صفحة جزء
قوله تعالى : قالت أنى يكون لي غلام ولم يمسسني بشر ولم أك بغيا ، ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أن مريم لما بشرها جبريل بالغلام الزكي عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام قالت : أنى يكون لي غلام [ 19 \ 20 ] ، أي : كيف ألد غلاما والحال أني لم يمسسني بشر ، تعني : لم يجامعني زوج بنكاح ، ولم أك بغيا ، أي : لم أك زانية ، وإذا انتفى عنها مسيس الرجال حلالا وحراما فكيف تحمل ، والظاهر أن استفهامها استخبار واستعلام عن الكيفية التي يكون فيها حمل الغلام المذكور ; لأنها مع عدم مسيس الرجال لم تتضح لها الكيفية ، ويحتمل أن يكون استفهامها تعجب من كمال قدرة الله تعالى ، وهذا الذي ذكر الله جل وعلا عنها أنها قالته هنا ذكره عنها أيضا في سورة " آل عمران " في قوله تعالى : إذ قالت الملائكة يامريم إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم وجيها في الدنيا والآخرة ومن المقربين ويكلم الناس في المهد وكهلا ومن الصالحين [ 3 \ 45 ] ، قالت رب أنى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر [ 3 \ 47 ] واقتصارها في آية " آل عمران " على قولها : ولم يمسسني بشر ، يدل على أن مسيس البشر المنفي عنها شامل للمسيس بنكاح والمسيس بزنى ، كما هو الظاهر ، وعليه فقولها في سورة " مريم " : ولم يمسسني بشر ولم أك بغيا [ 19 \ 20 ] ، يظهر فيه أن قولها " ولم أك بغيا " : تخصيص بعد تعميم ; لأن مسيس البشر يشمل الحلال [ ص: 388 ] والحرام ، وقال الزمخشري في الكشاف في تفسير قوله تعالى هنا : ولم يمسسني بشر ولم أك بغيا : جعل المس عبارة عن النكاح الحلال لأنه كناية عنه ، كقوله تعالى : من قبل أن تمسوهن [ 2 \ 273 ] ، أو لامستم النساء [ 4 \ 43 ] ، والزنى ليس كذلك ، إنما يقال فيه : فجر بها ، وخبث بها وما أشبه ذلك ، وليس بقمن أن تراعى فيه الكنايات والآداب . اهـ .

والأظهر الأول ، وآية آل عمران تدل عليه ، ويؤيده أن لفظة " بشر " نكرة في سياق النفي فهي تعم كل بشر ، فينتفي مسيس كل بشر كائنا من كان . والبغي : المجاهرة المشتهرة بالزنى ، ووزنه فعول عند المبرد ، اجتمعت فيه واو وياء سبقت إحداهما بالسكون ، فقلبت الواو ياء وأدغمت في الياء وكسر ما قبلها لأجل الياء كما كسرت في عصي ودلي جمع عصا ودلو ، كما قدمنا هذا مرارا ، والقائل بأن أصل " البغي " فعول ، يقول : لو كان أصله " فعيلا " للحقته هاء التأنيث ; لأنها لازمة في " فعيل " بمعنى " فاعل " وقال ابن جني في كتاب التمام : أصل البغي على وزن " فعيل " ولو كان " فعولا " لقيل : بغو ، كما قيل : فلان نهو عن المنكر ، وعلى هذا القول فقد يجاب عن عدم لحوق تاء التأنيث ، بأن البغي وصف مختص بالإناث ، والرجل يقال فيه باغ لا بغي ، كما قاله أبو حيان في البحر ، والأوصاف المختصة بالإناث لا تحتاج إلى تاء الفرق بين الذكر والأنثى كحائض ، كما عقده ابن مالك في الكافية بقوله :


وما من الصفات بالأنثى يخص عن تاء استغنى لأن اللفظ نص

التالي السابق


الخدمات العلمية