صفحة جزء
قوله تعالى إذ تمشي أختك فتقول هل أدلكم على من يكفله فرجعناك إلى أمك كي تقر عينها ولا تحزن

.

اختلف في العامل الناصب للظرف الذي هو " إذ " من قوله إذ تمشي أختك فقيل : هو " ألقيت " أي ألقيت عليك محبة مني حين تمشي أختك . وقيل : هو " تصنع " أي " تصنع على عيني " حين تمشي أختك . وقيل : هو بدل من " إذ " في قوله إذ أوحينا إلى أمك [ 20 38 ] .

قال الزمخشري : فإن قلت : كيف يصح البدل ، والوقتان مختلفان متباعدان ؟ قلت : كما يصح وإن اتسع الوقت وتباعد طرفاه أن يقول لك الرجل : لقيت فلانا سنة كذا . فتقول : وأنا لقيته إذ ذاك . وربما لقيه هو في أولها وأنت في آخرها .

وهذا الذي ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة : من كون أخته مشت إليهم ، وقالت لهم هل أدلكم على من يكفله أوضحه جل وعلا في سورة " القصص " فبين أن أخته المذكورة مرسلة من قبل أمها لتتعرف خبره بعد ذهابه في البحر ، وأنها أبصرته من بعد وهم لا يشعرون بذلك . وأن الله حرم عليه المراضع غير أمه تحريما كونيا قدريا . فقالت لهم أخته هل أدلكم على من يكفله أي على مرضع يقبل هو ثديها وتكفله لكم بنصح وأمانة وذلك في قوله تعالى : وقالت لأخته قصيه فبصرت به عن جنب وهم لا يشعرون وحرمنا عليه المراضع من قبل فقالت هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم وهم له ناصحون فرددناه إلى أمه كي تقر عينها ولا تحزن ولتعلم أن وعد الله حق ولكن أكثرهم لا يعلمون [ 28 11 - 13 ] [ ص: 11 ] فقوله تعالى في آية " القصص " هذه وقالت لأخته أي قالت أم موسى لأخته وهي ابنتها قصيه أي اتبعي أثره ، وتطلبي خبره حتى تطلعي على حقيقة أمره .

وقوله : فبصرت به عن جنب أي رأته من بعيد كالمعرضة عنه ، تنظر إليه وكأنها لا تريده وهم لا يشعرون بأنها أخته جاءت لتعرف خبره فوجدته ممتنعا من أن يقبل ثدي مرضعة ، لأن الله يقول : وحرمنا عليه المراضع أي تحريما كونيا قدريا ، أي منعناه منها ليتيسر بذلك رجوعه إلى أمه ، لأنه لو قبل غيرها أعطوه لذلك الغير الذي قبله ليرضعه ويكفله فلم يرجع إلى أمه . وعن ابن عباس : أنه لما قالت لهم هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم وهم له ناصحون أخذوها وشكوا في أمرها وقالوا لها : ما يدريك بنصحهم له وشفقتهم عليه ؟

فقالت لهم : نصحهم له ، وشفقتهم عليه رغبة في سرور الملك ، ورجاء منفعته ، فأرسلوها . فلما قالت لهم ذلك وخلصت من أذاهم ، ذهبوا معها إلى منزلهم فدخلوا به على أمه فأعطته ثديها فالتقمه ففرحوا بذلك فرحا شديدا وذهب البشير إلى امرأة الملك فاستدعت أم موسى ، وأحسنت إليها ، وأعطتها عطاء جزيلا وهي لا تعرف أنها أمه في الحقيقة ، ولكن لكونه قبل ثديها . ثم سألتها " آسية " أن تقيم عندها فترضعه فأبت عليها وقالت : إن لي بعلا وأولادا ، ولا أقدر على المقام عندك ، ولكن إن أحببت أن أرضعه في بيتي فعلت فأجابتها امرأة فرعون إلى ذلك ، وأجرت عليها النفقة ، والصلات ، والكساوى ، والإحسان الجزيل . فرجعت أم موسى بولدها قد أبدلها الله بعد خوفها أمنا في عز وجاه ، ورزق دار . ا ه من ابن كثير .

وقوله تعالى في آية " القصص " : ولتعلم أن وعد الله حق [ 28 13 ] وعد الله المذكور هو قوله : ولا تخافي ولا تحزني إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين [ 28 7 ] ، والمؤرخون يقولون : إن أخت موسى المذكورة اسمها " مريم " وقوله كي تقر عينها إن قلنا فيه : إن " كي " حرف مصدري فاللام محذوفة ، أي لكي تقر . وإن قلنا : إنها تعليلية ، فالفعل منصوب بأن مضمرة . وقوله تقر عينها قيل : أصله من القرار . لأن ما يحبه الإنسان تسكن عينه عليه ، ولا تنظر إلى غيره : كما قال أبو الطيب :


وخصر تثبت الأبصار فيه كأن عليه من حدق نطاقا



[ ص: 12 ] وقيل : أصله من القر بضم القاف وهو البرد ، تقول العرب : يوم قر بالفتح أي بارد ، ومنه قول امرئ القيس :

تميم بن مر وأشياعها     وكندة حولي جميعا صبر
إذا ركبوا الخيل واستلأموا     تحرقت الأرض واليوم قر



ومنه أيضا قول حاتم الطائي الجواد :


أوقد فإن الليل ليل قر     والريح يا واقد ريح صر
عل يرى نارك من يمر     إن جلبت ضيفا فأنت حر



وعلى هذا القول : فقرة العين من بردها . لأن عين المسرور باردة ، ودمع البكاء من السرور بارد جدا ، بخلاف عين المحزون فإنها حارة ، ودمع البكاء من الحزن حار جدا . ومن أمثال العرب : أحر من دمع المقلات . وهي التي لا يعيش لها ولد ، فيشتد حزنها لموت أولادها فتشتد حرارة دمعها لذلك .

التالي السابق


الخدمات العلمية