صفحة جزء
وفي القاموس : وعدة المرأة أيام أقرائها ، وأيام إحدادها على الزوج ، وهو تصريح منه بأن العدة هي نفس القروء لا شيء زائد عليها ، وفي اللسان : وعدة المرأة أيام أقرائها ، وعدتها أيضا أيام إحدادها على بعلها ، وإمساكها عن الزينة شهورا كان أو أقراء أو وضع حمل حملته من زوجها .

فهذا بيان بالغ من الصحة والوضوح والصراحة في محل النزاع ، ما لا حاجة معه إلى كلام آخر . وتؤيده قرينة زيادة التاء في قوله : ثلاثة قروء لدلالتها على تذكير المعدود وهو الأطهار ; لأنها مذكرة والحيضات مؤنثة .

وجواب بعض العلماء عن هذا بأن لفظ القرء مذكر ومسماه مؤنث وهو الحيضة ، [ ص: 99 ] وأن التاء إنما جيء بها مراعاة للفظ وهو مذكر لا للمعنى المؤنث .

يقال فيه : إن اللفظ إذا كان مذكرا ، ومعناه مؤنثا لا تلزم التاء في عدده ، بل تجوز فيه مراعاة المعنى ، فيجرد العدد من التاء كقول عمر بن أبي ربيعة المخزومي : [ الطويل ]

وكان مجني دون من كنت أتقي ثلاث شخوص كاعبان ومعصر



فجرد لفظ الثلاث من التاء ; نظرا إلى أن مسمى العدد نساء ، مع أن لفظ الشخص الذي أطلقه على الأنثى مذكر ، وقول الآخر : [ الطويل ]

وإن كلابا هذه عشر أبطن     وأنت بريء من قبائلها العشر



فمجرد العدد من التاء مع أن البطن مذكر ; نظرا إلى معنى القبيلة ، وكذلك العكس ، كقوله : [ الوافر ]

ثلاثة أنفس وثلاث ذود     لقد عال الزمان على عيالي



فإنه قد ذكر لفظ الثلاثة مع أن الأنفس مؤنثة لفظا ; نظرا إلى أن المراد بها أنفس ذكور ، وتجوز مراعاة اللفظ فيجرد من التاء في الأخير ، وتلحقه التاء في الأول ، ولحوقها إذن مطلق احتمال ، ولا يصح الحمل عليه دون قرينة تعينه ، بخلاف عدد المذكر لفظا ومعنى ، كالقرء بمعنى الطهر ، فلحوقها له لازم بلا شك ، واللازم الذي لا يجوز غيره أولى بالتقديم من المحتمل الذي يجوز أن يكون غيره بدلا عنه ، ولم تدل عليه قرينة كما ترى .

فإن قيل ذكر بعض العلماء : أن العبرة في تذكير واحد المعدود وتأنيثه إنما هي باللفظ ، ولا تجوز مراعاة المعنى إلا إذا دلت عليه قرينة ، أو كان قصد ذلك المعنى كثيرا ، والآية التي نحن بصددها ليس فيها أحد الأمرين ، قال الأشموني في شرح قول ابن مالك : [ الرجز ]

ثلاثة بالتاء قل للعشره     في عد ما آحاده مذكره



في الضد جرد إلخ . . . ما نصه : الثاني اعتبار التأنيث في واحد المعدود إن كان اسما فبلفظه ، تقول : ثلاثة أشخص ، قاصدا " نسوة " ، وثلاث أعين قاصدا " رجال " ; لأن لفظ شخص مذكر ، ولفظ عين مؤنث ، هذا ما لم يتصل بالكلام ما يقوي المعنى ; أو يكثر فيه قصد المعنى . فإن اتصل به ذلك جاز مراعاة المعنى ، فالأول كقوله : [ ص: 100 ]

ثلاث شخوص كاعبان ومعصر



وكقوله : وإن كلابا . . البيت .

والثاني كقوله :

ثلاثة أنفس وثلاث ذود

. ا هـ منه .

وقال الصبان في " حاشيته " عليه : وبما ذكره الشارح يرد ما استدل به بعض العلماء في قوله تعالى : ثلاثة قروء [ 2 \ 228 ] . بأربعة شهداء [ 24 \ 4 ] على أن الأقراء الأطهار لا الحيض ، وعلى أن شهادة النساء غير مقبولة ; لأن الحيض جمع حيضة ; فلو أريد الحيض لقيل ثلاث ، ولو أريد النساء لقيل بأربع .

ووجه الرد أن المعتبر هنا اللفظ ، ولفظ قرء وشهيد مذكرين ، منه بلفظه .

فالجواب والله تعالى أعلم أن هذا خلاف التحقيق ، والذي يدل عليه استقراء اللغة العربية جواز مراعاة المعنى مطلقا ، وجزم بجواز مراعاة المعنى في لفظ العدد ابن هشام ، نقله عنه السيوطي ، بل جزم صاحب " التسهيل " وشارحه الدماميني : بأن مراعاة المعنى في واحد المعدود متعينة .

قال الصبان في " حاشيته " ، ما نصه : قوله فبلفظه ظاهره : أن ذلك على سبيل الوجوب ، ويخالفه ما نقله السيوطي عن ابن هشام وغيره من أن ما كان لفظه مذكرا ، ومعناه مؤنثا ، أو بالعكس ، فإنه يجوز فيه وجهان ا ه .

ويخالفه أيضا ما في " التسهيل " وشرحه للدماميني . وعبارة " التسهيل " تحذف تاء الثلاثة وأخواتها ، إن كان واحد المعدود مؤنث المعنى حقيقة أو مجازا .

قال الدماميني : استفيد منه أن الاعتبار في الواحد بالمعنى لا باللفظ ، فلهذا يقال : ثلاثة طلحات ، ثم قال في " التسهيل " وربما أول مذكر بمؤنث ، ومؤنث بمذكر ، فجيء بالعدد على حسب التأويل ، ومثل الدماميني الأول بنحو ثلاث شخوص ، يريد نسوة وعشر وأبطن يريد قبائل .

والثاني بنحو ثلاثة أنفس ؛ أي : أشخاص وتسعة وقائع أي : مشاهد ، فتأمل . انتهى منه بلفظه . وما جزم به صاحب " التسهيل " وشارحه ، من تعين مراعاة المعنى ، يلزم عليه تعين كون القرء في الآية هو الطهر ، كما ذكرنا .

وفي " حاشية الصبان " أيضا ما نصه : قوله جاز مراعاة المعنى في التوضيح أن [ ص: 101 ] ذلك ليس قياسيا ، وهو خلاف ما تقدم عن ابن هشام وغيره ، من أن ما كان لفظه مذكرا ومعناه مؤنثا أو بالعكس ، يجوز فيه وجهان ؛ أي : ولو لم يكن هناك مرجح للمعنى ، وهو خلاف ما تقدم عن [ التسهيل ] وشرحه أن العبرة بالمعنى ، فتأمل . ا ه منه .

وأما الاستدلال على أنها الحيضات بقوله تعالى : واللائي يئسن من المحيض الآية [ 65 \ 4 ] ، فيقال فيه : إنه ليس في الآية ما يعين أن القروء الحيضات ; لأن الأقراء لا تقال في الأطهار إلا في الأطهار التي يتخللها حيض ، فإن عدم الحيض عدم معه اسم الأطهار ، ولا مانع إذن من ترتيب الاعتداد بالأشهر على عدم الحيض مع كون العدة بالطهر ; لأن الطهر المراد يلزمه وجود الحيض وإذا انتفى اللازم انتفى الملزوم ، فانتفاء الحيض يلزمه انتفاء الأطهار فكأن العدة بالأشهر مرتبة أيضا على انتفاء الأطهار ، المدلول عله بانتفاء الحيض . وأما الاستدلال بآية : ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن فهو ظاهر السقوط ; لأن كون القروء الأطهار لا يبيح للمعتدة كتم الحيض ; لأن العدة بالأطهار لا تمكن إلا بتخلل الحيض لها ، فلو كتمت الحيض لكانت كاتمة انقضاء الطهر ، ولو ادعت حيضا لم يكن كانت كاتمة ; لعدم انقضاء الطهر كما هو واضح .

وأما الاستدلال بحديث " دعي الصلاة أيام أقرائك " فيقال فيه : إنه لا دليل في الحديث البتة على محل النزاع ; لأنه لا يفيد شيئا زائدا على أن القرء يطلق على الحيض ، وهذا مما لا نزاع فيه .

أما كونه يدل على منع إطلاق القرء في موضع آخر على الطهر فهذا باطل بلا نزاع ، ولا خلاف بين العلماء القائلين : بوقوع الاشتراك في : أن إطلاق المشترك على أحد معنييه في موضع ، لا يفهم منه منع إطلاقه على معناه الآخر في موضع آخر .

ألا ترى أن لفظ العين مشترك بين الباصرة والجارية مثلا ، فهل تقول إن إطلاقه تعالى لفظ العين على الباصرة في قوله : وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين الآية [ 5 \ 45 ] يمنع إطلاق العين في موضع آخر على الجارية ، كقوله : فيها عين جارية [ 88 \ 12 ] .

والحق الذي لا شك فيه أن المشترك يطلق على كل واحد من معنييه ، أو معانيه في الحال المناسبة لذلك ، والقرء في حديث " دعي الصلاة أيام أقرائك " مناسب للحيض [ ص: 102 ] دون الطهر ; لأن الصلاة إنما تترك في وقت الحيض دون وقت الطهر .

ولو كان إطلاق المشترك على أحد معنييه يفيد منع إطلاقه على معناه الآخر في موضع آخر ، لم يكن في اللغة اشتراك أصلا ; لأنه كل ما أطلقه على أحدهما منع إطلاقه له على الآخر ، فيبطل اسم الاشتراك من أصله مع أنا قدمنا تصريح النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث ابن عمر المتفق عليه : " بأن الطهر هو العدة " وكل هذا على تقدير صحة حديث " دعي الصلاة أيام أقرائك " لأن من العلماء من ضعفه ، ومنهم من صححه .

والظاهر أن بعض طرقه لا يقل عن درجة القبول ، إلا أنه لا دليل فيه لمحل النزاع .

ولو كان فيه لكان مردودا بما هو أقوى منه وأصرح في محل النزاع ، وهو ما قدمنا . وكذلك اعتداد الأمة بحيضتين على تقرير ثبوته عنه صلى الله عليه وسلم ، لا يعارض ما قدمنا ; لأنه أصح منه وأصرح في محل النزاع ، واستبراؤها بحيضة مسألة أخرى ; لأن الكلام في العدة لا في الاستبراء . ورد بعض العلماء الاستدلال بالآية والحديث الدالين على أنها الأطهار ، بأن ذلك يلزمه الاعتداد بالطهر الذي وقع فيه الطلاق كما عليه جمهور القائلين : بأن القروء الأطهار ، فيلزم عليه كون العدة قرءين وكسرا من الثالث ، وذلك خلاف ما دلت عليه الآية من أنها ثلاثة قروء كاملة مردود بأن مثل هذا لا تعارض به نصوص الوحي الصريحة ، وغاية ما في الباب إطلاق ثلاثة قروء على اثنين وبعض الثالث ، ونظيره قوله : الحج أشهر معلومات والمراد شهران وكسر .

وادعاء أن ذلك ممنوع في أسماء العدد يقال فيه : إن النبي - صلى الله عليه وسلم - هو الذي ذكر إن بقية الطهر الواقع فيه الطلاق عدة ، مبينا أن ذلك مراد الله في كتابه ، وما ذكره بعض أجلاء العلماء - رحمهم الله - من أن الآية والحديث المذكورين يدلان على أن الأقراء الحيضات بعيد جدا من ظاهر اللفظ كما ترى .

بل لفظ الآية والحديث المذكورين صريح في نقيضه ، هذا هو ما ظهر لنا في هذه المسألة والله تعالى أعلم ، ونسبة العلم إليه أسلم .

قوله تعالى : وبعولتهن أحق بردهن في ذلك إن أرادوا إصلاحا [ 2 \ 228 ] ظاهر هذه الآية الكريمة أن أزواج كل المطلقات أحق بردهن ، لا فرق في ذلك بين رجعية وغيرها .

[ ص: 103 ] ولكنه أشار في موضع آخر إلى أن البائن لا رجعة له عليها ، وذلك في قوله تعالى : الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها [ 33 \ 49 ] .

وذلك لأن الطلاق قبل الدخول بائن ، كما أنه أشار هنا إلى أنها إذا بانت بانقضاء العدة لا رجعة له عليها ، وذلك في قوله تعالى : وبعولتهن أحق بردهن في ذلك ; لأن الإشارة بقوله : ( ذلك ) راجعة إلى زمن العدة المعبر عنه في الآية بـ ثلاثة قروء .

واشترط هنا في كون بعولة الرجعيات أحق بردهن إرادتهم الإصلاح بتلك الرجعة ، في قوله : إن أرادوا إصلاحا ولم يتعرض لمفهوم هذا الشرط هنا ، ولكنه صرح في مواضع أخر أن زوج الرجعية إذا ارتجعها لا بنية الإصلاح بل بقصد الإضرار بها ; لتخالعه أو نحو ذلك ، أن رجعتها حرام عليه ، كما هو مدلول النهي في قوله تعالى : ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه ولا تتخذوا آيات الله هزوا [ 2 \ 231 ] .

فالرجعة بقصد الإضرار حرام إجماعا ، كما دل عليه مفهوم الشرط المصرح به في قوله : ولا تمسكوهن ضرارا الآية ، وصحة رجعته حينئذ باعتبار ظاهر الأمر ، فلو صرح للحاكم بأنه ارتجعها بقصد الضرر ، لأبطل رجعته كما ذكرنا ، والعلم عند الله تعالى .

التالي السابق


الخدمات العلمية