صفحة جزء
المسألة الخامسة

أما ترتيب الفوائت في أنفسها فأكثر أهل العلم على وجوبه مع الذكر لا مع النسيان ، وهو الأظهر . وقال الشافعي رحمه الله : لا يجب الترتيب فيها بل يندب ، وهو مروي عن طاوس والحسن البصري ومحمد بن الحسن وأبي ثور وداود .

وقال بعض أهل العلم : الترتيب واجب مطلقا ، قلت الفوائت أم كثرت ، وبه قال أحمد وزفر ، وعن أحمد رحمه الله : لو نسي الفوائت صحت الصلوات التي صلى بعدها ، وقال أحمد وإسحاق : لو [ ص: 459 ] ذكر فائتة وهو في حاضرة تمم التي هو فيها ثم قضى الفائتة ، ثم يجب إعادة الحاضرة ، واحتج لهم بحديث عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من نسي صلاة فلم يذكرها إلا وهو مع الإمام فإذا فرغ من صلاته فليعد الصلاة التي نسي ، ثم ليعد الصلاة التي صلاها مع الإمام " ، قال النووي في ) شرح المهذب ( وهذا حديث ضعيف ، ضعفه موسى بن هارون الحمال ) بالحاء ( الحافظ ، وقال أبو زرعة الرازي ، ثم البيهقي : الصحيح أنه موقوف .

قال مقيده عفا الله عنه : والأظهر عندي وجوب ترتيب الفوائت في أنفسها الأولى فالأولى ، والدليل على ذلك حديث أبي سعيد الخدري ، وحديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنهما ، قال النسائي في سننه : أخبرنا عمرو بن علي قال : حدثنا يحيى قال : حدثنا ابن أبي ذئب قال : حدثنا سعيد بن أبي سعيد ، عن عبد الرحمن بن أبي سعيد ، عن أبيه قال : شغلنا المشركون يوم الخندق عن صلاة الظهر حتى غربت الشمس ، وذلك قبل أن ينزل في القتال ما نزل ، فأنزل الله عز وجل : وكفى الله المؤمنين القتال [ 33 \ 25 ] ، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بلالا فأقام لصلاة الظهر فصلاها كما كان يصليها لوقتها ، ثم أقام العصر فصلاها كما كان يصليها في وقتها ، ثم أذن للمغرب فصلاها كما كان يصليها في وقتها . اهـ .

فهذا الإسناد صحيح كما ترى ، ورجاله ثقات معروفون ، فعمرو بن علي هو أبو حفص الفلاس وهو ثقة حافظ ، ويحيى هو القطان وجلالته معروفة ، وكذلك ابن أبي ذئب جلالته معروفة ، وسعيد بن سعيد هو المقبري وهو ثقة ، وعبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري ثقة ، فهذا إسناد صحيح كما ترى ، وفيه التصريح بأن النبي صلى الله عليه وسلم رتب الفوائت في القضاء : الأولى فالأولى .

وقد قدمنا أن أفعاله المجردة عن القرائن تقتضي الوجوب على الأصح ، وأن ذلك يعتضد بحديث مالك بن الحويرث الثابت في الصحيح : " صلوا كما رأيتموني أصلي " وحديث أبي سعيد هذا أخرجه أيضا الإمام أحمد ، قال الشوكاني في ) نيل الأوطار ( : ورجال إسناده رجال الصحيح ، وقال الشوكاني أيضا عن ابن سيد الناس اليعمري : إن حديث أبي سعيد رواه الطحاوي عن المزني عن الشافعي : حدثنا ابن أبي فديك ، عن ابن أبي ذئب ، عن المقبري ، عن عبد الرحمن بن أبي سعيد عن أبيه ، قال . وهذا إسناد صحيح جليل . اهـ .

وقال النسائي في سننه : أخبرنا هناد عن هشيم ، عن أبي الزبير ، عن نافع بن جبير ، عن أبي عبيدة ، قال : قال عبد الله : إن المشركين شغلوا النبي صلى الله عليه وسلم عن أربع صلوات يوم [ ص: 460 ] الخندق ، فأمر بلالا فأذن ، ثم أقام فصلى الظهر ، ثم أقام فصلى العصر ، ثم أقام فصلى المغرب ، ثم أقام فصلى العشاء . اهـ .

أخبرنا القاسم بن زكريا بن دينار قال : حدثنا حسين بن علي ، عن زائدة قال : حدثنا سعيد بن أبي عروبة قال : حدثنا هشام : أن أبا الزبير المكي حدثهم عن نافع بن جبير : أن أبا عبيدة بن عبد الله بن مسعود حدثهم أن عبد الله بن مسعود قال : كنا في غزوة فحبسنا المشركون عن صلاة الظهر والعصر والمغرب والعشاء ، فلما انصرف المشركون أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم مناديا فأقام لصلاة الظهر فصلينا ، وأقام لصلاة العصر فصلينا ، وأقام لصلاة المغرب فصلينا ، وأقام لصلاة العشاء فصلينا ، ثم طاف علينا فقال : " ما على الأرض عصابة يذكرون الله عز وجل غيركم " اهـ ، وحديث ابن مسعود هذا أخرجه الترمذي أيضا ، قال الشوكاني رحمه الله في ) نيل الأوطار ( : إن إسناده لا بأس به .

قال مقيده عفا الله عنه : والظاهر أن إسناد حديث ابن مسعود هذا لا يخلو من ضعف ; لأن راويه عنه ابنه أبو عبيدة ، وروايته عنه مرسلة لأنه لم يسمع منه ، ولكن هذا المرسل يعتضد بحديث أبي سعيد الذي قدمنا آنفا أنه صحيح ، ومن يحتج من العلماء بالمرسل يحتج به ولو لم يعتضد بغيره .

واعلم أن حديث أبي سعيد وابن مسعود المذكورين لا يعارضهما ما في الصحيحين من كونهم شغلوهم عن العصر وحدها ; لأن ما فيهما زيادة ، وزيادة العدول مقبولة ) ومن حفظ حجة على من لم يحفظ ( وبه تعلم أن ما ذكره ابن العربي من تقديم ما في الصحيحين على الزيادة التي في حديث أبي سعيد وابن مسعود خلاف التحقيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية