صفحة جزء
قوله تعالى : وإن تدعهم إلى الهدى فلن يهتدوا إذا أبدا .

بين في هذه الآية الكريمة : أن الذين جعل الله على قلوبهم أكنة تمنعهم أن يفقهوا ما ينفعهم من آيات القرآن التي ذكروا بها لا يهتدون أبدا ، فلا ينفع فيهم دعاؤك إياهم إلى الهدى ، وهذا المعنى الذي أشار [ ص: 314 ] له هنا من أن من أشقاهم الله لا ينفع فيهم التذكير جاء مبينا في مواضع أخر ، كقوله : إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم [ 10 \ 96 ] ، وقولـه تعالى : كذلك سلكناه في قلوب المجرمين لا يؤمنون به حتى يروا العذاب الأليم [ 26 \ 200 ] ، وقولـه تعالى : وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون [ 10 \ 101 ] ، وقولـه تعالى : وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله ويجعل الرجس على الذين لا يعقلون [ 10 \ 100 ] ، وقولـه تعالى : إن تحرص على هداهم فإن الله لا يهدي من يضل وما لهم من ناصرين [ 16 \ 37 ] ، وهذه الآية وأمثالها في القرآن فيها وجهان معروفان عند العلماء .

أحدهما : أنها في الذين سبق لهم في علم الله أنهم أشقياء ، عياذا بالله تعالى .

والثاني : أن المراد أنهم كذلك ما داموا متلبسين بالكفر ، فإن هداهم الله إلى الإيمان وأنابوا زال ذلك المانع ، والأول أظهر ، والعلم عند الله تعالى .

والفاء في قوله : فلن يهتدوا [ 18 \ 57 ] ; لأن الفعل الذي بعد " لن " لا يصلح أن يكون شرطا لـ " إن " ونحوها ، والجزاء إذا لم يكن صالحا لأن يكون شرطا لـ " إن " ونحوها لزم اقترانه بالفاء ، كما عقده في الخلاصة بقوله :


واقرن بفا حتما جوابا لو جعل شرطا لإن أو غيرها لم ينجعل

وقولـه في هذه الآية الكريمة " إذا " جزاء وجواب ، فدل على انتفاء اهتدائهم لدعوة الرسول صلى الله عليه وسلم ، بمعنى أنهم جعلوا ما يجب أن يكون سببا للاهتداء سببا لانتفائه ; لأن المعنى : فلن يهتدوا إذا دعوتهم ، ذكر هذا المعنى الزمخشري ، وتبعه أبو حيان في البحر ، وهذا المعنى قد غلطا فيه ، وغلط فيه خلق لا يحصى كثرة من البلاغيين وغيرهم .

وإيضاح ذلك أن الزمخشري هنا وأبا حيان ظنا أن قوله : وإن تدعهم إلى الهدى فلن يهتدوا إذا أبدا شرط وجزاء ، وأن الجزاء مرتب على الشرط كترتيب الجزاء على ما هو شرط فيه ; ولذا ظنا أن الجزاء الذي هو عدم الاهتداء المعبر عنه في الآية بقوله : فلن يهتدوا مرتب على الشرط الذي هو دعاؤه إياهم المعبر عنه في الآية بقوله : وإن تدعهم إلى الهدى ، المشار إليه أيضا بقوله " إذا " فصار دعاؤه إياهم سبب انتفاء اهتدائهم وهذا غلط ; لأن هذه القضية الشرطية في هذه الآية الكريمة ليست شرطية لزومية ، حتى يكون بين شرطها وجزائها ارتباط ، بل هي شرطية اتفاقية ، والشرطية الاتفاقية [ ص: 315 ] لا ارتباط أصلا بين طرفيها ، فليس أحدهما سببا في الآخر ، ولا ملزوما له ، كما لو قلت : إن كان الإنسان ناطقا فالفرس صاهل فلا ربط بين الطرفين ; لأن الجزاء في الاتفاقية له سبب آخر غير مذكور ، كقولك : لو لم يخف الله لم يعصه ; لأن سبب انتفاء العصيان ليس هو عدم الخوف الذي هو الشرط ، بل هو شيء آخر غير مذكور ، وهو تعظيم الله جل وعلا ، ومحبته المانعة من معصيته ، وكذلك قوله هنا : فلن يهتدوا إذا أبدا ، سببه الحقيقي غير مذكور معه فليس هو قوله " وإن تدعهم " كما ظنه الزمخشري وأبو حيان وغيرهما ، بل سببه هو إرادة الله جل وعلا انتفاء اهتدائهم على وفق ما سبق في علمه أزلا .

ونظير هذه الآية الكريمة في عدم الارتباط بين طرفي الشرطية قوله تعالى : قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم [ 3 \ 154 ] ; لأن سبب بروزهم إلى مضاجعهم شيء آخر غير مذكور في الآية ، وهو ما سبق في علم الله من أن بروزهم إليها لا محالة واقع ، وليس سببه كينونتهم في بيوتهم المذكورة في الآية ، وكذلك قوله تعالى : قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر [ 18 \ 109 ] ، إلى غير ذلك من الآيات ، وقد أوضحت الفرق بين الشرطية اللزومية والشرطية الاتفاقية في أرجوزتي في المنطق وشرحي لها في قولي :


مقدم الشرطية المتصله مهما تكن     صحبة ذاك التال له لموجب قد اقتضاها
كسبب فهي اللزومية     ثم إن ذهب موجب الاصطحاب
ذا بينهما فالاتفاقية عند العلما     ومثال الشرطية المتصلة اللزومية قولك
: كلما كانت الشمس طالعة     كان النهار موجودا

، لظهور التلازم بين الطرفين ، ويكفي في ذلك حصول مطلق اللازمية دون التلازم من الطرفين ، كقولك : كلما كان الشيء إنسانا كان حيوانا ، إذ لا يصدق عكسه .

فلو قلت : كلما كان الشيء حيوانا كان إنسانا لم يصدق ; لأن اللزوم في أحد الطرفين لا يقتضي الملازمة في كليهما ، ومطلق اللزوم تكون به الشرطية لزومية ، أما إذا عدم اللزوم من أصله بين طرفيها فهي اتفاقية ، ومثالها : كلمة كان الإنسان ناطقا كان الحمار ناهقا ، وبسبب عدم التنبه للفرق بين الشرطية اللزومية ، والشرطية الاتفاقية ارتبك خلق كثير من النحويين والبلاغيين في الكلام على معنى " لو " لأنهم أرادوا أن يجمعوا في [ ص: 316 ] المعنى بين قولك : لو كانت الشمس طالعة لكان النهار موجودا ، وبين قولك : لو لم يخف الله لم يعصه ، مع أن الشرط سبب في الجزاء في الأول ; لأنها شرطية لزومية ، ولا ربط بينهما في الثاني لأنها شرطية اتفاقية ، ولا شك أن من أراد أن يجمع بين المفترقين ارتبك ، والعلم عند الله تعالى .

التالي السابق


الخدمات العلمية