صفحة جزء
المسألة السادسة

اعلم أن تحقيق المقام في هذه المسألة التي وقع فيها من الاختلاف ما رأيت أن القياس قسمان : قياس صحيح ، وقياس فاسد .

أما القياس الفاسد فهو الذي ترد عليه الأدلة التي ذكرها الظاهرية وتدل على بطلانه ، ولا شك أنه باطل ، وأنه ليس من الدين كما قالوا وكما هو الحق .

وأما القياس الصحيح فلا يرد عليه شيء من تلك الأدلة ، ولا يناقض بعضه بعضا ، ولا يناقض ألبتة نصا صحيحا من كتاب أو سنة . فكما لا تتناقض دلالة النصوص الصحيحة ، فإنه لا تتناقض دلالة الأقيسة الصحيحة ولا دلالة النص الصريح والقياس الصحيح ، بل كلها متصادقة متعاضدة متناصرة ، يصدق بعضها بعضا ، ويشهد بعضها لبعض . فلا يناقض القياس الصحيح النص الصحيح أبدا .

وضابط القياس الصحيح هو أن تكون العلة التي علق الشارع بها الحكم وشرعه [ ص: 212 ] من أجلها موجودة بتمامها في الفرع من غير معارض في الفرع يمنع حكمها فيه . وكذلك القياس المعروف بـ " القياس في معنى الأصل " الذي هو الإلحاق بنفي الفارق المؤثر في الحكم .

فمثل ذلك لا تأتي الشريعة بخلافه ، ولا يعارض نصا ، ولا يتعارض هو في نفسه ، وسنضرب لك أمثلة من ذلك تستدل بها على جهل الظاهرية القادح الفاضح ، وقولهم على الله وعلى رسوله وعلى دينه أبطل الباطل الذي لا يشك عاقل في بطلانه وعظم ضرره على الدين بدعوى أنهم واقفون مع النصوص ، وأن كل ما لم يصرح بلفظه في كتاب أو سنة فهو معفو عنه ، ولو صرح بعلة الحكم المشتملة على مقصود الشارع من حكمة التشريع ، فأهدروا المصالح المقصودة من التشريع .

وقالوا على الله ما يقتضي أنه يشرع المضار الظاهرة لخلقه . فمن ذلك ما ثبت في الصحيحين من حديث أبي بكرة - رضي الله عنه - من أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " لا يقضين حكم بين اثنين وهو غضبان " فالنبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث الصحيح نهى عن الحكم في وقت الغضب ، ولا يشك عاقل أنه خص وقت الغضب بالنهي دون وقت الرضا ؛ لأن الغضب يشوش الفكر فيمنع من استيفاء النظر في الحكم . فيكون ذلك سببا لضياع حقوق المسلمين ، فيلزم على قول الظاهرية كما قدمنا إيضاحه أن النهي يختص بحالة الغضب ، ولا يتعداها إلى غيرها من حالات تشويش الفكر المانعة من استيفاء النظر في الحكم . فلو كان القاضي في حزن مفرط يؤثر عليه تأثيرا أشد من تأثير الغضب بأضعاف ، أو كان في جوع أو عطش مفرط يؤثر عليه أعظم من تأثير الغضب ، فعلى قول الظاهرية فحكمه بين الناس في تلك الحالات المانعة من استيفاء النظر في الحكم عفو جائز ؛ لأن الله سكت عنه في زعمهم ، فيكون الله قد عفا للقاضي عن التسبب في إضاعة حقوق المسلمين التي نصبه الإمام من أجل صيانتها وحفظها من الضياع ، مع أن تنصيص النبي - صلى الله عليه وسلم - على النهي عن الحكم في حالة الغضب دليل واضح على المنع من الحكم في حالة تشويش الفكر تشويشا كتشويش الغضب أو أشد منه كما لا يخفى على عاقل ، فانظر عقول الظاهرية وقولهم على الله ما يقتضي أنه أباح للقضاة الحكم في حقوق المسلمين في الأحوال المانعة من القدرة على استيفاء النظر في الأحكام ، مع نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - الصريح عن ذلك في صورة من صوره وهي الغضب - بزعمهم أنهم واقفون مع النصوص . ومن ذلك قوله تعالى : والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم [ ص: 213 ] [ 24 \ 4 - 5 ] فالله - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة نص على أن الذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء يجلدون ثمانين جلدة ، وترد شهادتهم ويحكم بفسقهم . ثم استثنى من ذلك من تاب من القاذفين من بعد ذلك وأصلح . ولم يتعرض في هذا النص لحكم الذين يرمون المحصنين الذكور .

فيلزم على قول الظاهرية أن من قذف محصنا ذكرا ليس على أئمة المسلمين جلده ولا رد شهادته ولا الحكم بفسقه ؛ لأن الله سكت عن ذلك في زعمهم ، وما سكت عنه فهو عفو !

فانظر عقول الظاهرية وما يقولون على الله ورسوله من عظائم الأمور ، بدعوى الوقوف مع النص ! ودعوى بعض الظاهرية أن آية والذين يرمون المحصنات شاملة للذكور بلفظها ، بدعوى أن المعنى : يرمون الفروج المحصنات من فروج الإناث والذكور - من تلاعبهم وجهلهم بنصوص الشرع ؟ وهل تمكن تلك الدعوى في قوله تعالى : إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات الآية [ 24 \ 23 ] فهل يمكنهم أن يقولوا إن الفروج هي الغافلات المؤمنات .

وكذلك قوله تعالى : والمحصنات من النساء الآية [ 4 \ 24 ] وقوله تعالى : محصنات غير مسافحات ولا متخذات أخدان [ 4 \ 25 ] كما هو واضح ؟

ومن ذلك نهيه - صلى الله عليه وسلم - عن البول في الماء الراكد ، فإنه لا يشك عاقل أن علة نهيه عنه أن البول يستقر فيه لركوده فيقذره ، فيلزم على قول الظاهرية أنه لو ملأ آنية كثيرة من البول ثم صبها في الماء الراكد أو تغوط فيه أن كل ذلك عفو ؛ لأنه مسكوت عنه . فيكون الله على قولهم ينهى عن جعل قليل من البول فيه إذا باشر البول فيه ، ويأذن في جعل أضعاف ذلك من البول فيه بصبه فيه من الآنية ، وكذلك يأذن في التغوط فيه ! .

وهذا لو صدر من أدنى عاقل لكان تناقضا معيبا عند جميع العقلاء ، فكيف بمن ينسب ذلك إلى الله ورسوله عياذا بالله تعالى بدعوى الوقوف مع النصوص ! وربما ظن الإنسان الأجر والقربة فيما هو إلى الإثم والمعصية أقرب . كما قيل :


أمنفقة الأيتام من كد فرجها لك الويل لا تزني ولا تتصدقي

ومن ذلك نهيه - صلى الله عليه وسلم - عن التضحية بالعوراء مع سكوته عن حكم التضحية بالعمياء ، فإنه يلزم على قول الظاهرية أن يناط ذلك الحكم بخصوص لفظ العور خاصة ، فتكون [ ص: 214 ] العمياء مما سكت الله عن حكم التضحية به فيكون ذلك عفوا . وإدخال العمياء في اسم العوراء لغة غير صحيح ؛ لأن المفهوم من العور غير المفهوم من العمى ؛ لأن العور لا يطلق إلا في صورة فيها عين تبصر ، بخلاف العمى فلا يطلق في ذلك . وتفسير العور بأنه عمى إحدى العينين لا ينافي المغايرة ؛ لأن العمى المقيد بإحدى العينين غير العمى الشامل للعينين معا . وبالجملة فالمعنى المفهوم من لفظ العور غير المعنى المفهوم من لفظ العمى ، فوقوف الظاهرية مع لفظ النص يلزمه جواز التضحية بالعمياء ؛ لأنها مسكوت عنها ، وأمثال هذا منهم كثيرة جدا . وقصدنا التنبيه على بطلان أساس دعواهم ، وهو الوقوف مع اللفظ من غير نظر إلى معاني التشريع والحكم والمصالح التي هي مناط الأحكام ، وإلحاق النظير بنظيره الذي لا فرق بينه وبينه يؤثر في الحكم .

واعلم أن التحقيق الذي لا شك فيه أن الله تعالى يشرع الأحكام لمصالح الخلق ، فأفعاله وتشريعاته كلها مشتملة على الحكم والمصالح من جلب المنافع ودفع المضار . فما يزعمه كثير من متأخري المتكلمين - تقليدا لمن تقدمهم - من أن أفعاله - جل وعلا - لا تعلل بالعلل الغائية ، زاعمين أن التعليل بالأغراض يستلزم الكمال بحصول الغرض المعلل به ، وأن الله - جل وعلا - منزه من ذلك لاستلزامه النقص - كله كلام باطل ، ولا حاجة إليه ألبتة ; لأنه من المعلوم بالضرورة من الدين أن الله - جل وعلا - غني لذاته الغنى المطلق ، وجميع الخلق فقراء إليه غاية الفقر والفاقة والحاجة : ياأيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد [ 35 \ 15 ] ولكنه - جل وعلا - يشرع ويفعل لأجل مصالح الخلق المحتاجين الفقراء إليه ، لا لأجل مصلحة تعود إليه هو سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا .

وادعاء كثير من أهل الأصول أن العلل الشرعية مطلق أمارات وعلامات للأحكام ناشئ عن ذلك الظن الباطل . فالله - جل وعلا - يشرع الأحكام لأجل العلل المشتملة على المصالح التي يعود نفعها إلى خلقه الفقراء إليه لا إلى الله - جل وعلا - إن تكفروا أنتم ومن في الأرض جميعا فإن الله لغني حميد [ 14 \ 8 ] وقد صرح تعالى وصرح رسوله - صلى الله عليه وسلم - بأنه يشرع الأحكام من أجل الحكم المنوطة بذلك التشريع .

وأصرح لفظ في ذلك لفظة ( من أجل ) وقد قال تعالى : من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل الآية [ 5 ] وقال - صلى الله عليه وسلم - : " إنما جعل الاستئذان من أجل البصر " .

وقد قدمنا أمثلة متعددة لحروف التعليل في الآيات القرآنية الدالة على العلل الغائية المشتملة على مصالح العباد ، وهو أمر معلوم عند من له علم بحكم التشريع الإسلامي .

[ ص: 215 ] وقال العلامة ابن القيم في ( إعلام الموقعين عن رب العالمين ) بعد أن ذكر قول من منع القياس مطلقا وقول من غلا فيه ، وذكر أدلة الفريقين ما نصه :

وقال المتوسطون بين الفريقين : قد ثبت أن الله سبحانه قد أنزل الكتاب والميزان ، فكلاهما في الإنزال أخوان ، وفي معرفة الأحكام شقيقان ، وكما لا يتناقض الكتاب في نفسه ، فالميزان الصحيح لا يتناقض في نفسه ، ولا يتناقض الكتاب والميزان ، فلا تتناقض دلالة النصوص الصحيحة ، ولا دلالة الأقيسة الصحيحة ، ولا دلالة النص الصريح والقياس الصحيح ، بل كلها متصادقة متعاضدة متناصرة ، يصدق بعضها بعضا ويشهد بعضها لبعض ، فلا يناقض القياس الصحيح النص الصحيح أبدا .

ونصوص الشارع نوعان : أخبار ، وأوامر ، فكما أن أخباره لا تخالف العقل الصحيح ، بل هي نوعان : نوع يوافقه ويشهد على ما يشهد به جملة ، أو جملة وتفصيلا ، ونوع يعجز عن الاستقلال بإدراك تفصيله وإن أدركه من حيث الجملة ، فهكذا أوامره سبحانه نوعان : نوع يشهد به القياس والميزان ، ونوع لا يستقل بالشهادة به ولكن لا يخالفه ، وكما أن القسم الثالث في الأخبار محال وهو ورودها بما يرده العقل الصحيح ، فكذلك الأوامر ليس فيها ما يخالف القياس والميزان الصحيح . وهذه الجملة إنما تنفصل بتمهيد قاعدتين عظيمتين :

إحداهما : أن الذكر الأمري محيط بجميع أفعال المكلفين أمرا ونهيا ، وإذنا وعفوا . كما أن الذكر القدري محيط بجميعها علما وكتابة وقدرا ، فعلمه وكتابته وقدره قد أحصى جميع أفعال عباده الواقعة تحت التكليف وغيرها ، وأمره نهيه وإباحته وعفوه قد أحاط بجميع أفعالهم التكليفية . فلا يخرج فعل من أفعالهم عن أحد الحكمين : إما الكوني ، وإما الشرعي الأمري ، فقد بين الله سبحانه على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - بكلامه وكلام رسوله جميع ما أمر به ، وجميع ما نهى عنه ، وجميع ما أحله ، وجميع ما حرمه ، وجميع ما عفا عنه . وبهذا يكون دينه كاملا كما قال تعالى : اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي [ 5 \ 3 ] ولكن قد يقصر فهم أكثر الناس عن فهم ما دلت عليه النصوص ، وعن وجه الدلالة وموقعها ، وتفاوت الأمة في مراتب الفهم عن الله ورسوله لا يحصيه إلا الله - جل وعلا - . ولو كانت الأفهام متساوية لتساوت أقسام العلماء في العلم ، ولما خص سبحانه سليمان بفهم الحكومة في الحرث ، وقد أثنى عليه وعلى داود بالحكم والعلم . وقد قال عمر لأبي [ ص: 216 ] موسى في كتابه إليه : الفهم الفهم فيما أدلي إليك . وقال علي - رضي الله عنه - : إلا فهما يؤتيه الله عبدا في كتابه . وقال أبو سعيد : كان أبو بكر - رضي الله عنه - أعلمنا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - . ودعا النبي - صلى الله عليه وسلم - لعبد الله بن عباس أن يفقهه في الدين ويعلمه التأويل " ، والفرق بين الفقه والتأويل أن الفقه هو فهم المعنى المراد ، والتأويل إدراك الحقيقة التي يؤول إليها المعنى التي هي آخيته وأصله ، وليس كل من فقه في الدين عرف التأويل ؛ فمعرفة التأويل يختص بها الراسخون في العلم ، وليس المراد به تأويل التحريف وتبديل المعنى ، فإن الراسخين في العلم يعلمون بطلانه ، والله يعلم بطلانه إلى أن قال :

وكل فرقة من هؤلاء الفرق الثلاث : يعني نفاة القياس بالكلية والغالين فيه ، والقائلين بأن العلل الشرعية أمارات وعلامات فقط لا مصالح أنيطت بها الأحكام وشرعت من أجلها - سدوا على أنفسهم طريقا من طرق الحق ، فاضطروا إلى توسعة طريق أخرى أكثر مما تحتمله . فنفاة القياس لما سدوا على نفوسهم باب التمثيل والتعليل ، واعتبار الحكم والمصالح وهو من الميزان والقسط الذي أنزله الله - احتاجوا إلى توسعة الظاهر والاستصحاب ، فحملوهما فوق الحاجة ، ووسعوهما أكثر مما يسعانه . فحيث فهموا من النص حكما أثبتوه ولم يبالوا مما وراءه ، وحيث لم يفهموه منه نفوه وحملوا الاستصحاب ، وأحسنوا في اعتنائهم بالنصوص ونصرها والمحافظة عليها ، وعدم تقديم غيرها عليها من رأي أو قياس أو تقليد ، وأحسنوا في رد الأقيسة الباطلة ، وبيانهم تناقض أهلها في نفس القياس وتركهم له ، وأخذوا بقياس تركهم وما هو أولى منه . ولكن أخطئوا من أربعة أوجه :

أحدها رد القياس الصحيح ، ولا سيما المنصوص على علته التي يجري النص عليها مجرى التنصيص على التعميم باللفظ ، ولا يتوقف عاقل في أن قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لما لعن عبد الله خمارا على كثرة شربه للخمر : " لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله " بمنزلة قوله : لا تلعنوا كل من يحب الله ورسوله . وفي قوله : " إن الله ورسوله ينهيانكم عن لحوم الحمر ؛ فإنها رجس " بمنزلة قوله : ينهيانكم عن كل رجس . وفي أن قوله تعالى : إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس [ 6 \ 145 ] : نهي عن كل رجس . وفي أن قوله في الهرة : " ليست بنجس ؛ لأنها من الطوافين عليكم والطوافات " ، بمنزلة قوله : كل ما هو من الطوافين عليكم والطوافات فإنه ليس بنجس ، ولا يستريب أحد في أن من قال لغيره : لا تأكل من هذا الطعام فإنه مسموم نهي له عن كل طعام كذلك ، وإذا [ ص: 217 ] قال : لا تشرب هذا الشراب فإنه مسكر فهو نهي له عن كل مسكر . ولا تتزوج هذه المرأة فإنها فاجرة ، وأمثال ذلك الخطأ .

الثاني : تقصيرهم في فهم النصوص ، فكم من حكم دل عليه النص ولم يفهموا دلالته عليه . وسبب هذا الخطأ حصرهم الدلالة في مجرد ظاهر اللفظ دون إيمائه وتنبيهه وإشارته وعرفه عند المخاطبين ، فلم يفهموا من قوله تعالى : فلا تقل لهما أف [ 17 \ 23 ] ضربا ، ولا سبا ، ولا إهانة غير لفظة : " أف " فقصروا في فهم الكتاب كما قصروا في اعتبار الميزان الخطأ .

الثالث : تحميل الاستصحاب فوق ما يستحقه ، وجزمهم بموجبه لعدم علمهم بالناقل ، وليس عدم العلم علما بالعدم .

التالي السابق


الخدمات العلمية