صفحة جزء
المسألة السادسة

اعلم أن العلماء اختلفوا في الساحر هل يقتل بمجرد فعله للسحر واستعماله له أو لا ؟ قال ابن كثير في تفسيره : قال ابن هبيرة : وهل يقتل بمجرد فعله واستعماله له ؟ فقال مالك وأحمد : نعم . وقال الشافعي ، وأبو حنيفة : لا . فأما إن قتل بسحره إنسانا فإنه [ ص: 51 ] يقتل عند مالك ، والشافعي وأحمد . وقال أبو حنيفة : لا يقتل حتى يتكرر منه ذلك ، أو يقر بذلك في حق شخص معين . وإذا قتل فإنه يقتل حدا عندهم إلا الشافعي فإنه قال : يقتل ، والحالة هذه قصاصا .

وهل إذا تاب الساحر تقبل توبته ؟ فقال مالك ، وأبو حنيفة وأحمد في المشهور عنهم : لا تقبل . وقال الشافعي وأحمد في الرواية الأخرى : تقبل التوبة .

وأما ساحر أهل الكتاب فعند أبي حنيفة أنه يقتل كما يقتل الساحر المسلم . وقال مالك والشافعي وأحمد : لا يقتل . يعني لقصة لبيد بن الأعصم .

واختلفوا في المسلمة الساحرة . فعند أبي حنيفة أنها لا تقتل ، ولكن تحبس . وقال الثلاثة : حكمها حكم الرجل . وقال أبو بكر الخلال : أخبرنا أبو بكر المروزي قال : قرأ على أبي عبد الله - يعني أحمد بن حنبل - عمر بن هارون أخبرنا يونس عن الزهري قال : يقتل ساحر المسلمين ، ولا يقتل ساحر المشركين . لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سحرته امرأة من اليهود فلم يقتلها . وقد نقل القرطبي عن مالك أنه قال في الذمي : يقتل إن قتل بسحره . وحكى ابن خويز منداد عن مالك روايتين في الذمي إذا سحر : إحداهما أنه يستتاب فإن أسلم وإلا قتل : والثانية أنه يقتل وإن أسلم .

وأما الساحر المسلم فإن تضمن سحره كفرا كفر عند الأئمة الأربعة ، وغيرهم ، لقوله تعالى : وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر [ 2 102 ] لكن قال مالك : إذا ظهر عليه لم تقبل توبته . لأنه كالزنديق فإن تاب قبل أن يظهر عليه وجاء تائبا قبلناه . فإن قتل سحره قتل . قال الشافعي فإن قال لم أتعمد القتل فهو مخطئ تجب عليه الدية انتهى كلام ابن كثير رحمه الله تعالى .

وقال النووي في شرح مسلم : وأما تعلمه وتعليمه فحرام ، فإن تضمن ما يقتضي الكفر كفر وإلا فلا . وإذا لم يكن فيه ما يقتضي الكفر عزر واستتيب منه ، ولا يقتل عندنا ، فإن تاب قبلت توبته . وقال مالك : الساحر كافر يقتل بالسحر ، ولا يستتاب ، ولا تقبل توبته بل يتحتم قتله : والمسألة مبنية على الخلاف في قبول توبة الزنديق ، لأن الساحر عنده كافر كما ذكرنا ، وعندنا ليس بكافر ، وعندنا تقبل توبة المنافق ، والزنديق . وقال القاضي عياض : وبقول مالك قال أحمد بن حنبل ، وهو مروي عن جماعة من الصحابة ، والتابعين . قال أصحابنا : فإذا قتل الساحر بسحره إنسانا واعترف أنه مات بسحره وأنه يقتل غالبا لزمه القصاص . وإن قال مات به ولكنه قد يقتل وقد لا يقتل فلا قصاص ، وتجب الدية في ماله [ ص: 52 ] لا على عاقلته . لأن العاقلة لا تحمل ما ثبت باعتراف الجاني . وقال أصحابنا : ولا يتصور القتل بالسحر بالبينة ، وإنما يتصور باعتراف الساحر ، والله أعلم . انتهى كلام النووي .

وقال ابن حجر في فتح الباري في الكلام على قول البخاري : ( باب السحر ) وقول الله تعالى : ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر [ 2 102 ] : وقد استدل بهذه الآية على أن السحر كفر ومتعلمه كافر ، وهو واضح في بعض أنواعه التي قدمتها ، وهو التعبد للشياطين أو الكواكب . وأما النوع الآخر الذي هو من باب الشعوذة فلا يكفر من تعلمه أصلا .

قال النووي . عمل السحر حرام ، وهو من الكبائر بالإجماع ، وقد عده النبي - صلى الله عليه وسلم - من السبع الموبقات ، ومنه ما يكون كفرا . ومنه ما لا يكون كفرا ، بل معصية كبيرة . فإن كان فيه قول أو فعل يقتضي الكفر فهو كفر وإلا فلا . وأما تعلمه وتعليمه فحرام ، إلى آخر كلام النووي الذي ذكرناه عنه آنفا . ثم إن ابن حجة لما نقله عنه قال : وفي المسألة اختلاف كبير وتفاصيل ليس هذا موضع بسطها ا ه .

قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : التحقيق في هذه المسألة إن شاء الله تعالى أن السحر نوعان كما تقدم ؟ منه ما هو كفر ، ومنه ما لا يبلغ بصاحبه الكفر ، فإن كان الساحر استعمل السحر الذي هو كفر فلا شك في أنه يقتل كفرا ؟ لقوله - صلى الله عليه وسلم - : " من بدل دينه فاقتلوه " .

وأظهر القولين عندي في استتابته أنه يستتاب ، فإن تاب قبلت توبته . وقد بينت في كتابي ( دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب ) في سورة " آل عمران " أن أظهر القولين دليلا أن الزنديق تقبل توبته ؟ لأن الله لم يأمر نبيه ، ولا أمته - صلى الله عليه وسلم - بالتنقيب عن قلوب الناس ؟ بل بالاكتفاء بالظاهر . وما يخفونه في سرائرهم أمره إلى الله تعالى . خلافا للإمام مالك وأصحابه القائلين بأن الساحر له حكم الزنديق . لأنه مستمر بالكفر ، والزنديق لا تقبل توبته عنده إلا إذا جاء تائبا قبل الاطلاع عليه . وأظهر القولين عندي : أن المرأة الساحرة حكمها حكم الرجل الساحر وأنها إن كفرت بسحرها قتلت كما يقتل الرجل . لأن لفظة " من " في قوله : " من بدل دينه فاقتلوه " تشمل الأنثى على أظهر القولين وأصحهما إن شاء الله تعالى . ومن الأدلة على ذلك قوله تعالى : ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى الآية [ 4 124 ] . فأدخل الأنثى في لفظة " من " وقوله تعالى : يانساء النبي من يأت منكن الآية [ 4 124 ] ، وقوله : ومن يقنت منكن لله الآية [ 33 30 ] ، إلى غير ذلك من الآيات . وإلى هذه المسألة التي هي شمول لفظة " من " في الكتاب ، والسنة [ ص: 53 ] للأنثى أشار في مراقي السعود بقوله :


وما شمول من للأنثى جنف وفي شيبه المسلمين اختلفوا



وأما إن كان الساحر عمل السحر الذي لا يبلغ بصاحبه الكفر ، فهذا هو محل الخلاف بين العلماء . فالذين قالوا يقتل ولو لم يكفر بسحره قال أكثرهم : يقتل حدا ولو قتل إنسانا بسحره ، وانفرد الشافعي في هذه الصورة بأنه يقتل قصاصا لا حدا .

وهذه حجج الفريقين ومناقشتها :

أما الذين قالوا مطلقا إذا عمل بسحره ولو لم يقتل به أحدا فاستدلوا بآثار عن الصحابة رضي الله عنهم ، وبحديث جاء بذلك إلا أنه لم يصح . فمن الآثار الدالة على ذلك ما رواه البخاري في صحيحه في كتاب ( الجهاد في باب الجزية ) : حدثنا علي بن عبد الله ، حدثنا سفيان قال : سمعت عمرا قال : كنت جالسا مع جابر بن زيد وعمرو بن أوس فحدثهما بجالة سنة سبعين عام حج مصعب بن الزبير بأهل البصرة عند درج زمزم قال : كنت كاتبا لجزء بن معاوية عم الأحنف ، فأتانا كتاب عمر بن الخطاب قبل موته بسنة : اقتلوا كل ساحر ، وفرقوا بين كل ذي محرم من المجوس قال : فقتلنا في يوم واحد ثلاث سواحر وفرقنا بين المحارم منهم . ورواه أيضا أحمد ، وأبو داود . واعلم أن لفظة " اقتلوا كل ساحر " إلخ في هذا الأثر ساقطة في بعض روايات البخاري ، ثابتة في بعضها ، وهي ثابتة في رواية مسدد وأبي يعلى . قاله في الفتح .

ومن الآثار الدالة على ذلك أيضا ما رواه مالك في الموطأ عن محمد بن عبد الرحمن بن سعد بن زرارة أنه بلغه أن حفصة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - قتلت جارية لها سحرتها ، وقد كانت دبرتها فأمرت بها فقتلت . قال مالك : الساحر الذي يعمل السحر ولم يعمل ذلك له غيره هو مثل الذي قال الله تبارك وتعالى في كتابه : ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق [ 2 102 ] فأرى أن يقتل ذلك إذا عمل ذلك من نفسه انتهى من الموطأ .

ونحوه أخرجه عبد الرزاق . ومن الآثار الدالة على ذلك ما رواه البخاري في تاريخه الكبير : حدثنا إسحاق . حدثنا خالد الواسطي ، عن خالد الحذاء ، عن أبي عثمان : كان عند الوليد رجل يلعب فذبح إنسانا وأبان رأسه ، فجاء جندب الأزدي فقتله . حدثني عمرو بن محمد ، حدثنا هشيم عن خالد عن أبي عثمان عن جندب البجلي : أنه قتله . حدثنا موسى قال حدثنا عبد الواحد عن عاصم عن أبي عثمان : قتله جندب بن كعب .

وفي ( فتح المجيد شرح كتاب التوحيد ) للعلامة الشيخ عبد الرحمن بن حسن ، رحمه الله تعالى بعد أن أشار لكلام البخاري في [ ص: 54 ] التاريخ الذي ذكرنا ، ورواه البيهقي في الدلائل مطولا ، وفيه : فأمر به الوليد فسجن . فذكر القصة بتمامها ولها طرق كثيرة انتهى منه .

فهذه آثار عن ثلاثة من الصحابة في قتل الساحر : وهم عمر وابنته أم المؤمنين حفصة رضي الله عنهم جميعا ، وجندب ولم يعلم لهم مخالف من الصحابة رضي الله عنهم . ويعتضد ذلك بما رواه للترمذي ، والدارقطني عن جندب قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " حد الساحر ضربه بالسيف " . وضعف الترمذي إسناد هذا الحديث وقال : الصحيح عن جندب موقوف ، وتضعيفه بأن في إسناده إسماعيل بن مسلم المكي وهو يضعف في الحديث . وقال في ( فتح المجيد ) أيضا في الكلام على حديث جندب المذكور : روى ابن السكن من حديث بريدة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " يضرب ضربة واحدة فيكون أمة وحده " ا ه منه .

وقال ابن كثير في تفسيره بعد أن ذكر تضعيفه بإسماعيل المذكور : قلت قد رواه الطبراني من وجه آخر ، عن الحسن عن جندب مرفوعا ا ه . وهذا يقويه كما ترى .

فهذه الآثار التي لم يعلم أن أحدا من الصحابة أنكرها على من عمل بها مع اعتضادها بالحديث المرفوع المذكور هي حجة من قال بقتله مطلقا . والآثار المذكورة والحديث فيهما الدلالة على أنه يقتل ولو لم يبلغ به سحره الكفر . لأن الساحر الذي قتله جندب رضي الله عنه كان سحره من نحو الشعوذة ، والأخذ بالعيون ، حتى إنه يخيل إليهم أنه أبان رأس الرجل ، والواقع بخلاف ذلك . وقول عمر " اقتلوا كل ساحر " يدل على ذلك لصيغة العموم . وممن قال بمقتضى هذه الآثار وهذا الحديث : مالك ، وأبو حنيفة ، وأحمد في أصح الروايتين ، وعمر ، وعثمان ، وابن عمر ، وحفصة ، وجندب بن عبد الله ، وجندب بن كعب ، وقيس بن سعد ، وعمر بن عبد العزيز . وغيرهم ، كما نقله عنهم ابن قدامة في ( المغني ) خلافا للشافعي ، وابن المنذر ومن وافقهما .

واحتج من قال : بأنه إن كان سحره لم يبلغ به الكفر لا يقتل بحديث ابن مسعود المتفق عليه " لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث . . . " الحديث ، وقد قدمناه مرارا . وليس السحر الذي لم يكفر صاحبه من الثلاث المذكورة . قال القرطبي منتصرا لهذا القول : وهذا صحيح ، ودماء المسلمين محظورة لا تستباح إلا بيقين ، ولا يقين مع الاختلاف ، والله أعلم .

واحتجوا أيضا بأن عائشة رضي الله عنها باعت مدبرة لها سحرتها ، ولو وجب قتلها [ ص: 55 ] لما حل بيعها . قاله ابن المنذر ، وغيره . وما حاوله بعضهم من الجمع بين الأدلة المذكورة بحمل السحر على الذي يقتضي الكفر في قول من قال بالقتل ، وحمله على الذي لا يقتضي الكفر في قول من قال بعدم القتل لا يصح . لأن الآثار الواردة في قتله جاءت بقتل الساحر الذي سحره من نوع الشعوذة كساحر جندب الذي قتله ، وليس ذلك مما يقتضي الكفر المخرج من ملة الإسلام ، كما تقدم إيضاحه . فالجمع غير ممكن . وعليه فيجب الترجيح ، فبعضهم يرجح عدم القتل بأن دماء المسلمين حرام إلا بيقين . وبعضهم يرجح القتل بأن أدلته خاصة ، ولا يتعارض عام وخاص . لأن الخاص يقضي على العام عند أكثر أهل الأصول كما هو مقرر في محله .

قال مقيده - عفا الله عنه - : والأظهر عندي أن الساحر الذي لم يبلغ به سحره الكفر ولم يقتل به إنسانا أنه لا يقتل . لدلالة النصوص القطعية ، والإجماع على عصمة دماء المسلمين عامة إلا بدليل واضح . وقتل الساحر الذي لم يكفر بسحره لم يثبت فيه شيء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، والتجرؤ على دم مسلم من غير دليل صحيح من كتاب أو سنة مرفوعة غير ظاهر عندي . والعلم عند الله تعالى ، مع أن القول بقتله مطلقا قوي جدا لفعل الصحابة له من غير نكير .

التالي السابق


الخدمات العلمية