صفحة جزء
الفرع الرابع : قد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه نحر قبل أن يحلق في عمرة الحديبية ، وفي حجة الوداع ، ودل القرآن على أن النحر قبل الحلق في موضعين : أحدهما : قوله تعالى : ( ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله ) .

والثاني : قوله تعالى في سورة " الحج " : ( ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام ) [ الآية : 28 ] .

فالمراد بقوله : ( ليذكروا اسم الله على ما رزقهم ) الآية [ 22 \ 34 ] ذكر اسمه تعالى عند نحر البدن إجماعا ، وقد قال تعالى بعده عاطفا بثم التي هي للترتيب ( ثم ليقضوا تفثهم ) [ 22 \ 29 ] . وقضاء التفث يدخل فيه بلا نزاع إزالة الشعر بالحلق ، فهو نص صريح في الأمر بتقديم النحر على الحلق ، ومن إطلاق التفث على الشعر ونحوه ، قول أمية بن أبي الصلت : [ البسيط ]

حفوا رؤوسهم لم يحلقوا تفثا ولم يسلوا لهم قملا وصئبانا



وروى بعضهم بيت أمية المذكور هكذا : [ البسيط ]

ساخين آباطهم لم يقذفوا تفثا     وينزعوا عنهم قملا وصئبانا



ومنه قول الآخر : [ الوافر ]

قضوا تفثا ونحبا ثم ساروا     إلى نجد وما انتظروا عليا



فهذه النصوص تدل دلالة لا لبس فيها على أن الحلق بعد النحر ، ولكن إذا عكس الحاج أو المعتمر ، فحلق قبل أن ينحر ، فقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع أن ذلك لا حرج فيه ، والتعبير بنفي الحرج يدل بعمومه على سقوط الإثم والدم معا ، وقيل فيمن حلق قبل أن ينحر محصرا كان أو غيره : إنه عليه دم ، فقد روى ابن أبي شيبة من طريق الأعمش ، عن إبراهيم ، عن علقمة ، قال : عليه دم . قال إبراهيم وحدثني سعيد بن جبير ، عن ابن عباس مثله . ذكره في المحصر .

[ ص: 88 ] قال الشوكاني في " نيل الأوطار " : والظاهر عدم وجوب الدم ; لعدم الدليل .

قال مقيده عفا الله عنه : الظاهر : أن الدليل عند من قال بذلك هو الأحاديث الواردة بأنه صلى الله عليه وسلم ، لما صده المشركون عام الحديبية نحر قبل الحلق ، وأمر أصحابه بذلك ، فمن ذلك ما رواه أحمد والبخاري وأبو داود ، عن المسور ومروان في حديث عمرة الحديبية والصلح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما فرغ من قضية الكتاب قال لأصحابه : " قوموا فانحروا ، ثم احلقوا " .

وللبخاري عن المسور أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نحر قبل أن يحلق ، وأمر أصحابه بذلك ، ا هـ . فدل فعله وأمره على أن ذلك هو اللازم للمحصر ، ومن قدم الحلق على النحر فقد عكس ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم ، ومن أخل بنسك فعليه دم .

قال مقيده عفا الله عنه : الذي تدل عليه نصوص السنة الصحيحة أن النحر مقدم على الحلق ، ولكن من حلق قبل أن ينحر فلا حرج عليه من إثم ولا دم ، فمن ذلك ما أخرجه الشيخان في " صحيحيهما " ، عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أجاب من سأله ، بأنه ظن الحلق قبل النحر فنحر قبل أن يحلق ، بأن قال له : " افعل ولا حرج " .

ومن ذلك ما أخرجه الشيخان في " صحيحيهما " أيضا عن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قيل له في الذبح ، والحلق ، والرمي ، والتقديم والتأخير فقال : " لا حرج " .

وفي رواية للبخاري ، وأبي داود ، والنسائي ، وابن ماجه سأله رجل فقال : حلقت قبل أن أذبح ، قال : " اذبح ولا حرج " ، وقال : رميت بعد ما أمسيت ، فقال : " افعل ولا حرج " .

وفي رواية للبخاري ، قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم : زرت قبل أن أرمي ، قال : " لا حرج " ، قال : حلقت قبل أن أذبح ، قال : " لا حرج " ، والأحاديث بمثل هذا كثيرة . وهي تدل دلالة لا لبس فيها على أن من حلق قبل أن ينحر لا شيء عليه من إثم ولا فدية ; لأن قوله : " لا حرج " نكرة في سياق النفي ركبت مع لا فبنيت على الفتح ، والنكرة إذا كانت كذلك فهي نص صريح في العموم ، فالأحاديث إذن نص صريح في عموم النفي لجميع أنواع الحرج من إثم وفدية . والله تعالى أعلم .

ولا يتضح حمل الأحاديث المذكورة على من قدم الحلق جاهلا أو ناسيا ، وإن كان سياق حديث عبد الله بن عمرو المتفق عليه يدل على أن السائل جاهل ; لأن بعض [ ص: 89 ] تلك الأحاديث الواردة في الصحيح ليس فيها ذكر النسيان ولا الجهل ، فيجب استصحاب عمومها حتى يدل دليل على التخصيص بالنسيان والجهل . وقد تقرر أيضا في علم الأصول أن جواب المسئول لمن سأله لا يعتبر فيه مفهوم المخالفة ; لأن تخصيص المنطوط بالذكر لمطابقة الجواب للسؤال ، فلم يتعين كونه لإخراج المفهوم عن حكم المنطوق ، وقد أشار له في " مراقي السعود " في مبحث موانع اعتبار مفهوم المخالفة بقوله عاطفا على ما يمنع اعتباره : [ الرجز ]

أو جهل الحكم أو النطق انجلب     للسؤل أو جرى على الذي غلب



كما يأتي بيانه في الكلام على قوله تعالى : ( الطلاق مرتان ) الآية [ 2 \ 229 ] وبه تعلم أن وصف عدم الشعور الوارد في السؤال لا مفهوم له .

وقال الشوكاني في نيل الأوطار : وتعليق سؤال بعضهم بعدم الشعور لا يستلزم سؤال غيره به حتى يقال : إنه يختص الحكم بحالة عدم الشعور ، ولا يجوز اطراحها بإلحاق العمد بها .

ولهذا يعلم أن التعويل في التخصيص على وصف عدم الشعور المذكور في سؤال بعض السائلين غير مفيد للمطلوب ، انتهى محل الغرض منه بلفظه .

التالي السابق


الخدمات العلمية