صفحة جزء
وقد تنازع الناس في الاستصحاب ، ونحن نذكر أقسامه . ثم شرع يبين أقسام الاستصحاب ، وقد ذكرنا بعضها في سورة " براءة " وجعلها هو ثلاثة أقسام وأطال فيها الكلام .

والمعروف في الأصول أن الاستصحاب أربعة أقسام :

الأول : استصحاب العدم الأصلي حتى يرد النافل عنه وهو البراءة الأصلية والإباحة العقلية . كقولنا : الأصل براءة الذمة من الدين فلا تغمز بدين إلا بدليل نافل عن الأصل يثبت ذلك . والأصل براءة الذمة من وجوب صوم شهر آخر غير رمضان ، فيلزم استصحاب هذا العدم حتى يرد نافل عنه ، وهكذا .

النوع الثاني : استصحاب الوصف المثبت للحكم حتى يثبت خلافه ، كاستصحاب بقاء النكاح وبقاء الملك وبقاء شغل الذمة حتى يثبت خلافه .

الثالث : استصحاب حكم الإجماع في محل النزاع ، والأكثر على أن هذا الأخير ليس بحجة . وهو يرى أنه حجة ، وكلا الأولين حجة بلا خلاف في الجملة .

الرابع : الاستصحاب المقلوب ، وقد قدمنا إيضاحه وأمثلته في سورة " التوبة " .

الخطأ الرابع لهم : هو اعتقادهم أن عقود المسلمين وشروطهم ومعاملاتهم كلها على الباطل حتى يقوم دليل على الصحة ، فإذا لم يقم عندهم دليل على صحة شرط أو عقد أو معاملة استصحبوا بطلانه ، فأفسدوا بذلك كثيرا من معاملات الناس وعقودهم وشروطهم بلا برهان من الله بناء على هذا الأصل ، وجمهور الفقهاء على خلافه ، وأن [ ص: 218 ] الأصل في العقود والشروط الصحة إلا ما أبطله الشارع أو نهى عنه . وهذا القول هو الصحيح ؛ فإن الحكم ببطلانها حكم بالتحريم والتأثيم ، ومعلوم أنه لا حرام إلا ما حرمه الله ورسوله ، ولا تأثيم إلا ما أثم الله ورسوله به فاعله ، كما أنه لا واجب إلا ما أوجبه الله ، ولا حرام إلا ما حرمه الله ، ولا دين إلا ما شرعه الله ، فالأصل في العبادات البطلان حتى يقوم دليل على الأمر ، والأصل في العقود والمعاملات الصحة حتى يقوم دليل على البطلان والتحريم . والفرق بينهما : أن الله سبحانه لا يعبد إلا بما شرعه على ألسنة رسله ؛ فإن العبادة حقه على عباده وحقه الذي أحقه هو ورضي به وشرعه . وأما العقود والشروط والمعاملات فهي عفو حتى يحرمها ، ولذا نعى الله سبحانه على المشركين مخالفة هذين الأصلين : وهو تحريم ما لم يحرمه ، والتقرب إليه بما لم يشرعه ، وهو سبحانه لو سكت عن إباحة ذلك وتحريمه لكان ذلك عفوا لا يجوز الحكم بتحريمه وإبطاله ؛ فإن الحلال ما أحل الله ، والحرام ما حرمه الله ، وما سكت عنه فهو عفو ، فكل شرط وعقد ومعاملة سكت عنها فإنه لا يجوز القول بتحريمها ؛ فإنه سكت عنها رحمة منه من غير نسيان وإهمال . فكيف وقد صرحت النصوص بأنها على الإباحة فيما عدا ما حرمه ؟ ! وقد أمر الله تعالى بالوفاء بالعقود والعهود كلها ، فقال : وأوفوا بالعهد [ 17 \ 34 ] وقال : ياأيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود [ 5 \ 1 ] وقال : والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون [ 23 \ 8 ] وقال تعالى : والموفون بعهدهم إذا عاهدوا [ 2 \ 177 ] وقال تعالى : ياأيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون [ 61 \ - 2 - 3 ] وقال : بلى من أوفى بعهده واتقى فإن الله يحب المتقين [ 3 \ 76 ] وقال : إن الله لا يحب الخائنين [ 8 \ 58 ] وهذا كثير في القرآن .

وفي صحيح مسلم من حديث الأعمش ، عن عبد الله بن مرة ، عن مسروق عن عبد الله بن عمرو ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " أربع ، من كن فيه كان منافقا خالصا ، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها : إذا حدث كذب ، وإذا عاهد غدر ، وإذا وعد أخلف ، وإذا خاصم فجر " . وفيه عن أبي هريرة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : " من علامات المنافق ثلاث : إذا حدث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا اؤتمن خان " .

وفي الصحيحين من حديث ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : " يرفع لكل غادر لواء يوم القيامة [ ص: 219 ] بقدر غدرته ، فيقال : هذه غدرة فلان بن فلان " وفيهما من حديث عقبة بن عامر ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : " إن أحق الشروط أن توفوا به ما استحللتم به الفروج " . وفي سنن أبي داود ، عن أبي رافع ، قال : بعثتني قريش إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلما رأيته ألقي في قلبي الإسلام ، فقلت : يا رسول الله ، والله إني لا أرجع إليهم أبدا . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إني لا أخيس بالعهد ، ولا أحبس البرد ، ولكن ارجع ، فإن كان في نفسك الذي في نفسك الآن فارجع " قال : فذهبت ثم أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - .

وفي صحيح مسلم ، عن حذيفة ، قال : ما منعني أن أشهد بدرا إلا أني خرجت أنا وأبي حسيل ، وقال : فأخذنا كفار قريش قالوا : إنكم تريدون محمدا ؟ فقلنا : ما نريده ، ما نريد إلا المدينة ، فأخذوا منا عهد الله وميثاقه لننصرفن إلى المدينة ولا نقاتل معه . فأتينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبرناه الخبر ، فقال : " انصرفا ، نفي لهم بعهدهم ، ونستعين الله عليهم " إلى آخر كلامه في هذا المبحث . والمقصود عنده دلالة النصوص على الوفاء بالعهود والشروط ، ومنع الإخلاف في ذلك ، إلا ما دل عليه دليل خاص ، وذلك واضح من النصوص التي ساقها كما ترى .

ثم بين أن المخالفين في ذلك يجيبون عن الحجج المذكورة تارة بنسخها ، وتارة بتخصيصها ببعض العهود والشروط ، وتارة بالقدح في سند ما يمكنهم القدح فيه ، وتارة بمعارضتها بنصوص أخر كقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : " ما بال أقوام يشترطون شروطا ليست في كتاب الله ، ما كان من شرط ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط ، كتاب الله أحق ، وشرط الله أوثق " . وكقوله - صلى الله عليه وسلم - : " من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد " .

وكقوله تعالى : ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون [ 2 \ 229 ] وأمثال ذلك في الكتاب والسنة . قال : وأجاب الجمهور عن ذلك بأن دعوى النسخ والتخصيص تحتاج إلى دليل يجب الرجوع إليه ، ولا دليل عليها ، وبأن القدح في بعضها لا يقدح في سائرها ، ولا يمنع من الاستشهاد بالضعيف وإن لم يكن عمدة لاعتضاده بالصحيح ، وبأنها لا تعارض بينها وبين ما عارضوها به من النصوص .

ثم بين أن معنى قوله - صلى الله عليه وسلم - : " وما كان من شرط ليس في كتاب الله " أي : في حكمه وشرعه ، كقوله تعالى : كتاب الله عليكم [ 4 \ 24 ] وقوله - صلى الله عليه وسلم - : " كتاب الله القصاص في كسر السن " . قال : فكتابه سبحانه يطلق على كلامه وعلى حكمه الذي حكم به على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - . ومعلوم أن كل شرط ليس في حكم الله فهو مخالف له ، فيكون [ ص: 220 ] باطلا . فإذا كان الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - حكم بأن الولاء للمعتق ، فشرط خلاف ذلك يكون شرطا مخالفا لحكم الله . ولكن أين في هذا أن ما سكت عن تحريمه من العقود والشروط يكون باطلا حراما ، وتعدي حدود الله هو تحريم ما أحله ، أو إباحة ما حرمه ، أو إسقاط ما أوجبه ، لا إباحة ما سكت عنه ، وعفا عنه ، بل تحريمه هو نفس تعدي حدوده . إلى آخر كلامه .

ثم بين أن دلالة النصوص عامة في جميع الأحكام ، إلا أن الناس يتفاوتون في ذلك تفاوتا كثيرا . وبين مسائل كثيرة مما فهم فيه بعض الصحابة من النصوص خلاف المراد .

قال : وقد أنكر النبي - صلى الله عليه وسلم - على عمر فهمه إتيان البيت الحرام عام الحديبية من إطلاق قوله : " فإنك آتيه ومطوف به " فإنه لا دلالة في هذا اللفظ على تعيين العام الذي يأتونه فيه .

وأنكر على عدي بن حاتم فهمه من الخيط الأبيض والخيط الأسود نفس العقالين .

وأنكر على من فهم من قوله : " لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال حبة خردلة من كبر " شمول لفظه لحسن الثوب وحسن النعل ، وأخبرهم أنه " بطر الحق وغمط الناس " . وأنكر على من فهم من قوله : " من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه " أنه كراهة الموت ، وأخبرهم أن هذا للكافر إذا احتضر وبشر بالعذاب فإنه حينئذ يكره لقاء الله ، والله يكره لقاءه . وأن المؤمن إذا احتضر وبشر بكرامة الله أحب لقاء الله وأحب الله لقاءه .

وأنكر على عائشة إذ فهمت من قوله تعالى : فسوف يحاسب حسابا يسيرا [ 84 \ 8 ] معارضته لقوله - صلى الله عليه وسلم - : " من نوقش الحساب عذب " . وبين لها أن الحساب اليسير هو العرض ، أي : حساب العرض لا حساب المناقشة .

وأنكر على من فهم من قوله تعالى : من يعمل سوءا يجز به [ 4 \ 123 ] أن هذا الجزاء إنما هو في الآخرة ، وأنه لا يسلم أحد من عمل السوء . وبين أن هذا الجزاء قد يكون في الدنيا بالهم ، والحزن ، والمرض ، والنصب ، وغير ذلك من مصائبها ، وليس في اللفظ تقييد الجزاء بيوم القيامة .

وأنكر على من فهم من قوله تعالى : الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون [ 6 \ 82 ] أنه ظلم النفس بالمعاصي ، وبين أنه الشرك ، وذكر [ ص: 221 ] قول لقمان لابنه : إن الشرك لظلم عظيم [ 31 \ 13 ] وأوضح وجه ذلك بسياق القرآن .

قال : ثم سأله عمر بن الخطاب عن الكلالة وراجعه فيها مرارا ، فقال : " يكفيك آية الصيف " واعترف عمر - رضي الله عنه - بأنه خفي عليه فهمها ، وفهمها الصديق .

وقد نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن لحوم الحمر الأهلية ، ففهم بعض الصحابة من نهيه أنه لكونها لم تخمس . وفهم بعضهم أن النهي لكونها كانت حمولة القوم وظهرهم . وفهم بعضهم أنه لكونها كانت جوال القرية . وفهم علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - وكبار الصحابة ما قصده رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالنهي وصرح بعلته لكونها رجسا .

وفهمت المرأة من قوله تعالى : وآتيتم إحداهن قنطارا [ 4 \ 20 ] جواز المغالاة في الصداق ، فذكرته لعمر فاعترف به .

وفهم ابن عباس من قوله تعالى : وحمله وفصاله ثلاثون شهرا [ 46 \ 15 ] مع قوله : والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين [ 2 \ 233 ] أن المرأة قد تلد لستة أشهر ، ولم يفهمه عثمان ، فهم برجم امرأة ولدت لها ، حتى ذكره ابن عباس فأقر به .

ولم يفهم عمر من قوله : " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا : لا إله إلا الله ، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقهم " قتال مانعي الزكاة ، حتى بين له الصديق فأقر به .

وفهم قدامة بن مظعون من قوله تعالى : ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا [ 5 \ 93 ] رفع الجناح عن الخمر ، حتى بين له عمر أنه لا يتناول الخمر ، ولو تأمل سياق الآية لفهم المراد منها ، فإنه إنما رفع الجناح عنهم فيما طعموه متقين له فيه ، وذلك إنما يكون باجتناب ما حرمه من المطاعم . فالآية لا تتناول المحرم بوجه .

وقد فهم من فهم من قوله تعالى : ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة [ 2 \ 195 ] انغماس الرجل في العدو ، حتى بين له أبو أيوب الأنصاري أن هذا ليس من الإلقاء بيده إلى التهلكة ، بل هو من بيع الرجل نفسه ابتغاء مرضاة الله ، وأن الإلقاء بيده إلى التهلكة هو ترك الجهاد والإقبال على الدنيا وعمارتها .

وقال الصديق - رضي الله عنه - : أيها الناس ، إنكم تقرءون هذه الآية وتضعونها على [ ص: 222 ] غير مواضعها : ياأيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم [ 5 \ 105 ] وإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك أن يعمهم الله بالعقاب من عنده " فأخبرهم أنهم يضعونها على غير مواضعها في فهمهم منها خلاف ما أريد بها .

وأشكل على ابن عباس أمر الفرقة الساكتة التي لم ترتكب ما نهيت عنه من اليهود ، هل عذبوا أو نجوا حتى بين له مولاه عكرمة دخولهم في الناجين دون المعذبين ، وهذا هو الحق ؛ لأنه سبحانه قال عن الساكتين : وإذ قالت أمة منهم لم تعظون قوما الله مهلكهم أو معذبهم عذابا شديدا [ 7 \ 164 ] فأخبر أنهم أنكروا فعلهم وغضبوا عليهم ، وإن لم يواجهوهم بالنهي ، فقد واجههم به من أدى الواجب عنهم ، فإن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض كفاية ، فلما قام به أولئك سقط عن الباقين فلم يكونوا ظالمين بسكوتهم .

وأيضا فإنه سبحانه إنما عذب الذين نسوا ما ذكروا به ، وعتوا عما نهوا عنه ، وهذا لا يتناول الساكتين قطعا ، فلما بين عكرمة لابن عباس أنهم لم يدخلوا في الظالمين المعذبين كساه برده وفرح به .

وقد قال عمر بن الخطاب للصحابة : ما تقولون في إذا جاء نصر الله والفتح [ 110 \ 1 ] السورة ؟ قالوا : أمر الله نبيه إذا فتح عليه أن يستغفر . فقال لابن عباس : ما تقول أنت ؟ قال : هو أجل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أعلمه إياه . فقال : ما أعلم منها غير ما تعلم .

إلى أن قال : والمقصود تفاوت الناس في مراتب الفهم في النصوص ، وأن منهم من يفهم في الآية حكما أو حكمين ، ومنهم من يفهم منها عشرة أحكام أو أكثر من ذلك ، ومنهم من يقتصر في الفهم على مجرد اللفظ دون سياقه ودون إيمائه وإشارته وتنبيهه واعتباره . وأخص من هذا وألطف ضمه إلى نص آخر متعلق به ، فيفهم من اقترانه به قدرا زائدا على ذلك اللفظ بمفرده .

وهذا باب عجيب من فهم القرآن ، لا يتنبه له إلا النادر من أهل العلم ، فإن الذهن قد لا يشعر بارتباط هذا بهذا وتعلقه به ، كما فهم ابن عباس من قوله تعالى : وحمله وفصاله ثلاثون شهرا [ 46 \ 15 ] مع قوله : والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين [ 2 \ 233 ] أن المرأة قد تلد لستة أشهر . . إلى آخر كلامه .

وإنما أكثرنا في هذه المباحث من نقل كلام ابن القيم كما رأيت ؛ لأنه جاء فيها بما [ ص: 223 ] لم يأت به من تقدمه ولا من تأخر . وقد تركنا كثيرا من نفائس كلامه في هذه المواضيع خشية الإطالة الكثيرة .

التالي السابق


الخدمات العلمية