صفحة جزء
وأما الاستطاعة : فقد نص تعالى على اشتراطها في قوله : ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا [ 3 \ 97 ] ، ومعنى الاستطاعة في اللغة العربية معروف ، وتفسير الاستطاعة في الآية اختلف فيه العلماء .

فالاستطاعة في مشهور مذهب مالك الذي به الفتوى : هي إمكان الوصول بلا مشقة عظيمة زائدة على مشقة السفر العادية مع الأمن على النفس والمال ، ولا يشترط عندهم الزاد والراحلة ، بل يجب الحج عندهم على القادر على المشي ، إن كانت له صنعة يحصل منها قوته في الطريق ؛ كالجمال ، والخراز ، والنجار ، ومن أشبههم .

وقال الشيخ الحطاب في كلامه على قول خليل في مختصره : ووجب باستطاعة بإمكان الوصول بلا مشقة عظمت ، وأمن على نفس ومال ما نصه : وقال مالك في كتاب محمد ، وفي سماع أشهب لما سئل عن قوله تعالى : من استطاع إليه سبيلا [ 3 \ 97 ] أذلك الزاد والراحلة ؟ قال : لا والله ، ما ذلك إلا طاقة الناس ، الرجل يجد [ ص: 306 ] الزاد والراحلة ، ولا يقدر على المسير ، وآخر يقدر أن يمشي على رجليه ، ولا صفة في هذا أبين مما قال الله تعالى : من استطاع إليه سبيلا [ 3 \ 97 ] ، وزاد في كتاب محمد : ورب صغير أجلد من كبير ، ونقل في المقدمات كلام مالك ثم قال بعده : فمن قدر على الوصول إلى مكة ، إما راجلا بغير كبير مشقة ، أو راكبا بشراء أو كراء ، فقد وجب عليه الحج ، ونقله في التوضيح . انتهى من الحطاب .

واعلم أن بعض المالكية يشترطون في الصنعة المذكورة ألا تكون مزرية به .

واعلم أن المالكية اختلفوا في الفقير الذي عادته سؤال الناس في بلده ، وعادة الناس إعطاؤه ، وذلك السؤال هو الذي منه عيشته ، إذا علم أنه إن خرج حاجا وسأل ، أعطاه الناس ما يعيش به كما كانوا يعطونه في بلده ، هل سؤاله الناس وإعطاؤهم إياه يكون بسببه مستطيعا لقدرته على الزاد بذلك ، فيجب عليه الحج بذلك ، أو لا يجب عليه بذلك ؟

فذهب بعضهم إلى أن ذلك لا يجب عليه به الحج ، ولا يعد استطاعة ، وبهذا القول جزم خليل بن إسحاق رحمه الله في مختصره الذي قال في ترجمته مبينا لما به الفتوى ، وذلك في قوله فيما لا تحصل به الاستطاعة : لا بدين أو عطية أو سؤال مطلقا .

ومعنى كلامه أن من لم يمكنه الوصول إلى مكة إلا بتحمل دين في ذلك ، أو قبول عطية ممن أعطاه مالا أو سؤال الناس مطلقا ، أنه لا يعد بذلك مستطيعا ، ولا يجب عليه الحج ، وقوله : أو سؤال مطلقا يعني بالإطلاق ، سواء كان السؤال عادته في بلده أو لا ، وسواء كانت عادة الناس إعطاءه أو لا ، أما إذا كانت عادة الناس عدم إعطائه ، فالحج حرام عليه ; لأنه إلقاء باليد إلى التهلكة ، سواء كان السؤال عادته في بلده أو لا ، وأما إن كانت عادة الناس إعطاءه ، ولم يكن السؤال عادته في بلده ، فلا خلاف في أنه لا يعد مستطيعا ولا يجب عليه الحج ، وأما إن كانت عادته السؤال في بلده ، ومنه عيشته ، وعادة الناس إعطاؤه ، فهو محل الخلاف ، وقد ذكرنا آنفا قول خليل في مختصره أنه لا يجب عليه الحج ، ولا يعد مستطيعا بسؤال الناس ، وذلك في قوله : أو بسؤال مطلقا ، وقال الشيخ المواق في شرحه لقول خليل : وسؤال مطلقا ، وقال خليل في منسكه : وظاهر المذهب أنه لا يجب على من عادته السؤال ، إذا كانت العادة إعطاءه ، ويكره له المسير ، فإن لم تكن عادته السؤال ، أو لم تكن العادة إعطاءه سقط الحج بالاتفاق ، وقال الشيخ الحطاب في كلامه على قول خليل : أو سؤال مطلقا ما نصه : وأما الصورة الرابعة : وهي ما إذا كانت عادته في بلده السؤال ، ومنه عيشه ، والعادة إعطاؤه ، فقال المصنف في توضيحه ومنسكه : إن [ ص: 307 ] ظاهر المذهب أنه لا يجب عليه الحج ، ويكره له الخروج ، وجزم به هنا ، وقال في الشامل : إنه المشهور ، وأقر في شروحه كلام المؤلف على إطلاقه ، وكذلك البساطي والشيخ زروق ، ولم ينبه عليه ابن غازي . انتهى محل الغرض منه . وقال الحطاب أيضا : وذكر ابن الحاجب القولين من غير ترجيح ، وقبلهما ابن عبد السلام ، والمصنف في التوضيح وابن فرجون ، وصاحب الشامل ، ومن بعدهم ، ورجحوا القول بالسقوط ، وصرح بعضهم بتشهيره ، وكذلك شراح المختصر . اهـ محل الغرض منه .

ومعنى قوله : ورجحوا القول بالسقوط ، يعني : سقوط وجوب الحج عمن عادته السؤال والإعطاء .

القول الثاني من قولي المالكية : أن الفقير الذي عادته السؤال في بلده وعادة الناس إعطاؤه ، إذا كانت عادتهم إعطاءه في سفر الحج كما كانوا يعطونه في بلده ، أنه يعد بذلك مستطيعا ، وأن تحصيله زاده بذلك السؤال يعد استطاعة ، وعلى هذا القول أكثر المالكية .

وقال الحطاب في كلامه على قول خليل في مختصره : أو سؤال مطلقا ، بعد أن ذكر القول بأن ذلك السؤال والإعطاء لا يعد استطاعة ، ولا يجب به الحج ، بل يكره الخروج في تلك الحال ، ما نصه :

قلت : ونصوص أهل المذهب التي وقفت عليها مصرحة بخلاف ذلك ، وأن الحج واجب على من عادته السؤال ، إذا كانت العادة إعطاءه ، ثم سرد كثيرا من نقول علماء المالكية مصرحة بوجوب الحج عليه ، وأهل هذا القول من علماء المالكية ، وهم الأكثرون ، وجهوه بأنه محمول على الفقير الذي يباح له السؤال لعدم قدرته على كسب ما يعيش به ، وأن ذلك السؤال لما كان جائزا له ، وصار عيشه منه في الحضر ، فهو بذلك السؤال والإعطاء قادر على الوصول إلى مكة . قالوا : ومن قدر على ذلك بوجه جائز لزمه الحج .

قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : الذي يظهر لي رجحانه بالدليل من قولي المالكية في هذه المسألة : هو القول الأول ؛ وهو أن الحج لا يجب على من يعيش في طريقه بتكفف الناس ، وأن سؤال الناس لا يعد استطاعة .

ومن الأدلة الدالة على ذلك عموم قوله جل وعلا : ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج الآية [ 9 \ 91 ] ، وقد قدمنا في هذا الكتاب المبارك مرارا أن العبرة بعموم [ ص: 308 ] الألفاظ ، لا بخصوص الأسباب ، وبينا أدلة ذلك من السنة الصحيحة ، فقد صرح تعالى في هذه الآية الكريمة برفع الحرج عن الذين لا يجدون ما ينفقون . ولا شك أن الذي يتكفف الناس لشدة فقره داخل في عموم الذين لا يجدون ما ينفقون ، وقد صرح تعالى بنفي الحرج عنهم ، فيلزم من ذلك نفي الحرج عنه في وجوب الحج ، وهو واضح ، وقد استدل الشيخ ابن القاسم رحمه الله بهذه الآية المذكورة على ما ذكرنا .

ولكن كثيرا من متأخري علماء المالكية حملوا قول ابن القاسم الذي احتج عليه بالآية المذكورة ، على من ليس عادته السؤال في بلده ، قالوا : فلم يتناول قوله محل النزاع .

قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : ظاهر الآية الكريمة العموم في جميع الذين لا يجدون ما ينفقون ، فتخصيصها بمن ليس عادته السؤال بدون دليل من كتاب أو سنة ، لا يصح ولا يعول عليه . وقد تقرر في الأصول أنه لا يمكن تخصيص العام إلا بدليل يجب الرجوع إليه ، سواء كان من المخصصات المتصلة ، أو المنفصلة .

ومما يؤيد هذا في الجملة ما ثبت في صحيح البخاري : حدثنا يحيى بن بشر ، حدثنا شبابة ، عن ورقاء ، عن عمرو بن دينار ، عن عكرمة ، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : كان أهل اليمن يحجون ، ولا يتزودون ، ويقولون : نحن المتوكلون ، فإذا قدموا المدينة سألوا الناس ، فأنزل الله تعالى : وتزودوا فإن خير الزاد التقوى [ 2 \ 197 ] ورواه ابن عيينة ، عن عكرمة مرسلا . انتهى من صحيح البخاري .

وقال ابن حجر في الفتح في الكلام على هذا الحديث : قال المهلب : في هذا الحديث من الفقه أن ترك السؤال من التقوى ، ويؤيده أن الله مدح من لم يسأل الناس إلحافا ، فإن قوله : فإن خير الزاد التقوى [ 2 \ 197 ] ؛ أي : تزودوا ، واتقوا أذى الناس بسؤالكم إياهم والإثم في ذلك . انتهى محل الغرض منه .

وفيه دليل ظاهر على حرمة خروج الإنسان حاجا بلا زاد ليسأل الناس ، وظاهرها العموم في كل حاج يسأل الناس ، فقيرا كان أو غنيا ، كانت عادته السؤال في بلده أو لا ، وحمل النصوص على ظواهرها واجب إلا بدليل يجب الرجوع إليه ، ومما يؤيد هذا أن الذين مدحهم الله في كتابه ، بتركهم سؤال الناس ، كانوا من أفقر الفقراء كما هو معلوم ، وقد صرح تعالى بأنهم فقراء ، وأشار لشدة فقرهم ، وذلك في قوله تعالى : للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله لا يستطيعون ضربا في الأرض يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف تعرفهم بسيماهم لا يسألون الناس إلحافا [ ص: 309 ] الآية [ 2 \ 273 ] فصرح بأنهم فقراء ، وأثنى عليهم بالتعفف وعدم السؤال .

ووجه إشارة الآية إلى شدة فقرهم هو ما فسرها به بعض أهل العلم من أن معنى قوله : تعرفهم بسيماهم [ 2 \ 273 ] ؛ أي : بظهور آثار الفقر والحاجة عليهم .

وقال ابن جرير في تفسيره ، بعد أن ذكر القول بأن المراد بسيماهم : علامة فقرهم من ظهور آثار الجوع ، والفاقة عليهم ، والقول الآخر : أن المراد بسيماهم : علامتهم التي هي التخشع والتواضع ، ما نصه .

وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال : إن الله عز وجل أخبر نبيه صلى الله عليه وسلم أنه يعرفهم بعلاماتهم وآثار الحاجة فيهم . انتهى محل الغرض منه .

وقال صاحب الدر المنثور في التفسير بالمأثور : وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم ، عن الربيع : تعرفهم بسيماهم [ 2 \ 273 ] يقول : تعرف في وجوههم الجهد من الحاجة . وأخرج ابن جرير ، عن ابن زيد : تعرفهم بسيماهم قال : رثاثة ثيابهم . انتهى . ومثل هذا كثير في كلام المفسرين .

فالآية الكريمة : تدل بمنطوقها على الثناء على الفقير الصابر المتعفف عن مسألة الناس ، وتدل بمفهومها على ذم سؤال الناس ، والأحاديث الواردة في ذم السؤال مطلقا كثيرة جدا . وبذلك كله تعلم أن سؤال الناس ليس استطاعة على ركن من أركان الإسلام ، وأن قول بعض المالكية : إنه لا يعد استطاعة ، هو الصواب وهو قول جمهور أهل العلم . وممن ذهب إليه : الشافعي وأحمد وأبو حنيفة ، ونقله ابن المنذر عن الحسن البصري ومجاهد ، وسعيد بن جبير وأحمد ، وإسحاق . وبه قال بعض أصحاب مالك . قال البغوي : وهو قول العلماء ا هـ .

قاله النووي .

والاستطاعة عند أبي حنيفة : الزاد والراحلة . فلو كان يقدر على المشي وعادته سؤال الناس ، لم يجب عليه الحج عنده كما قدمناه قريبا .

والاستطاعة في مذهب الشافعي : الزاد والراحلة ، بشرط أن يجدهما بثمن المثل ، فإن لم يجدهما إلا بأكثر من المثل سقط عنه وجوب الحج . ويشترط عند الشافعية أيضا : وجود الماء في أماكن النزول ، وهذا شرط لا ينبغي أن يختلف فيه ; لأنه إن لم يجد الماء [ ص: 310 ] هلك ، ويشترط عند الشافعية أيضا : أن يكون صحيحا لا مريضا ، ولا ينبغي أن يختلف في أن المرض القوي الذي يشق معه السفر مشقة فادحة مسقط لوجوب الحج .

ويشترط عند الشافعي أيضا : أن يكون الطريق آمنا من غير خفارة . والخفارة مثلثة الخاء : هي المال الذي يؤخذ على الحاج . ويشترط عند الشافعي أيضا : أن يكون عليه من الوقت ما يتمكن فيه من السير والأداء . وهذه الشروط في المستطيع بنفسه لا فيما يسمونه المستطيع بغيره ، فإن كان بينه وبين مكة مسافة تقصر فيها الصلاة ، وكان قادرا على المشي على رجليه ، ولم يجد راحلة ، أو وجدها بأكثر من ثمن المثل ، أو أجرة المثل ، لم يجب عليه الحج عندهم ، ولا تعد قدرته على المشي استطاعة عندهم ، لحديث الزاد والراحلة في تفسير الاستطاعة ، وإن لم يجد ما يصرفه في الزاد والماء ، ولكنه كسوب ذو صنعة يكتسب بصنعته ما يكفيه ، ففي ذلك عند الشافعي تفصيل حكاه إمام الحرمين عن العراقيين من الشافعية ، وهو : أنه إن كان لا يكتسب في اليوم إلا كفاية يوم واحد ، لم يجب عليه الحج ; لأنه ينقطع عن الكسب في أيام الحج ، وإن كان يكتسب في اليوم كفاية أيام لزمه الحج . قال الإمام : وفيه احتمال ، فإن القدرة على الكسب يوم العيد لا تجعل كملك الصاع في وجوب الفطرة ، هكذا ذكره الإمام وحكاه الرافعي وسكت عليه ، انتهى من النووي ، ومراده بالإمام : إمام الحرمين .

وقوله : وفيه احتمال ، يعني أنه يحتمل عدم وجوب الحج بذلك مطلقا .

قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : وهذا الذي ذكره مبني على القاعدة المعروفة المختلف فيها ، وهي هل القدرة على التحصيل بمنزلة التحصيل أو لا ، والأظهر أن القدرة على التحصيل بمنزلة التحصيل بالفعل . والعلم عند الله تعالى .

والاستطاعة عند أحمد وأصحابه : هي الزاد والراحلة . قال ابن قدامة في المغني : والاستطاعة المشترطة : ملك الزاد والراحلة ، وبه قال الحسن ، ومجاهد ، وسعيد بن جبير ، والشافعي ، وإسحاق . قال الترمذي : والعمل عليه عند أهل العلم . وقال عكرمة : هي الصحة . انتهى محل الغرض منه .

التالي السابق


الخدمات العلمية