صفحة جزء
قوله تعالى : لا يملكون الشفاعة إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا [ 19 \ 87 ] .

قد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك : أن من أنواع البيان التي تضمنها أن يكون في الآية وجهان أو أوجه من التفسير كلها حق ، وكل واحد منها يشهد له قرآن ، فإنا نذكر الجميع وأدلته من كتاب الله تعالى ; لأنه كله حق ، فإذا علمت ذلك فاعلم أن هذه الآية الكريمة من ذلك النوع ، قال بعض أهل العلم : الواو في قوله : لا يملكون راجعة إلى المجرمين المذكورين في قوله : ونسوق المجرمين إلى جهنم أي : لا يملك المجرمون الشفاعة ، أي : لا يستحقون أن يشفع فيهم شافع يخلصهم مما هم فيه من الهول والعذاب .

وهذا الوجه من التفسير تشهد له آيات من كتاب الله ، كقوله تعالى : فما تنفعهم شفاعة الشافعين [ 74 \ 48 ] ، وقوله تعالى : فما لنا من شافعين ولا صديق حميم [ 26 \ 100 - 101 ] وقوله تعالى : وأنذرهم يوم الآزفة إذ القلوب لدى الحناجر كاظمين ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع الآية [ 40 \ 18 ] وقوله : ولا يشفعون إلا لمن ارتضى [ 21 \ 28 ] مع قوله : ولا يرضى لعباده الكفر [ 39 \ 7 ] إلى غير ذلك من الآيات .

وهذا الوجه يفهم منه بالأحرى أن المجرمين لا يشفعون في غيرهم ; لأنهم إذا كانوا لا يستحقون أن يشفع فيهم غيرهم لكفرهم فشفاعتهم في غيرهم ممنوعة من باب أولى ، وعلى كون الواو في لا يملكون راجعة إلى المجرمين فالاستثناء منقطع و " من " في محل نصب ، والمعنى : لكن من اتخذ عند الرحمن عهدا يملكون الشفاعة ، أي : بتمليك الله إياهم وإذنه لهم فيملكون الشفاعة بما ذكرنا ويستحقها به المشفوع لهم ، قال تعالى : من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه [ 2 \ 255 ] وقال : ولا يشفعون إلا لمن ارتضى [ 21 \ 28 ] وقال : وكم من ملك في السماوات لا تغني شفاعتهم شيئا إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى [ 53 \ 26 ] .

[ ص: 516 ] وقال بعض أهل العلم : الواو في قوله : لا يملكون الشفاعة راجعة إلى " المتقين " ، " والمجرمين " جميعا المذكورين في قوله : يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا ونسوق المجرمين إلى جهنم وردا ، وعليه فالاستثناء في قوله : إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا [ 19 \ 87 ] متصل ، و من بدل من الواو في " لا يملكون " ، أي : لا يملك من جميعهم أحد الشفاعة إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا وهم المؤمنون ، والعهد : العمل الصالح والقول بأنه لا إله إلا الله ، وغيره من الأقوال يدخل في ذلك ، أي : إلا المؤمنون فإنهم يشفع بعضهم في بعض ، كما قال تعالى : يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن ورضي له قولا [ 20 \ 109 ] ، وقد بين تعالى في مواضع أخر : أن المعبودات التي يعبدونها من دون الله لا تملك الشفاعة ، وأن من شهد بالحق يملكها بإذن الله له في ذلك ، وهو قوله تعالى : ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة إلا من شهد بالحق الآية [ 43 \ 86 ] ، أي : لكن من شهد بالحق يشفع بإذن الله له في ذلك ، وقال تعالى : ويوم تقوم الساعة يبلس المجرمون ولم يكن لهم من شركائهم شفعاء الآية [ 30 \ 12 - 13 ] وقال تعالى : ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله قل أتنبئون الله بما لا يعلم الآية [ 10 \ 18 ] ، والأحاديث في الشفاعة وأنواعها كثيرة معروفة ، والعلم عند الله تعالى .

وفي إعراب جملة لا يملكون وجهان ، الأول : أنها حالية ، أي : نسوق المجرمين إلى جهنم في حال كونهم لا يملكون الشفاعة ، أو : نحشر المتقين ونسوق المجرمين في حال كونهم لا يملكون الشفاعة إلا من اتخذ منهم عند الرحمن عهدا ، والثاني أنها مستأنفة للإخبار ، حكاه أبو حيان في البحر ، ومن أقوال العلماء في العهد المذكور في الآية : أنه المحافظة على الصلوات الخمس ، واستدل من قال ذلك بحديث عبادة بن الصامت الذي قدمناه عند الكلام على قوله تعالى فخلف من بعدهم خلف الآية [ 19 \ 59 ] .

وقال بعضهم : العهد المذكور : هو أن يقول العبد كل صباح ومساء : اللهم فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة ، إني أعهد إليك في هذه الحياة بأني أشهد أن لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك ، وأن محمدا عبدك ورسولك ، فلا تكلني إلى نفسي ، فإنك إن تكلني إلى نفسي تباعدني من الخير وتقربني من الشر ، وإني لا أثق إلا برحمتك ، [ ص: 517 ] فاجعل لي عندك عهدا توفينيه يوم القيامة ، إنك لا تخلف الميعاد ، فإذا قال ذلك طبع الله عليها طابعا ووضعها تحت العرش ، فإذا كان يوم القيامة نادى مناد : أين الذين لهم عند الله عهد ؟ فيقوم فيدخل الجنة . انتهى ، ذكره القرطبي بهذا اللفظ مرفوعا عن ابن مسعود ، وذكر صاحب الدر المنثور أنه أخرجه ابن أبي شيبة ، وابن أبي حاتم ، والطبراني ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه عن ابن مسعود موقوفا عليه ، وليس فيه قوله : فإذا قال ذلك . . . إلخ ، وذكر صاحب الدر المنثور أيضا : أن الحكيم الترمذي أخرج نحوه مرفوعا عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه ، والظاهر أن المرفوع لا يصح ، والذي يظهر لي أن العهد في الآية يشمل الإيمان بالله وامتثال أمره واجتناب نهيه ، خلافا لمن زعم أن العهد في الآية كقول العرب : عهد الأمير إلى فلان بكذا ، أي : أمره به ، أي : لا يشفع إلا من أمره الله بالشفاعة ، فهذا القول ليس صحيحا في المراد بالآية وإن كان صحيحا في نفسه ، وقد دلت على صحته آيات من كتاب الله ، كقوله تعالى : من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه [ 2 \ 255 ] ، وقوله : وكم من ملك في السماوات لا تغني شفاعتهم شيئا إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى [ 53 \ 26 ] ، وقوله : ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له [ 34 \ 23 ] ، وقوله : يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن الآية [ 20 \ 109 ] ، وقوله تعالى : وقالوا اتخذ الله ولدا الآيات [ 2 \ 116 ] ، وقد تكلمنا عليها وعلى الآيات التي بمعناها في القرآن في مواضع متعددة ، فأغنى ذلك عن إعادته هنا .

التالي السابق


الخدمات العلمية