صفحة جزء
قوله تعالى : فيذرها قاعا صفصفا لا ترى فيها عوجا ولا أمتا .

الضمير في قوله : فيذرها فيه وجهان معروفان عند العلماء :

أحدهما : أنه راجع إلى الأرض وإن لم يجر لها ذكر . ونظير هذا القول في هذه الآية قوله تعالى : ما ترك على ظهرها من دابة [ 35 \ 45 ] ، وقوله : ما ترك عليها من دابة [ 16 \ 16 ] ، فالضمير فيهما راجع إلى الأرض ولم يجر لها ذكر . وقد بينا شواهد ذلك من العربية ، والقرآن بإيضاح في سورة " النحل " فأغنى ذلك عن إعادته هنا .

والثاني : أنه راجع إلى منابت الجبال التي هي مراكزها ومقارها لأنها مفهومة من ذكر الجبال . والمعنى : فيذر مواضعها التي كانت مستقرة فيها من الأرض قاعا صفصفا . والقاع : المستوي من الأرض . وقيل : مستنقع الماء . والصفصف : المستوي الأملس [ ص: 99 ] الذي لا نبات فيه ، ولا بناء ، فإنه على صف واحد في استوائه . وأنشد لذلك سيبويه قول الأعشى :


وكم دون بيتك من صفصف ودكداك رمل وأعقادها



ومنه قول الآخر :


وملمومة شهباء لو قذفوا بها     شماريخ من رضوى إذا عاد صفصفا



وقوله : لا ترى فيها عوجا ولا أمتا [ 20 \ 107 ] ، أي : لا اعوجاج فيها ، ولا أمت . والأمت : النتوء اليسير . أي : ليس فيها اعوجاج ، ولا ارتفاع بعضها على بعض ، بل هي مستوية ، ومن إطلاق الأمت بالمعنى المذكور قول لبيد :


فاجرمزت ثم سارت وهي لاهية     في كافر ما به أمت ، ولا شرف



وقول الآخر :


فأبصرت لمحة من رأس عكرشة     في كافر ما به أمت ولا عوج



والكافر في البيتين : قيل الليل . وقيل المطر ، لأنه يمنع العين من رؤية الارتفاع ، والانحدار في الأرض .

وقال الزمخشري في تفسير هذه الآية الكريمة : فإن قلت : قد فرقوا بين العوج ، والعوج فقالوا . العوج بالكسر في المعاني ، والعوج بالفتح في الأعيان . والأرض عين ، فكيف صح فيها المكسور العين ؟

قلت اختيار هذا اللفظ له موقع حسن بديع في وصف الأرض بالاستواء ، والملاسة ، ونفي الاعوجاج عنها على أبلغ ما يكون . وذلك أنك لو عمدت إلى قطعة أرض فسويتها ، وبالغت في التسوية على عينك وعيون البصراء من الفلاحة ، واتفقتم على أنه لم يبق فيها اعوجاج قط ، ثم استطلعت رأي المهندس فيها ، وأمرته أن يعرض استواءها على المقاييس الهندسية لعثر فيها على عوج في غير موضع لا يدرك ذلك بحاسة البصر ، ولكن بالقياس الهندسي ، فنفى الله عز وجل ذلك العوج الذي دق ولطف عن الإدراك ، اللهم إلا بالقياس الذي يعرفه صاحب التقدير ، والهندسة ، وذلك الاعوجاج لما لم يدرك إلا بالقياس دون الإحساس لحق بالمعاني فقيل فيه : عوج بالكسر ، والأمت : النتوء اليسير ، يقال : مد حبله حتى ما فيه أمت . انتهى منه . وقد قدمنا في أول سورة الكهف ما يغني عن هذا الكلام الذي ذكره ، والعلم عند الله تعالى .

التالي السابق


الخدمات العلمية