صفحة جزء
قوله تعالى : فأتت به قومها تحمله قالوا يا مريم لقد جئت شيئا فريا يا أخت هارون ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغيا ، لما اطمأنت مريم بسبب ما رأت من الآيات الخارقة للعادة التي تقدم ذكرها آنفا أتت به ) أي بعيسى ( قومها تحمله غير محتشمة ولا مكترثة بما يقولون ، فقالوا لها : يامريم لقد جئت شيئا فريا [ 19 \ 27 ] ، قال مجاهد وقتادة وغير واحد : " فريا " ، أي : عظيما ، وقال سعيد بن مسعدة : " فريا " أي : مختلقا مفتعلا ، وقال أبو عبيدة والأخفش : " فريا " أي : عجيبا نادرا .

قال مقيده عفا الله عنه وغفر له : الذي يفهم من الآيات القرآنية أن مرادهم بقولهم لقد جئت شيئا فريا ، أي : منكرا عظيما ; لأن " الفري " فعيل من الفرية ، يعنون به الزنى ; لأن ولد الزنى كالشيء المفترى المختلق ; لأن الزانية تدعي إلحاقه بمن ليس أباه ، ويدل على أن مرادهم بقولهم " فريا " الزنى قوله تعالى : وبكفرهم وقولهم على مريم بهتانا عظيما [ 4 \ 156 ] ، لأن ذلك البهتان العظيم الذي هو ادعاؤهم أنها زنت ، وجاءت بعيسى من ذلك الزنى ) حاشاها وحاشاه من ذلك ( هو المراد بقولهم لها : لقد جئت شيئا فريا ، ويدل لذلك قوله تعالى بعده : ياأخت هارون ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغيا ، والبغي الزانية كما تقدم ، يعنون كان أبواك عفيفين لا يفعلان الفاحشة ، فما لك أنت ترتكبينها ! ومما يدل على أن ولد الزنى كالشيء المفترى قوله تعالى : ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن [ 60 \ 12 ] ، قال بعض العلماء : معنى قوله تعالى : ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن ، أي : ولا يأتين بولد زنى يقصدن إلحاقه برجل ليس أباه ، هذا هو الظاهر الذي دل عليه القرآن في معنى الآية ، وكل عمل أجاده عامله فقد فراه لغة ، ومنه قول الراجز وهو زرارة بن صعب بن دهر :


وقد أطعمتني دقلا حوليا مسوسا مدودا حجريا     قد كنت تفرين به الفريا

يعني : تعملين به العمل العظيم ، والظاهر أنه يقصد أنها تؤكله أكلا لما عظيما .

وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : ياأخت هارون ، ليس المراد به هارون بن [ ص: 414 ] عمران أخا موسى ، كما يظنه بعض الجهلة ، وإنما هو رجل آخر صالح من بني إسرائيل يسمى هارون ، والدليل على أنه ليس هارون أخا موسى ما رواه مسلم رحمه الله تعالى في صحيحه : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، ومحمد بن عبد الله بن نمير ، وأبو سعيد الأشج ، ومحمد بن المثنى العنزي - واللفظ لابن نمير - قالوا : حدثنا ابن إدريس عن أبيه ، عن سماك بن حرب ، عن علقمة بن وائل ، عن المغيرة بن شعبة قال : لما قدمت نجران سألوني فقالوا : إنكم تقرءون : ياأخت هارون ، وموسى قبل عيسى بكذا وكذا ، فلما قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم سألته عن ذلك فقال : " إنهم كانوا يسمون بأنبيائهم والصالحين قبلهم " اهـ ، هذا لفظ مسلم في الصحيح ، وهو دليل على أنه رجل آخر غير هارون أخي موسى ، ومعلوم أن هارون أخا موسى قبل مريم بزمن طويل ، وقال ابن حجر في ) الكافي الشاف في تخريج أحاديث الكشاف ( في قول الزمخشري : إنما عنوا هارون النبي ، ما نصه : لم أجده هكذا إلا عند الثعلبي بغير سند ، ورواه الطبري عن السدي قوله ، وليس بصحيح ، فإن عند مسلم والنسائي والترمذي عن المغيرة بن شعبة قال : بعثني النبي صلى الله عليه وسلم إلى نجران فقالوا لي : أرأيتم شيئا تقرءونه " ياأخت هارون " وبين موسى وعيسى ما شاء الله من السنين ، فلم أدر ما أجيبهم . فقال لي النبي صلى الله عليه وسلم : " هلا أخبرتهم أنهم كانوا يسمون بأسماء أنبيائهم والصالحين من قبلهم " وروى الطبري من طريق ابن سيرين : نبئت أن كعبا قال : إن قوله تعالى ياأخت هارون ، ليس بهارون أخي موسى ، فقالت له عائشة : كذبت . فقال لها : يا أم المؤمنين ، إن كان النبي صلى الله عليه وسلم قال فهو أعلم ، وإلا فإني أجد بينهما ستمائة سنة . انتهى كلام ابن حجر .

وقال صاحب الدر المنثور في قوله تعالى : ياأخت هارون : أخرج ابن أبي شيبة ، وأحمد وعبد بن حميد ، ومسلم والترمذي والنسائي ، وابن المنذر وابن أبي حاتم ، وابن حبان والطبراني ، وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن المغيرة بن شعبة قال : بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى نجران . . . ، إلى آخر الحديث كما تقدم آنفا ، وبهذا الحديث الصحيح الذي رأيت إخراج هؤلاء الجماعة له ، وقد قدمناه بلفظه عند مسلم في صحيحه تعلم أن قول من قال : إن المراد هارون أخو موسى ، باطل سواء قيل إنها أخته ، أو أن المراد بأنها أخته أنها من ذريته ، كما يقال للرجل : يا أخا تميم ، والمراد يا أخا بني تميم ; لأنه من ذرية تميم ، ومن هذا القبيل قوله : واذكر أخا عاد [ 46 \ 21 ] ; لأن هودا إنما قيل له أخو عاد لأنه من ذريته ، فهو أخو بني عاد ، وهم المراد بعاد في الآية ; لأن [ ص: 415 ] المراد بها القبيلة لا الجد ، وإذا حققت أن المراد بهارون في الآية غير هارون أخي موسى ، فاعلم أن بعض العلماء ، قال : إن لها أخا اسمه هارون ، وبعضهم يقول : إن هارون المذكور رجل من قومها مشهور بالصلاح ، وعلى هذا فالمراد بكونها أخته أنها تشبهه في العبادة والتقوى ، وإطلاق اسم الأخ على النظير المشابه معروف في القرآن وفي كلام العرب ، فمنه في القرآن قوله تعالى : وما نريهم من آية إلا هي أكبر من أختها الآية [ 43 \ 48 ] ، وقوله تعالى : إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين الآية [ 7 \ 27 ] ، وقوله تعالى : وإخوانهم يمدونهم في الغي ثم لا يقصرون [ 7 \ 202 ] ، ومنه في كلام العرب قوله :


وكل أخ يفارقه أخوه     لعمر أبيك إلا الفرقدان

فجعل الفرقدين أخوين .

وكثيرا ما تطلق العرب اسم الأخ على الصديق والصاحب ، ومن إطلاقه على الصاحب قول القلاخ بن حزن :


أخا الحرب لباسا إليها جلالها     وليس بولاج الخوالف أعقلا

فقوله : " أخا الحرب " يعني صاحبها .

ومنه قول الراعي ، وقيل لأبي ذؤيب :


عشية سعدى لو تراءت لراهب     بدومة تجر دونه وحجيج
قلى دينه واهتاج للشوق إنها     على النأي إخوان العزاء هيوج

فقوله " إخوان العزاء " يعني أصحاب الصبر .

التالي السابق


الخدمات العلمية