صفحة جزء
الحديث الرابع هو ما أخرجه مسلم في " صحيحه " : حدثنا إسحاق بن إبراهيم ومحمد بن رافع ، واللفظ لابن رافع ، قال إسحاق : أخبرنا وقال ابن رافع : حدثنا عبد الرزاق ، أخبرنا معمر ، عن ابن طاوس ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قال : كان الطلاق على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر طلاق الثلاث واحدة ، فقال عمر بن الخطاب : إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة ، فلو أمضيناه عليهم فأمضاه عليهم ، حدثنا إسحاق بن إبراهيم ، أخبرنا روح بن عبادة ، أخبرنا ابن جريج ، وحدثنا ابن رافع واللفظ له ، حدثنا عبد الرزاق ، أخبرنا ابن جريج ، أخبرني ابن طاوس ، عن أبيه ، أن أبا الصهباء قال لابن عباس : أتعلم إنما كانت الثلاث تجعل واحدة على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وثلاثا من إمارة عمر ؟ فقال ابن عباس : نعم .

وحدثنا إسحاق بن إبراهيم ، أخبرنا سليمان بن حرب ، عن حماد بن زيد ، عن أيوب السختياني ، عن إبراهيم بن ميسرة ، عن طاوس ، أن أبا الصهباء قال لابن عباس : هات من هناتك ، ألم يكن الطلاق الثلاث على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر واحدة ؟ فقال : قد كان ذلك ، فلما كان في عهد عمر تتايع الناس في الطلاق فأجازه عليهم ، هذا لفظ مسلم في " صحيحه " .

وهذه الطريق الأخيرة أخرجها أبو داود ولكن لم يسم إبراهيم بن ميسرة .

وقال بدله عن غير واحد ، ولفظ المتن : أما علمت أن الرجل كان إذا طلق امرأته ثلاثا قبل أن يدخل بها جعلوها واحدة على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وصدرا من إمارة عمر ؟

قال ابن عباس : بلى ، كان الرجل إذا طلق امرأته ثلاثا قبل أن يدخل بها جعلوها واحدة على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وصدرا من إمارة عمر ، فلما رأى الناس - يعني عمر - قد تتايعوا فيها ، قال : أجيزوهن عليهم
، وللجمهور عن حديث ابن عباس هذا عدة أجوبة :

[ ص: 121 ] الأول : أن الثلاث المذكورة فيه التي كانت تجعل واحدة ، ليس في شيء من روايات الحديث التصريح بأنها واقعة بلفظ واحد ، ولفظ طلاق الثلاث لا يلزم منه لغة ولا عقلا ولا شرعا أن تكون بلفظ واحد ، فمن قال لزوجته : أنت طالق ، أنت طالق ، أنت طالق ، ثلاث مرات في وقت واحد ، فطلاقه هذا طلاق الثلاث ; لأنه صرح بالطلاق فيه ثلاث مرات ، وإذا قيل لمن جزم بأن المراد في الحديث إيقاع الثلاث بكلمة واحدة ، من أين أخذت كونها بكلمة واحدة ؟ فهل في لفظ من ألفاظ الحديث أنها بكلمة واحدة ؟ وهل يمنع إطلاق الطلاق الثلاث على الطلاق بكلمات متعددة ؟ فإن قال : لا . يقال له طلاق الثلاث إلا إذا كان بكلمة واحدة ، فلا شك في أن دعواه هذه غير صحيحة ، وإن اعترف بالحق وقال : يجوز إطلاقه على ما أوقع بكلمة واحدة ، وعلى ما أوقع بكلمات متعددة ، وهو أشد بظاهر اللفظ ، قيل له : وإذن فجزمك بكونه بكلمة واحدة لا وجه له ، وإذا لم يتعين في الحديث كون الثلاث بلفظ واحد سقط الاستدلال به من أصله في محل النزاع . ومما يدل على أنه لا يلزم من لفظ طلاق الثلاث في هذا الحديث كونها بكلمة واحدة ، أن الإمام أبا عبد الرحمن النسائي مع جلالته وعلمه وشدة فهمه ما فهم من هذا الحديث إلا أن المراد بطلاق الثلاث فيه ، أنت طالق ، أنت طالق ، أنت طالق ، بتفريق الطلقات ; لأن لفظ الثلاث أظهر في إيقاع الطلاق ثلاث مرات ، ولذا ترجم في " سننه " لرواية أبي داود المذكورة في هذا الحديث ، فقال : " باب طلاق الثلاث المتفرقة قبل الدخول بالزوجة " ثم قال : أخبرنا أبو داود سليمان بن سيف قال : حدثنا أبو عاصم ، عن ابن جريج ، عن ابن طاوس ، عن أبيه : أن أبا الصهباء جاء إلى ابن عباس - رضي الله عنهما - فقال : يا ابن عباس ، ألم تعلم أن الثلاث كانت على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وصدرا من خلافة عمر ترد إلى الواحدة ؟ قال : نعم ، فترى هذا الإمام الجليل صرح بأن طلاق الثلاث في هذا الحديث ليس بلفظ واحد بل بألفاظ متفرقة ، ويدل على صحة ما فهمه النسائي - رحمه الله - من الحديث ما ذكره ابن القيم في " زاد المعاد " في الرد على من استدل لوقوع الثلاث دفعة بحديث عائشة : أن رجلا طلق امرأته ثلاثا فتزوجت . الحديث . فإنه قال فيه ما نصه : ولكن أين في الحديث أنه طلق الثلاث بفم واحد ؟ بل الحديث حجة لنا فإنه لا يقال فعل ذلك ثلاثا وقال : ثلاثا ، إلا من فعل وقال مرة بعد مرة ، وهذا هو المعقول في لغات الأمم عربهم وعجمهم ، كما يقال قذفه ثلاثا وشتمه ثلاثا وسلم عليه ثلاثا . ا ه منه بلفظه .

[ ص: 122 ] وهو دليل واضح لصحة ما فهمه أبو عبد الرحمن النسائي - رحمه الله - من الحديث ; لأن لفظ الثلاث في جميع رواياته أظهر في أنها طلقات ثلاث واقعة مرة بعد مرة ، كما أوضحه ابن القيم في حديث عائشة المذكور آنفا .

وممن قال : بأن المراد بالثلاث في حديث طاوس المذكور ، الثلاث المفرقة بألفاظ نحو أنت طالق ، أنت طالق ، أنت طالق ، ابن سريج فإنه قال : يشبه أن يكون ورد في تكرير اللفظ ، كأن يقول : أنت طالق ، أنت طالق ، أنت طالق . وكانوا أولا على سلامة صدورهم ، يقبل منهم أنهم أرادوا التأكيد ، فلما كثر الناس في زمن عمر ، وكثر فيهم الخداع ونحوه ; مما يمنع قبول من ادعى التأكيد حمل عمر اللفظ على ظاهر التكرار فأمضاه عليهم . قاله ابن حجر في " الفتح " وقال : إن هذا الجواب ارتضاه القرطبي ، وقواه بقول عمر : إن الناس استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة .

وقال النووي في " شرح مسلم " ما نصه : وأما حديث ابن عباس فاختلف الناس في جوابه وتأويله ، فالأصح أن معناه أنه كان في أول الأمر إذا قال لها : أنت طالق ، أنت طالق ، أنت طالق ، ولم ينو تأكيدا ولا استئنافا يحكم بوقوع طلقة ; لقلة إرادتهم الاستئناف بذلك ، فحمل على الغالب الذي هو إرادة التأكيد . فلما كان في زمن عمر - رضي الله عنه - وكثر استعمال الناس لهذه الصيغة ، وغلب منهم إرادة الاستئناف بها ، حملت عند الإطلاق على الثلاث ; عملا بالغالب السابق إلى الفهم في ذلك العصر .

قال مقيده عفا الله عنه : وهذا الوجه لا إشكال فيه ; لجواز تغير الحال عند تغير القصد ; لأن " الأعمال بالنيات " ولكل امرئ ما نوى " وظاهر اللفظ يدل لهذا كما قدمنا .

وعلى كل حال ، فادعاء الجزم بأن معنى حديث طاوس المذكور أن الثلاث بلفظ واحد ادعاء خال من دليل كما رأيت ، فليتق الله من تجرأ على عزو ذلك إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - مع أنه ليس في شيء من روايات حديث طاوس كون الثلاث المذكورة بلفظ واحد ، ولم يتعين ذلك من اللغة ، ولا من الشرع ، ولا من العقل كما ترى .

قال مقيده عفا الله عنه : ويدل لكون الثلاث المذكورة ليست بلفظ واحد ما تقدم في حديث ابن إسحاق عن داود بن الحصين ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، عن أحمد ، وأبي يعلى من قوله : طلق امرأته ثلاثا في مجلس واحد ، وقوله صلى الله عليه وسلم : " كيف طلقتها " ؟ [ ص: 123 ] قال : ثلاثا في مجلس واحد ; لأن التعبير بلفظ المجلس يفهم منه أنها ليست بلفظ واحد ، إذ لو كان اللفظ واحدا لقال بلفظ واحد ولم يحتج إلى ذكر المجلس ، إذ لا داعي لذكر الوصف الأعم وترك الأخص بلا موجب ، كما هو ظاهر الجواب الثاني عن حديث ابن عباس هو : أن معنى الحديث أن الطلاق الواقع في زمن عمر ثلاثا كان يقع قبل ذلك واحدة ; لأنهم كانوا لا يستعملون الثلاث أصلا ، أو يستعملونها نادرا . وأما في عهد عمر فكثر استعمالهم لها .

ومعنى قوله : فأمضاه عليهم على هذا القول ، أنه صنع فيه من الحكم بإيقاع الطلاق ما كان يصنع قبله ، ورجح هذا التأويل ابن العربي ، ونسبه إلى أبي زرعة الرازي . وكذا أورده البيهقي بإسناده الصحيح إلى أبي زرعة أنه قال : معنى هذا الحديث عندي إنما تطلقون أنتم ثلاثا ، كانوا يطلقون واحدة . قال النووي : وعلى هذا فيكون الخبر وقع عن اختلاف عادة الناس خاصة ، لا عن تغيير الحكم في المسألة الواحدة ، وهذا الجواب نقله القرطبي في تفسير قوله تعالى : الطلاق مرتان [ 2 \ 229 ] عن المحقق القاضي أبي الوليد الباجي ، والقاضي عبد الوهاب ، والكيا الطبري .

قال مقيده عفا الله عنه : ولا يخفى ما في هذا الجواب من التعسف ، وإن قال به بعض أجلاء العلماء .

التالي السابق


الخدمات العلمية