه . كما تقدم مرارا ، والمخصوص بالذم في الآية محذوف دل عليه المقام ، وتقديره : بئس البدل من الله إبليس وذريته . وفاعل " بئس " ضمير محذوف يفسره التمييز الذي هو " بدلا " على حد قوله له في الخلاصة :


ويرفعان مضمرا يفسره     مميز كنعم قوما معشره

والبدل : العوض من الشيء ، وما ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة من عداوة الشيطان لبني آدم جاء مبينا في آيات أخر .

كقوله : إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا [ 35 \ 6 ] ، وكذلك الأبوان ، كما قال تعالى : فقلنا ياآدم إن هذا عدو لك ولزوجك فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى [ 20 \ 117 ] .

وقد بين في غير هذا الموضع : أن الذين اتخذوا الشياطين أولياء بدلا من ولاية الله يحسبون أنهم في ذلك على حق . كقوله تعالى : إنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله ويحسبون أنهم مهتدون [ 7 \ 30 ] ، وبين في مواضع أخر أن الكفار أولياء الشيطان . كقوله تعالى : والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت فقاتلوا أولياء الشيطان [ 4 \ 76 ] ، وقوله تعالى : إنا جعلنا الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون [ 7 \ 27 ] ، وقولـه تعالى : والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت [ 2 \ 257 ] ، وقولـه : إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين [ 3 \ 175 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .

وقولـه في هذه الآية الكريمة : وذريته [ 18 \ 50 ] ، دليل على أن للشيطان ذرية . فادعاء أنه لا ذرية له مناقض لهذه الآية مناقضة صريحة كما ترى . وكل ما ناقض صريح القرآن فهو باطل بلا شك ! ولكن طريقة وجود نسله هل هي عن تزويج أو غيره ، لا دليل عليها من نص صريح ، والعلماء مختلفون فيها . وقال الشعبي : سألني الرجل : هل لإبليس زوجة ؟ فقلت : إن ذلك عرس لم أشهده ثم ذكرت قوله تعالى : أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني [ 18 \ 50 ] ، [ ص: 293 ] فعلمت أنه لا تكون ذرية إلا من زوجة فقلت : نعم ، وما فهمه الشعبي من هذه الآية من أن الذرية تستلزم الزوجة روي مثله عن قتادة ، وقال مجاهد : إن كيفية وجود النسل منه أنه أدخل فرجه في فرج نفسه فباض خمس بيضات : قال : فهذا أصل ذريته ، وقال بعض أهل العلم : إن الله تعالى خلق له في فخذه اليمنى ذكرا ، وفي اليسرى فرجا ، فهو ينكح هذا بهذا فيخرج له كل يوم عشر بيضات ، يخرج من كل بيضة سبعون شيطانا وشيطانة ، ولا يخفى أن هذه الأقوال ونحوها لا معول عليها لعدم اعتضادها بدليل من كتاب أو سنة . فقد دلت الآية الكريمة على أن له ذرية . أما كيفية ولادة تلك الذرية فلم يثبت فيه نقل صحيح ، ومثله لا يعرف بالرأي . وقال القرطبي في تفسير هذه الآية : قلت : الذي ثبت في هذا الباب من الصحيح ما ذكره الحميري في الجمع بين الصحيحين عن الإمام أبي بكر البرقاني : أنه خرج في كتابه مسندا عن أبي محمد عبد الغني بن سعيد الحافظ ، من رواية عاصم ، عن أبي عثمان ، عن سلمان قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا تكن أول من يدخل السوق ولا آخر من يخرج منها ، فيها باض الشيطان وفرخ " وهذا يدل على أن للشيطان ذرية من صلبه .

قال مقيده عفا الله عنه : هذا الحديث إنما يدل على أنه يبيض ويفرخ ، ولكن لا دلالة فيه على ذلك . هل هي من أنثى هي زوجة له ، أو من غير ذلك . مع أن دلالة الحديث على ما ذكرنا لا تخلو من احتمال ; لأنه يكثر في كلام العرب إطلاق باض وفرخ على سبيل المثل ، فيحتمل معنى باض وفرخ أنه فعل بها ما شاء من إضلال وإغواء ووسوسة ونحو ذلك على سبيل المثل ; لأن الأمثال لا تغير ألفاظها ، وما يذكره كثير من المفسرين وغيرهم من تعيين أسماء أولاده ووظائفهم التي قلدهم إياها ; كقوله : زلنبور صاحب الأسواق ، وتبر صاحب المصائب يأمر بضرب الوجوه وشق الجيوب ونحو ذلك ، والأعور صاحب أبواب الزنا . ومسوط صاحب الأخبار يلقيها في أفواه الناس فلا يجدون لها أصلا . وداسم هو الشيطان الذي إذا دخل الرجل بيته فلم يسلم ولم يذكر اسم الله بصره ما لم يرفع من المتاع وما لم يحسن موضعه يثير شره على أهله ، وإذا أكل ولم يذكر اسم الله أكل معه . والولهان صاحب المزامير وبه كان يكنى إبليس ، إلى غير ذلك من تعيين أسمائهم ووظائفهم كله لا معول عليه ; إلا ما ثبت منه عن النبي صلى الله عليه وسلم . ومما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم من تعيين وظيفة الشيطان واسمه ما رواه مسلم رحمه الله في صحيحه : حدثنا يحيى بن خلف [ ص: 294 ] الباهلي ، حدثنا عبد الأعلى عن سعيد الجريري عن أبي العلاء : أن عثمان بن أبي العاص أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، إن الشيطان قد حال بيني وبين صلاتي وقراءتي يلبسها علي ! ! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ذاك شيطان يقال له خنزب . فإذا أحسسته فتعوذ بالله منه ، واتفل عن يسارك ثلاثا " قال : ففعلت ذلك فأذهبه الله عني .

وتحريش الشيطان بين الناس وكون إبليس يضع عرشه على البحر ، ويبعث سرايا فيفتنون الناس فأعظمهم عنده أعظمهم فتنة كل ذلك معروف ثابت في الصحيح . والعلم عند الله تعالى .

التالي السابق


الخدمات العلمية