صفحة جزء
قوله تعالى ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه فأعرض عنها ونسي ما قدمت يداه ، ذكر جل [ ص: 309 ] وعلا في هذه الآية الكريمة : أنه لا أحد أظلم ، أي : أكثر ظلما لنفسه ممن ذكر ، أي : وعظ بآيات ربه ، وهي هذا القرآن العظيم فأعرض عنها [ 18 \ 57 ] ، أي : تولى وصد عنها .

وإنما قلنا : إن المراد بالآيات هذا القرآن العظيم لقرينة تذكير الضمير العائد إلى الآيات في قوله : أن يفقهوه ، أي : القرآن المعبر عنه بالآيات ، ويحتمل شمول الآيات للقرآن وغيره ، ويكون الضمير في قوله : أن يفقهوه أي : ما ذكر من الآيات ، كقول رؤبة :

فيها خطوط من سواد وبلق كأنه في الجلد توليع البهق ونظير ذلك في القرآن قوله تعالى : قال إنه يقول إنها بقرة لا فارض ولا بكر عوان بين ذلك [ 2 \ 68 ] ، أي : ذلك الذي ذكر من الفارض والبكر ، ونظيره من كلام العرب قول ابن الزبعرى :


إن للخير وللشر مدى وكلا ذلك وجه وقبل أي

: كلا ذلك المذكور من خير وشر ، وقد قدمنا إيضاح هذا ، وقوله : ونسي ما قدمت يداه [ 18 \ 57 ] ، أي : من المعاصي والكفر ، مع أن الله لم ينسه بل هو محصيه عليه ومجازيه ، كما قال تعالى : يوم يبعثهم الله جميعا فينبئهم بما عملوا أحصاه الله ونسوه والله على كل شيء شهيد [ 58 \ 6 ] ، وقال تعالى : وما نتنزل إلا بأمر ربك له ما بين أيدينا وما خلفنا وما بين ذلك وما كان ربك نسيا [ 19 \ 64 ] ، وقال تعالى : قال علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى [ 20 \ 52 ] ، وقال بعض العلماء في قوله : ونسي ما قدمت يداه أي : تركه عمدا ولم يتب منه ، وبه صدر القرطبي رحمه الله تعالى ، وما ذكره في هذه الآية الكريمة من أن الإعراض عن التذكرة بآيات الله من أعظم الظلم ، قد زاد عليه في مواضع أخر بيان أشياء من النتائج السيئة ، والعواقب الوخيمة الناشئة من الإعراض عن التذكرة ، فمن نتائجه السيئة : ما ذكره هنا من أن صاحبه من أعظم الناس ظلما ، ومن نتائجه السيئة جعل الأكنة على القلوب حتى لا تفقه الحق ، وعدم الاهتداء أبدا كما قال هنا مبينا بعض ما ينشأ عنه من العواقب السيئة : إنا جعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا وإن تدعهم إلى الهدى فلن يهتدوا إذا أبدا [ 18 \ 57 ] ، ومنها انتقام الله جل وعلا من المعرض عن التذكرة ، كما قال تعالى : ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه ثم أعرض عنها إنا من المجرمين منتقمون [ 32 \ 22 ] ، ومنها [ ص: 310 ] كون المعرض كالحمار ، كما قال تعالى : فما لهم عن التذكرة معرضين كأنهم حمر مستنفرة الآية [ 74 \ 49 - 50 ] ، ومنها الإنذار بصاعقة مثل صاعقة عاد وثمود ، كما قال تعالى : فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود الآية [ 41 \ 13 ] ، ومنها المعيشة الضنك والعمى ، كما قال تعالى : ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى [ 20 \ 124 ] ، ومنها سلكه العذاب الصعد ، كما قال تعالى : ومن يعرض عن ذكر ربه يسلكه عذابا صعدا [ 72 \ 17 ] ، ومنها تقييض القرناء من الشياطين ، كما قال تعالى : ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين [ 43 \ 36 ] ، إلى غير ذلك من النتائج السيئة ، والعواقب الوخيمة الناشئة عن الإعراض عن التذكير بآيات الله جل وعلا ، وقد أمر تعالى في موضع آخر بالإعراض عن المتولي عن ذكره ، القاصر نظره على الحياة الدنيا ، وبين أن ذلك هو مبلغه من العلم ، فلا علم عنده بما ينفعه في معاده ، وذلك في قوله تعالى : فأعرض عن من تولى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحياة الدنيا ذلك مبلغهم من العلم [ 53 \ 29 - 30 ] ، وقد نهى جل وعلا عن طاعة مثل ذلك المتولي عن الذكر الغافل عنه في قوله : ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا [ 18 \ 28 ] ، كما تقدم إيضاحه .

وقولـه في هذه الآية : ما قدمت يداه أي : ما قدم من أعمال الكفر ، ونسبة التقديم إلى خصوص اليد ; لأن اليد أكثر مزاولة للأعمال من غيرها من الأعضاء ، فنسبت الأعمال إليها على عادة العرب في كلامهم ، وإن كانت الأعمال التي قدمها منها ما ليس باليد كالكفر باللسان والقلب ، وغير ذلك من الأعمال التي لا تزاول باليد كالزنا ، وقد بينا في كتابنا ) دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب ( وجه الجمع بين قوله : ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه الآية [ 18 \ 57 ] ، وقولـه : ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا [ 11 \ 18 ] ، ونحو ذلك من الآيات .

وأشهر أوجه الجمع في ذلك وجهان : أحدهما أن كل من قال الله فيه : ومن أظلم ممن فعل كذا ، لا أحد أظلم من واحد منهم ، وإذا فهم متساوون في الظلم لا يفوق بعضهم فيه بعضا ، فلا إشكال في كون كل واحد منهم لا أحد أظلم منه ، والثاني أن صلة الموصول تعين كل واحد في محله ، وعليه فالمعنى في قوله : ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه فأعرض عنها [ 18 \ 57 ] ، لا أحد أظلم ممن ذكر فأعرض أظلم ممن ذكر بآيات ربه [ ص: 311 ] فأعرض عنها ، وفي قوله : ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا [ 11 \ 18 ] لا أحد من المفترين أظلم ممن افترى على الله كذبا ، وهكذا الأول أولى ; لأنه جار على ظاهر القرآن ولا إشكال فيه ، وممن اختاره أبو حيان في البحر .

التالي السابق


الخدمات العلمية