صفحة جزء
مسائل تتعلق بهذه الآية الكريمة .

المسألة الأولى

اعلم أن هذا الدليل الذي هو السبر والتقسيم تكرر وروده في القرآن العظيم ، وقد ذكرنا الآن مثالين لذلك أحدهما في " البقرة " والثاني في " مريم " كما أوضحناه آنفا ، وذكر السيوطي في الإتقان في كلامه على جدل القرآن مثالا واحدا للسبر والتقسيم ، ومضمون المثال الذي ذكره باختصار ، هو ما تضمنه قوله تعالى : ثمانية أزواج من الضأن اثنين ومن المعز اثنين الآيتين [ 6 \ 143 ] ، فكأن الله يقول للذين حرموا بعض الإناث كالبحائر والسوائب دون بعضها ، وحرموا بعض الذكور كالحامي دون بعضها : لا يخلو تحريمكم لبعض ما ذكر دون بعضه من أن يكون معللا بعلة معقولة أو تعبديا ، وعلى أنه معلل بعلة فإما أن تكون العلة في المحرم من الإناث الأنوثة ، ومن الذكور الذكورة ، أو تكون العلة فيهما معا التخلق في الرحم ، واشتمالها عليهما ، هذه هي الأقسام التي يمكن ادعاء إناطة الحكم بها ، ثم بعد حصر الأوصاف بهذا التقسيم نرجع إلى سبر الأقسام المذكورة ، أي : اختبارها ليتميز الصحيح من الباطل فنجدها كلها باطلة بالسبر الصحيح ; لأن كون العلة الذكورة يقتضي تحريم كل ذكر وأنتم تحلون بعض الذكور ، فدل ذلك على بطلان التعليل بالذكورة لقادح النقض الذي هو عدم الاطراد ، وكون العلة الأنوثة يقتضي تحريم كل أنثى كما ذكرنا فيما قبله ، وكون العلة اشتمال الرحم عليهما يقتضي تحريم [ ص: 494 ] الجميع ، وإلى هذا الإبطال أشار تعالى بقوله : قل آلذكرين حرم أم الأنثيين أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين [ 6 \ 144 ] ، أي : فلو كانت العلة الذكورة لحرم كل ذكر ، ولو كانت الأنوثة لحرمت كل أنثى ، ولو كانت اشتمال الرحم عليهما لحرم الجميع ، وكون ذلك تعبديا يقتضي أن الله وصاكم به بلا واسطة ، إذ لم يأتكم منه رسول بذلك ، فدل ذلك على أنه باطل أيضا ، وأشار تعالى إلى بطلانه بقوله : أم كنتم شهداء إذ وصاكم الله بهذا [ 6 \ 144 ] ، ثم بين أن ذلك التحريم بغير دليل من أشنع الظلم ، وأنه كذب مفترى وإضلال ، بقوله : فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا ليضل الناس بغير علم إن الله لا يهدي القوم الظالمين [ 6 \ 144 ] ، ثم أكد عدم التحريم في ذلك بقوله : قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس أو فسقا أهل لغير الله به [ 6 \ 145 ] .

والحاصل أن إبطال جميع الأوصاف المذكورة دليل على بطلان الحكم المذكور كما أوضحنا ، ومن أمثلة السبر والتقسيم في القرآن قوله تعالى : أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون [ 52 \ 35 ] ، فكأنه تعالى يقول : لا يخلو الأمر من واحدة من ثلاث حالات بالتقسيم الصحيح ، الأولى : أن يكونوا خلقوا من غير شيء أي : بدون خالق أصلا ، الثانية : أن يكونوا خلقوا أنفسهم ، الثالثة : أن يكون خلقهم خالق غير أنفسهم ، ولا شك أن القسمين الأولين باطلان ، وبطلانهما ضروري كما ترى ، فلا حاجة إلى إقامة الدليل عليه لوضوحه ، والثالث هو الحق الذي لا شك فيه ، أنه هو جل وعلا خالقهم المستحق منهم أن يعبدوه وحده جل وعلا .

واعلم أن المنطقيين والأصوليين والجدليين كل منهم يستعملون هذا الدليل في غرض ليس هو غرض الآخر من استعماله ، إلا أن استعماله عند الجدليين أعم من استعماله عند المنطقيين والأصوليين .

التالي السابق


الخدمات العلمية