صفحة جزء
تنبيه

ذكر بعض العلماء أن هذه الآية الكريمة التي هي قوله تعالى : الطلاق مرتان يؤخذ منها وقوع الطلاق الثلاث في لفظ واحد ، وأشار البخاري بقوله : " باب من جوز الطلاق الثلاث ; لقول الله تعالى : ( الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ) .

والظاهر أن وجه الدلالة المراد عند البخاري هو ما قاله الكرماني من أنه تعالى لما قال : الطلاق مرتان [ 2 \ 229 ] علمنا أن إحدى المرتين جمع فيها بين تطليقتين ، وإذا جاز جمع التطليقتين دفعة ، جاز جمع الثلاث ، ورد ابن حجر هذا بأنه قياس مع وجود الفارق ، وجعل الآية دليلا لنقيض ذلك .

قال مقيده عفا الله عنه : الظاهر أن الاستدلال بالآية غير ناهض ; لأنه ليس المراد حصر الطلاق كله في المرتين حتى يلزم الجمع بين اثنتين في إحدى التطليقتين كما ذكر ، بل المراد بالطلاق المحصور هو خصوص الطلاق الذي تملك بعده الرجعة كما ذكرنا ، وكما فسر به الآية جماهير علماء التفسير . وقال بعض العلماء وجه الدليل في الآية أن قوله تعالى : أو تسريح بإحسان عام يتناول إيقاع الثلاث دفعة واحدة ، ولا يخفى عدم ظهوره ، ولكن كون الآية لا دليل فيها على وقوع الثلاث بلفظ واحد ، لا ينافي أن تقوم على ذلك أدلة ، وسنذكر أدلة ذلك وأدلة من خالف فيه ، والراجح عندنا في ذلك إن شاء الله تعالى مع إيضاح خلاصة البحث كله في آخر الكلام إيضاحا تاما .

فنقول وبالله نستعين : اعلم أن من أدلة القائلين بلزوم الثلاث مجتمعة حديث سهل بن سعد الساعدي ، الثابت في الصحيح في قصة لعان عويمر العجلاني وزوجه ; فإن فيه : " فلما فرغا قال عويمر : كذبت عليها يا رسول الله إن أمسكتها ، فطلقها ثلاثا قبل أن يأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال ابن شهاب : فكانت سنة المتلاعنين " .

أخرج البخاري هذا الحديث تحت الترجمة المتقدمة عنه ، ووجه الدليل منه : أنه أوقع الثلاث في كلمة واحدة ، ولم ينكره رسول الله صلى الله عليه وسلم .

ورد المخالف الاستدلال بهذا الحديث ; بأن المفارقة وقعت بنفس اللعان فلم [ ص: 106 ] يصادف تطليقه الثلاث محلا ، ورد هذا الاعتراض ; بأن الاحتجاج بالحديث من حيث إن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم ينكر عليه إيقاع الثلاث مجموعة ، فلو كان ممنوعا لأنكره ، ولو كانت الفرقة بنفس اللعان وبأن الفرقة لم يدل على أنها بنفس اللعان كتاب ولا سنة صريحة ولا إجماع ، والعلماء مختلفون في ذلك .

فذهب مالك وأصحابه إلى أن الفرقة بنفس اللعان ، وإنما تتحقق بلعان الزوجين معا ، وهو رواية عن أحمد . وذهب الشافعي وأصحابه إلى أن الفرقة بنفس اللعان ، وتقع عند فراغ الزوج من أيمانه قبل لعان المرأة ، وهو قول سحنون من أصحاب مالك .

وذهب الثوري وأبو حنيفة وأتباعهما إلى أنها لا تقع حتى يوقعها الحاكم ; واحتجوا بظاهر ما وقع في أحاديث اللعان ، فقد أخرج البخاري في " صحيحه " عن ابن عمر : " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرق بين رجل وامرأة قذفها ، وأحلفهما رسول الله صلى الله عليه وسلم " . وأخرج أيضا في " صحيحه " عن ابن عمر من وجه آخر إنه قال : " لاعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين رجل وامرأة من الأنصار ، وفرق بينهما " ورواه باقي الجماعة عن ابن عمر ، وبه تعلم أن قول يحيى بن معين : إن الرواية بلفظ " فرق " بين المتلاعنين خطأ ، يعني في خصوص حديث سهل بن سعد المتقدم ، لا مطلقا ، بدليل ثبوتها في الصحيح من حديث ابن عمر كما ترى . قال ابن عبد البر : إن أراد من حديث سهل فسهل ، وإلا فمردود . وقال ابن حجر في " فتح الباري " ما نصه : ويؤخذ منه أن إطلاق يحيى بن معين وغيره تخطئة الرواية بلفظ " فرق بين المتلاعنين " إنما المراد به في حديث سهل بخصوصه ، فقد أخرجه أبو داود من طريق سفيان بن عيينة ، عن الزهري عنه بهذا اللفظ ، وقال بعده لم يتابع ابن عيينة على ذلك أحد ، ثم أخرج من طريق ابن عيينة ، عن عمرو بن دينار ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عمر : " فرق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين أخوي بني العجلان " ا ه ، محل الغرض منه بلفظ ، وقد قدمنا في حديث سهل : " فكانت سنة المتلاعنين " .

واختلف في هذا اللفظ هل هو مدرج من كلام الزهري فيكون مرسلا ، وبه قال جماعة من العلماء ؟ أو هو من كلام سهل فهو مرفوع متصل ؟ ويؤيد كونه من كلام سهل ما وقع في حديث أبي داود من طريق عياض بن عبد الله الفهري ، عن ابن شهاب عن سهل قال : فطلقها ثلاث تطليقات عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأنفذه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان ما صنع عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سنة .

قال سهل : حضرت هذا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فمضت السنة بعد في المتلاعنين ، أن [ ص: 107 ] يفرق بينهما ، ثم لا يجتمعان أبدا
.

قال الشوكاني في " نيل الأوطار " : ورجاله رجال الصحيح .

قال مقيده عفا الله عنه : ومعلوم أن ما سكت عليه أبو داود فأقل درجاته عنده الحسن ، وهذه الرواية ظاهرة في محل النزاع ، وبها تعلم أن احتجاج البخاري لوقوع الثلاث دفعة بحديث سهل المذكور واقع موقعه ; لأن المطلع على غوامض إشارات البخاري - رحمه الله - يفهم أن هذا اللفظ الثابت في " سنن أبي داود " مطابق لترجمة البخاري ، وأنه أشار بالترجمة إلى هذه الرواية ولم يخرجها ; لأنها ليست على شرطه ، فتصريح هذا الصحابي الجليل في هذه الرواية الثابتة : " بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنفذ طلاق الثلاث دفعة " يبطل بإيضاح أنه لا عبرة بسكوته صلى الله عليه وسلم وتقريره له ; بناء على أن الفرقة بنفس اللعان كما ترى .

وذهب عثمان البتي ، وأبو الشعثاء جابر بن زيد البصري ، أحد أصحاب ابن عباس من فقهاء التابعين إلى أن الفرقة لا تقع حتى يوقعها الزوج ، وذهب أبو عبيد إلى أنها تقع بنفس القذف ، وبهذا تعلم أن كون الفرقة بنفس اللعان ليس أمرا قطعيا ، حتى ترد به دلالة تقرير النبي - صلى الله عليه وسلم - عويمرا العجلاني ، على إيقاع الثلاث دفعة ، الثابت في الصحيح ، لا سيما وقد عرفت أن بعض الروايات فيها التصريح بأنه صلى الله عليه وسلم أنفذ ذلك ، فإن قيل قد وقع في حديث لأبي داود عن ابن عباس ، وقضى أن ليس عليه قوت ولا سكنى ، من أجل أنهما يفترقان بغير طلاق ولا متوفى عنها .

فالجواب أن هذا التعليل لعدم إيجاب النفقة والسكنى ; للملاعنة بعدم طلاق أو وفاة يحتمل كونه من ابن عباس ، وليس مرفوعا إليه صلى الله عليه وسلم .

وهذا هو الظاهر أن ابن عباس ذكر العلة لما قضى به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من عدم النفقة والسكنى ، وأراه اجتهاده أن علة ذلك عدم الطلاق والوفاة .

والظاهر أن العلة الصحيحة لعدم النفقة والسكنى هي البينونة بمعناها الذي هو أعم من وقوعها بالطلاق أو بالفسخ ، بدليل أن البائن بالطلاق لا تجب لها النفقة والسكنى على أصح الأقوال دليلا .

فعلم أن عدم النفقة والسكنى لا يتوقف على عدم الطلاق .

وأوضح دليل في ذلك ما صح عنه صلى الله عليه وسلم من حديث فاطمة بنت قيس رضي الله [ ص: 108 ] عنها : " أنها طلقها زوجها آخر ثلاث تطليقات فلم يجعل لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نفقة ولا سكنى " أخرجه مسلم في " صحيحه " والإمام أحمد وأصحاب السنن ، وهو نص صريح صحيح في أن البائن بالطلاق لا نفقة لها ولا سكنى ، وهذا الحديث أصح من حديث ابن عباس المتقدم .

وصرح الأئمة بأنه لم يثبت من السنة ما يخالف حديث فاطمة هذا ، وما وقع في بعض الروايات عن عمر أنه قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول لها : " السكنى والنفقة " . فقال : قال الإمام أحمد : لا يصح ذلك عن عمر .

وقال الدارقطني : السنة بيد فاطمة قطعا ، وأيضا تلك الرواية عن عمر من طريق إبراهيم النخعي ، ومولده بعد موت عمر بسنتين .

قال ابن القيم : ونحن نشهد بالله شهادة نسأل عنها إذا لقيناه ، أنها كذب على عمر ، وكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإذا حققت أن السنة معها وأنها صاحبة القصة ، فاعلم أنها لما سمعت قول عمر لا نترك كتاب الله وسنة نبينا - صلى الله عليه وسلم - لقول امرأة ، لا ندري لعلها حفظت أو نسيت ، قالت : بيني وبينكم كتاب الله . قال الله : فطلقوهن لعدتهن [ 65 \ 1 ] ، حتى قال : لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا [ 65 \ 1 ] . فأي أمر يحدث بعد الثلاث ، رواه أبو داود ، والنسائي ، وأحمد ، ومسلم بمعناه . فتحصل أن السنة بيدها وكتاب الله معها .

وهذا المذهب بحسب الدليل هو أوضح المذاهب وأصوبها . وللعلماء في نفقة البائن وسكناها أقوال غير هذا فمنهم من أوجبهما معا ، ومنهم من أوجب السكنى دون النفقة ، ومنهم من عكس .

فالحاصل أن حديث فاطمة هذا يرد تعليل ابن عباس المذكور ، وأنه أصح من حديثه ، وفيه التصريح بأن سقوط النفقة والسكنى لا يتوقف على عدم الطلاق ، بل يكون مع الطلاق البائن ، وأيضا فالتصريح بأنه صلى الله عليه وسلم أنفذ الثلاث دفعة في الرواية المذكورة أولى بالاعتبار من كلام ابن عباس المذكور ; لأن من حفظ حجة على من لم يحفظ ، وهذا الصحابي حفظ إنفاذ الثلاث ، والمثبت مقدم على النافي .

فإن قيل : إنفاذه صلى الله عليه وسلم الثلاث دفعة من الملاعن على الرواية المذكورة لا يكون حجة في غير اللعان ; لأن اللعان تجب فيه الفرقة الأبدية . فإنفاذ الثلاث مؤكد لذلك الأمر الواجب [ ص: 109 ] بخلاف الواقع في غير اللعان .

ويدل لهذا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - غضب من إيقاع الثلاث دفعة في غير اللعان ، وقال : " أيلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم ؟ ! " كما أخرجه النسائي من حديث محمود بن لبيد ، فالجواب من أربعة أوجه : الأول : الكلام في حديث محمود بن لبيد ، فإنه تكلم من جهتين : الأولى : أنه مرسل ; لأن محمود بن لبيد لم يثبت له سماع من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإن كانت ولادته في عهده صلى الله عليه وسلم ، وذكره في الصحابة من أجل الرؤية ، وقد ترجم له أحمد في مسنده ، وأخرج له عدة أحاديث ليس فيها شيء صرح فيه بالسماع .

الثانية : أن النسائي قال بعد تخريجه لهذا الحديث لا أعلم أحدا رواه غير مخرمة بن بكير يعني ابن الأشج ، عن أبيه ، ورواية مخرمة ، عن أبيه ، وجادة من كتابه ، قاله أحمد وابن معين وغيرهما .

وقال ابن المديني : سمع من أبيه قليلا ، قال ابن حجر في " التقريب " : روايته عن أبيه وجادة من كتابه ، قال أحمد وابن معين وغيرهما ، وقال ابن المديني : سمع من أبيه قليلا .

قال مقيده عفا الله عنه : أما الإعلال الأول بأنه مرسل ، فهو مردود بأنه مرسل صحابي ومراسيل الصحابة لها حكم الوصل ، ومحمود بن لبيد المذكور جل روايته عن الصحابة ، كما قاله ابن حجر في " التقريب " وغيره .

والإعلال الثاني بأن رواية مخرمة عن أبيه وجادة من كتابه فيه أن مسلما أخرج في " صحيحه " عدة أحاديث من رواية مخرمة ، عن أبيه ، والمسلمون مجمعون على قبول أحاديث مسلم إلا بموجب صريح يقتضي الرد ، فالحق أن الحديث ثابت إلا أن الاستدلال به يرده .

الوجه الثاني : وهو أن حديث محمود ليس فيه التصريح بأنه صلى الله عليه وسلم أنفذ الثلاث ، ولا أنه لم ينفذها ، وحديث سهل على الرواية المذكورة فيه التصريح بأنه أنفذها ، والمبين مقدم على المجمل ، كما تقرر في الأصول بل بعض العلماء احتج لإيقاع الثلاث دفعة ، بحديث محمود هذا .

ووجه استدلاله به أنه طلق ثلاثا يظن لزومها ، فلو كانت غير لازمة لبين النبي - صلى الله عليه وسلم - [ ص: 110 ] أنها غير لازمة ; لأن البيان لا يجوز تأخيره عن وقت الحاجة .

الوجه الثالث : أن إمام المحدثين محمد بن إسماعيل البخاري - رحمه الله - أخرج حديث سهل تحت الترجمة التي هي قوله : " باب من جوز الطلاق الثلاث " وهو دليل على أنه يرى عدم الفرق بين اللعان وغيره في الاحتجاج بإنفاذ الثلاث دفعة .

الوجه الرابع : هو ما سيأتي من الأحاديث الدالة على وقوع الثلاث دفعة ، كحديث ابن عمر ، وحديث الحسن بن علي ، وإن كان الكل لا يخلو من كلام . وممن قال بأن اللعان طلاق لا فسخ : أبو حنيفة ، ومحمد بن الحسن ، وحماد ، وصح عن سعيد بن المسيب ، كما نقله الحافظ ابن حجر في " فتح الباري " وعن الضحاك والشعبي : إذا أكذب نفسه ردت إليه امرأته .

وبهذا كله تعلم أن رد الاحتجاج بتقريره صلى الله عليه وسلم عويمر العجلاني ، على إيقاع الثلاث دفعة ، بأن الفرقة بنفس اللعان لا يخلو من نظر ، ولو سلمنا أن الفرقة بنفس اللعان فإنا لا نسلم أن سكوته - صلى الله عليه وسلم - لا دليل فيه ، بل نقول : لو كانت لا تقع دفعة لبين أنها لا تقع دفعة ، ولو كانت الفرقة بنفس اللعان ، كما تقدم .

التالي السابق


الخدمات العلمية