صفحة جزء
قوله تعالى : فحملته فانتبذت به مكانا قصيا فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة قالت يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا ، ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أن مريم حملت عيسى ، فقوله : فحملته ، أي : عيسى فانتبذت به ، أي : تنحت به وبعدت معتزلة عن قومها مكانا قصيا ، أي : في مكان بعيد ، والجمهور على أن المكان المذكور بيت لحم ، وفيه أقوال أخر غير ذلك . وقوله : فأجاءها المخاض ، أي : ألجأها الطلق إلى جذع النخلة ، أي : جذع نخلة في ذلك المكان ، والعرب تقول : جاء فلان ، و : أجاءه غيره : إذا حمله على المجيء ، [ ص: 390 ] ومنه قول زهير :


وجار سار معتمدا إلينا أجاءته المخافة والرجاء

وقول حسان رضي الله عنه :


إذ شددنا شدة صادقة فاجأناكم     إلى سفح الجبل والمخاض

: الطلق ، وهو وجع الولادة ، وسمي مخاضا من المخض ، وهو الحركة الشديدة لشدة تحرك الجنين في بطنها إذا أراد الخروج .

وقوله : قالت ياليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا [ 19 \ 23 ] ، تمنت أن تكون قد ماتت قبل ذلك ولم تكن شيئا يذكر ، فإذا عرفت معنى هاتين الآيتين فاعلم أنه هنا لم يبين كيفية حملها به ، ولم يبين هل هذا الذي تنحت عنهم من أجله ، وتمنت من أجله أن تكون ماتت قبل ذلك وكانت نسيا منسيا ، وهو خوفها من أن يتهموها بالزنى ، وأنها جاءت بذلك الغلام من زنى - وقعت فيه أو سلمت منه ، ولكنه تعالى بين كل ذلك في غير هذا الموضع ، فأشار إلى أن كيفية حملها أنه نفح فيها فوصل النفخ إلى فرجها فوقع الحمل بسبب ذلك ، كما قال : ومريم ابنت عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا [ 66 \ 12 ] ، وقال : والتي أحصنت فرجها فنفخنا فيها من روحنا الآية [ 21 \ 91 ] ، والذي عليه الجمهور من العلماء : أن المراد بذلك النفخ نفخ جبريل فيها بإذن الله فحملت ، كما تدل لذلك قراءة الجمهور في قوله : إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا [ 19 \ 18 ] ، كما تقدم ، ولا ينافي ذلك إسناد الله جل وعلا النفخ المذكور لنفسه في قوله : فنفخنا لأن جبريل إنما أوقعه بإذنه وأمره ومشيئته ، وهو تعالى الذي خلق الحمل من ذلك النفخ ، فجبريل لا قدرة له على أن يخلق الحمل من ذلك النفخ ومن أجل كونه بإذنه ومشيئته وأمره تعالى ، ولا يمكن أن يقع النفخ المذكور ولا وجود الحمل منه إلا بمشيئته جل وعلا - أسنده إلى نفسه ، والله تعالى أعلم .

وقول من قال : إن فرجها الذي نفخ فيه الملك هو جيب درعها ظاهر السقوط ، بل النفخ الواقع في جيب الدرع وصل إلى الفرج المعروف فوقع الحمل .

وقد بين تعالى في مواضع أخر ، أن ذلك الذي خافت منه وهو قذفهم لها بالفاحشة قد وقعت فيه ، ولكن الله برأها ، وذلك كقوله عنهم : قالوا يامريم لقد جئت شيئا فريا [ 19 \ 27 ] ، يعنون الفاحشة ، وقوله عنهم ، ياأخت هارون ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغيا [ 19 \ 28 ] ، [ ص: 391 ] يعنون فكيف فجرت أنت وجئت بهذا الولد ؟ وكقوله تعالى وبكفرهم وقولهم على مريم بهتانا عظيما [ 4 \ 156 ] .

وقوله : مكانا قصيا ، القصي : البعيد ، ومنه قول الراجز :


لتقعدن مقعد القصي     مني ذي القاذورة المقلي
أو تحلفي بربك العلي     أني أبو ذيالك الصبي

وهذا المكان القصي قد وصفه الله تعالى في غير هذا الموضع بقوله : وجعلنا ابن مريم وأمه آية وآويناهما إلى ربوة ذات قرار ومعين [ 23

] ، وقوله في هذه الآية الكريمة : فانتبذت به ، أي : انتبذت وهو في بطنها ، والإشارة في قوله " هذا " إلى الحمل والمخاض الذي أصابها للوضع .

وقوله في هذه الآية الكريمة عنها : وكنت نسيا منسيا ، النسي والنسي بالكسر وبالفتح : هو ما من حقه أن يطرح وينسى لحقارته ، كخرق الحيض ، وكالوتد والعصا ، ونحو ذلك ، ومن كلام العرب إذا ارتحلوا عن الدار قولهم : انظروا أنساءكم . جمع نسي أي الأشياء الحقيرة التي من شأنها أن تترك وتنسى كالعصا والوتد ، ونحو ذلك ، فقولها " وكنت نسيا " أي شيئا تافها حقيرا من حقه أن يترك وينسى عادة ، وقولها " منسيا " تعني أن ذلك الشيء التافه الذي من عادته أن يترك وينسى قد نسي وطرح بالفعل فوجد فيه النسيان الذي هو حقه ، وأقوال المفسرين في الآية راجعة إلى ما ذكرنا ، ومن إطلاق النسي على ما ذكرنا قول الكميت :


أتجعلنا جسرا لكلب قضاعة     ولست بنسي في معد ولا دخل

فقوله " بنسي " أي : شيء تافه منسي ، وقول الشنفرى :


كأن لها في الأرض نسيا تقصه     على أمها وإن تحدثك تبلت

فقوله " نسيا " أي : شيء تركته ونسيته ، وقوله " تبلت " بفتح التاء وسكون الباء الموحدة وفتح اللام بعدها تاء التأنيث ، أي : تقطع كلامها من الحياء ، والبلت في اللغة : القطع .

وقرأ نافع ، وحفص عن عاصم ، وحمزة ، والكسائي " ياليتني مت " بكسر الميم ، وقرأ الباقون " مت " بضم الميم ، وقرأ حفص عن عاصم ، وحمزة " وكنت نسيا " بفتح النون ، والباقون بكسرها ، وهما لغتان فصيحتان ، وقراءتان صحيحتان .

التالي السابق


الخدمات العلمية